[التوحيد(الجعفي)]
التوحيد
المفضل بن عمر الجعفي
---التوحيد ¶ المفضل بن عمر الجعفي ¶ ---
توحيد المفضل
--- [ 3 ]
صفحة ١
توحيد المفضل
املاء الإمام ابى عبد الله الصادق عليه السلام على المفضل بن عمر الجعفي
علق عليه كاظم المظفر
مؤسسة الوفاء بيروت - لبنان
--- [ 4 ]
صفحة ٣
كافة الحقوق محفوظة ومسجلة الطبعة الثانية 1404 ه 1984 م مؤسسة الوفاء المكتب: بئر العبد - مقابل مدرسة قصر الثقافة - بناية كتاب وبرجاوي المستودع: المريجة. شارع البلدية - ملك دياب هاتف: 386868 ص ب: 1457 - بيروت.
--- [ 5 ]
صفحة ٤
بسم الله الرحمن الرحيم (كلام ابن العوجاء مع صاحبه) * روى محمد بن سنان (1) قال حدثني المفضل بن عمر (2) قال كنت ذات بعد العصر جالسا في الروضه بين القبر والمنبر وانا مفكر فيما خص الله تعالى به سيدنا محمدا صلى الله عليه وعلى آله، من الشرف والفضائل وما منحه واعطاه وشرفه وحباه مما يعرفه الجمهور من الامه وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته وخطير مرتبته فانى لكذلك إذ اقبل ابن أبي العوجاء " (3)
---
1 - هو أبو جعفر الزاهري لا ذكر الكشي في شأنه ما يدل على مدح عظيم وعلى قدح أيضا، وذكر انه روى عنه جماعة من العدو والثقاة من أهل العلم والانصاف، وجميع الروايات المجرحة له واهية ساقطة، فقد اشار الكثير إلى قوته والذب عنه، وتفنيد ما قيل فيه من الضعف. وان اجتماع الاعيان على الرواية عنه ادل شئ على كمال قوته عده الشيخ المفيد من خاصة الإمام الكاظم وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته كما عده الشيخ في الغيبة من الوكلاء المرضيين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، بل مضوا على منهاج الأئمة، وفي الخلافة كان مكفوف البصر أعمى توفي عام 220 ه. 2 - مضت ترجمة المفضل بصورة مفصلة في المقدمة. 3 - هو عبد الكريم بن أبي العوجاء ربيب حماد بن سلمة على ما يقول ابن الجوزي ومن تلامذة الحسن البصري، وذكر البغدادي إنه كان مانويا يؤمن بالتناسخ ويميل إلى مذهب الرافضة (!) ويقول بالقدر، ويتخذ من شرح سيرة ماني وسيلة للدعوة، وتشكيك الناس في عقائدهم، =
--- [ 6 ]
صفحة ٥
فجلس بحيث اسمع كلامه فلما استقر به المجلس إذ من اصحابه قد جاء فجلس إليه فتكلم ابن أبي العوجاء فقال لقد بلغ صاحب هذا القبر العز بكماله وحاز الشرف بجميع خصاله ونال الحظوه في كل احواله فقال له صاحبه انه كان فيلسوفا ادعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى وأتى على ذلك بمعجزات بهرت العقول وضلت فيها الاحلام وغاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر فرجعت خاسئات وهي حسر فلما استجاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء دخل الناس في دينه أفواجا فقرن اسمه باسم ناموسه فصار يهتف به على رؤوس الصوامع في جميع البلدان والمواضع التي انتهت إليها دعوته وعلتها كلمته وظهرت فيها حجته برا وبحرا سهلا وجبلا في كل يوم وليله خمس مرات مرددا في الاذان والاقامه ليتجدد في كل ساعه ذكره ولئلا يخمل امره فقال ابن أبي العوجاء دع ذكر محمد (صلى الله عليه وعلى آله) فقد تحير فيه عقلي وضل في أمره فكرى وحدثنا في الاصل الذي نمشي له ثم ذكر إبتداء الأشياء وزعم ذلك باهمال لا صنعة فيه ولا تقدير ولا صانع ولا مدبر بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبر وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال !
---
= ويتحدث في التعديل والتجوير على ما يذكر البيروني. ومن هنا يتبين ان ابن أبي العوجاء هذا كان زنديقا مشهورا بذلك. وله مواقف حماسة مع الإمام الصادق، أفحمه الإمام في كل مرة منها، سجنه والي الكوفة محمد بن سليمان ثم قتله في أيام المنصور عام 155 ه، وقيل عام 160 ه في أيام المهدي تجد ذكره في تاريخ الطبري ج 3 ص 375 ط ليدن، وفهرست ابن النديم ص 338، والفرق بين الفرق ص 255 ط محمد بدر، ودائرة المعارف الاسلامية مج 1 ص 81، واحتجاج الطبرسي ص 182 و183 ط النجف، وما للهند من مقولة ص 123. 1 - الناموس: الشريعة.
--- [ 7 ]
صفحة ٦
محاوره المفضل مع أبي العوجاء (قال المفضل) فلم املك نفسي غضبا وغيظا وحنقا فقلت يا عدو الله الحدت في دين وانكرت الباري جل قدسه الذي خلقك في احسن تقويم وصورك في اتم صوره ونقلك في احوالك حتى بلغ حيث انتهيت. فلو تفكرت في نفسك وصدقك (1) لطيف حسك لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة وشواهده جل وتقدس في خلقك واضحة وبراهينه لك لائحة فقال يا هذا ان من أهل الكلام كلمناك فإن ثبتت لك حجة تبعناك وان لم تكن منهم فلا كلام لك وان كنت من اصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا ولا بمثل دليلك تجادل فينا ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما أفحش خطابنا ولا تعدى في جوابنا وانه الحليم الرزين العاقل الرصين لا يعتريه خرق (2)، ولا طيش ولا نزق (3) يسمع كلامنا ويصغى الينا ويتعرف حجتنا حتى إذا استفرغنا (4) ما عندنا وظنننا قطعناه دحض حجتنا بكلام يسير، وخطاب قصير يلزمنا الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه ردا فإن من اصحابه فخاطبنا بمثل خطابه. سبب إملاء الكتاب المفضل قال المفضل: فخرجت من المسجد محزونا مفكرا فيما بلى به الاسلام
---
(1) صدقك: أي قال لك صدقا. (2) الخرق: ضعف الرأي وسوء الصرف والحمق. (3) النزق: هو الطيش والخفة عند الغضب. (4) لعله من الافراغ بمعنى الصب. يقال: استفرغ مجهوده، أي بذل طاقته.
--- [ 8 ]
صفحة ٧
وأهله من كفر هذه العصابه وتعطيلها (1) فدخلت على مولاى (عليه السلام) فرأني منكسرا فقال لك ؟ فأخبرته بما سمعت من الدهريين (2) وبما رددت عليهما فقال يا مفضل لألقين عليك من حكمه الباري وعلا وتقدس اسمه في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوام وكل ذى روح من الأنعام والنبات والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر والحبوب والبقول المأكول من ذلك وغير المأكول ما يعتبر به المعتبرون ويسكن إلى معرفته المؤمنون ويتحير فيه الملحدون فبكر علي غدا.
---
(1) التعطيل: مصدر، وفي الاصطلاح الديني هو انكار صفات الخالق الباري، والمعطلة: هم أصحاب مذهب التعطيل. (2) واحده الدهري، وهو الملحد الذي يزعم بأن العالم موجود أزلا وأبدا. (3) العطف التشريكي هنا يكشف عن رأي الامام الصادق في النبات وإن له روحا، وبعبارة أخرى أن لديه حسا وحركة، ولم تكتشف هذه النظرية العلمية إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وأول من قال بأن في النبات حسا تشله السموم وتميته الكهربية هو (بيشا) العالم الفسيولوجي الفرنسي المتوفي عام 1802 م (عجائب الخلق لزيدان ص 193) وقد ثبتت هذه النظرية بوجود بعض الأزهار المتفتحة نهارا والمقفلة ليلا (ص 625 من كتاب التأريخ الطبيعي) وقام عالم هندي هو (السرجفادس بوز) بوضع آلة دقيقة تظهر بها حركات النبات، وما يتأثر به من المؤثرات الخارجية، كالمنبهات والمخدرات، وانشأ هذا العالم معهدا كبيرا في (كلكتا) لدرس حركات النبات، وانفعاله بالحر والبرد والظلمة والنور - فصول في التاريخ الطبيعي للدكتور يعقوب صروف ص 49 - وقد أصبح من المشهور وجود بعض نباتات تفترس بعض الحشرات والحيوانات الصغيرة، وتوجد أيضا ازهار تضحك وأخرى تبكي - ص 1020 من السنة السادسة والثلاثين لمجلة الهلاك - وأمثلة ذلك النبتة المستحية وندى الشمس وأعجوبة القدر والأباريق ومصيدة الذباب واللقاح وغير هذه. وفي مقدمات كتابنا (في دنيا النبات) وضعنا فصلا طريفا عن طبائع النبات وحركاته، ومنه اقتبسنا هذه الكلمات.
--- [ 9 ]
صفحة ٨
* (المجلس الأول) * " قال المفضل " فانصرفت عنده فرحا مسرورا وطالت علي تلك الليلة انتظارا وعدني به فلما أصبحت غدوت فاستؤذن لي فدخلت وقمت بين يديه فأمرني بالجلوس فجلست ثم نهض إلى حجرة كان يخلو فيها ونهضت بنهوضه فقال اتبعنى فتبعته فدخل ودخلت خلفه فجلس وجلست بين يديه فقال: يا مفضل كأني بك وقد طالت عليك هذه الليلة انتظارا لما وعدتك فقلت: أجل يا مولاي فقال يا مفضل ان الله تعالى كان ولا شئ قبله وهو باق ونهاية له فله الحمد على ما ألهمنا، والشكر على منحنا فقد خصنا من العلوم باعلاها ومن المعالي بأسناها واصطفانا على جميع الخلق بعلمه وجعلنا مهيمنين (1)، عليهم بحكمه، فقلت يا مولاي أتأذن لي ان اكتب ما تشرحه وكنت اعددت معى ما اكتب فيه فقال لي افعل مفضل. (جهل الشكاك بأسباب الخلقة ومعانيها) ان الشكاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة وقصرت افهامهم عن
---
(1) جمع مهيمن، وهو الامين والمؤتمن والشاهد.
--- [ 10 ]
صفحة ٩
تأمل الصواب والحكمة فيما ذرأ (1) الباري جل قدسه وبرأ (2) من صنوف خلقه في البر والبحر والسهل والوعر فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود حتى انكروا خلق الاشياء وادعوا تكونها بالإهمال لا صنعه فيها ولا تقدير ولا حكمة من مدبر ولا صانع تعالى الله عما يصفون وقاتلهم انى يؤفكون (3) فهم في ضلالهم وغيهم وتجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء وأحسنه وفرشت بأحسن الفرش وافخره وأعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب التي يحتاج إليها ولا يستغني عنها ووضع كل شئ من ذلك موضعه على صواب من التقدير وحكمة من التدبير فجعلوا يترددون فيها يمينا وشمالا ويطوفون بيوتها ادبارا واقبالا محجوبة أبصارهم عنها لا يبصرون بنية الدار وما أعد فيها وربما عثر بعضهم بالشئ الذي وضع موضعه وأعد للحاجة إليه وهو جاهل للمعنى ولما اعد ولماذا جعل كذلك ؟ فتذمر وتسخط وذم الدار وبانيها فهذه حال هذا الصنف في انكارهم ما انكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة فإنهم لما غربت (4) اذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارى فلا يفهمون ما هو عليه من اتقان خلقته وحسن صنعته وصواب هيئته. وربما وقف بعضهم على الشئ يجهل سببه والأرب (5) فيسرع إلى ذمه ووصفه بالاحالة والخطأ كالذي أقدمت عليه المنانية (6) الكفرة وجاهرت به
---
(1) ذرأ الله الخلق: خلقهم. (2) برأه: خلقه من العدم. (3) أي ينصرفون عن الحق. (4) أي غابت. (5) الأرب: بالفتح - المهارة أو الحاجة. (6) أو المانوية: هم أصحاب الحكيم الفارسي ماني بن فاتك الذي ظهر في أيام سابور =
--- [ 11 ]
صفحة ١٠
الملحدة المارقة الفجرة وأشباههم من أهل الضلال المعللين أنفسهم بالمحال (1) فيحق على من أنعم الله عليه بمعرفته وهداه لدينه ووفقه لتأمل التدبير في صنعة الخلائق والوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير وصواب التقدير بالدلالة القائمة الدالة صانعها ان يكثر حمد الله مولاه على ذلك ويرغب إليه في الثبات عليه والزيادة منه فإنه جل اسمه * (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) * (2). (تهيئة العالم وتأليف أجزائه) يا مفضل أول العبر والدلالة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها (3) على ما هي عليه فإنك إذا تأملت العالم بفكرك
---
= (ثاني ملوك الدولة الساسانية) ومذهبه مزيج من المجوسية والنصرانية، وقد تبعه في معتقده خلق كثير، وبقي قسم كبير منهم في الدور العباسي الأول ثم تسربت آراؤه الى اوروبا وبقية الاقطار الآسيوية. وماني هذا كان راهبا بحران ولد حوالي عام 215 م وقتله بعدئذ بهرام بن هرمز. انظر في ذلك الملل والنحل للشهرستاني ج 2 ص 81 ومروج الذهب ج 1 ص 155، والفهرست ص 456، ومعرب الشاهنامة ج 2 ص 71 والفرق بين الفرق ص 162 و207، والآثار الباقية للبيروني ص 207، وتاريخ الفكر العربي لاسماعيل مظهر ص 39، وحرية الفكر لسلامة موسى ص 55. (1) أي الشاغلين أنفسهم عن طاعة ربهم بأمور يحكم العقل السليم باستحالتها. (2) سورة ابراهيم آية 7. (3) الضمير راجع إلى الأجزاء.
--- [ 12 ]
صفحة ١١
وخبرته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم مضيئة (1) كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر وكل شئ فيها لشأنه معد والانسان كالمالك ذلك البيت والمخول (2) جميع ما فيه وضروب النبات مهيأة لمأربه وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ففى هذا دلالة واضحة على ان العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة وان الخالق له واحد وهو الذي ألفه ونظمه بعضا الى بعض جل قدسه وتعالى جده وكرم وجهه ولا اله غيره تعالى عما يقول الجاحدون وجل وعظم عما ينتحله الملحدون (خلق الإنسان وتدبير الجنين في الرحم) نبدأ يا مفضل بذكر خلق الانسان فاعتبر به فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (3) حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة فإنه يجرى من دم الحيض ما يغذوه الماء والنبات فلا يزال ذلك غذاؤه (كيفية ولادة الجنين وغذائه وطلوع أسنانه وبلوغه) حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوى أديمه (4) مباشرة الهواء
---
(1) في نسخة منضودة أي جعل بعضها فوق بعض فهي منضودة. (2) من التخويل وهو الاعطاء والتمليك. (3) المشيمة: غشاء ولد الانسان يخرج معه عند الولادة، جمعه مشيم ومشايم. (4) الاديم: الجلد المدبوغ.
--- [ 13 ]
صفحة ١٢
وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق (1) بأمه فأزعجه أشد ازعاج واعنفه حتى يولد فإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثديها وانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشد موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمظ (2) وحرك شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثدى أمه كالأداوتين (3) المعلقتين لحاجته فلا يزال يتغذى باللبن ما دام رطب البدن رقيق الامعاء لين الاعضاء حتى إذا يحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الاسنان والأضراس (4) ليمضغ (5) بها الطعام فيلين عليه ويسهل له اساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعز الرجل الذي يخرج به من جدة الصبا وشبه النساء وان كانت انثى يبقى وجهها نقيا من الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجل لما فيه دوام النسل وبقاؤه اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الانسان في هذه الأحوال المختلفة هل ترى مثله يمكن ان يكون بالاهمال ؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ألم يكن سيذوى ويجف كما يجف النبات إذا فقد الماء ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالمؤود (6) في الأرض ولو لم يوافقه
---
(1) الطلق (بسكون الثاني) وجع الولادة. (2) تلمظ: إذا أخرج لسانه فمسح به شفتيه. (3) الاداوة: بكسر ففتح - إناء صغير من جلد يتخذ للماء، جمعه أداوي. (4) الطواحن: هي الأضراس، وتطلق الاضراس غالبا على المآخير والاسنان على المقاديم، كما هو الظاهر هنا، وإن لم يفرق اللغويون بينهما. (5) مضغ الطعام: لاكه بلسانه. (6) وأد البنت: دفنها في التراب وهي حية، كما كان العرب يفعلون ذلك في العهد الجاهلي.
--- [ 14 ]
صفحة ١٣
اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعا أو يغتذى بغذاء لا يلائمه ويصلح عليه بدنه ولو لم تطلع له الاسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام واساغته أو يقيمه على الرضاع فلا يشتد بدنه ولا يصلح لعمل ثم كان يشغل امه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد، (حال من لا ينبت في وجهه الشعر وعلة ذلك) ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ألم يكن سيبقى هيئة الصبيان والنساء فلا ترى له جلالة ولا وقارا قال المفضل فقلت له يا مولاى فقد رأيت من يبقى حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وان بلغ الكبر فقال (ع) ذلك بما قدمت أيديكم وان الله ليس بظلام للعبيد (1) فمن هذا الذي يرصده (2) حتى يوافيه بكل شئ من هذه المآرب إلا الذي أنشأه خلقا بعد ان لم يكن توكل له بمصلحته بعد ان كان فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب ان يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطأ والمحال لأنهما ضد الإهمال وهذا فظيع من القول وجهل من قائله لأن الإهمال لا يأتي بالصواب والتضاد لا يأتي بالنظام (3) تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا
---
(1) سورة آل عمران آية 182. (2) يرصده: أي يرقبه. (3) أي إذا لم تكن الأشياء منوطة بأسبابها، ولم ترتبط الأمور بعللها، فكما جاز أن يحصل هذا الترتيب والنظام التام بلا سبب، فجاز أن يصير التدبير في الأمور سببا لاختلافها، وهذا خلاف ما يحكم به العقلاء لما يرون من سعيهم في تدبير الأمور وذمهم، من يأتي بها على غير تأمل وروية... ويحتمل أن يكون المراد أن الوجدان يحكم بتضاد آثار الأمور - المتضادة، وربما أمكن اقامة البرهان عليه أيضا، فإذا أتي الاهمال بالصواب يجب أن يأتي ضده وهو التدبير بالخطأ، وهذا أفضع وأشنع. (من تعليقات البحار)
--- [ 15 ]
صفحة ١٤
(حال المولود لو ولد فهما عاقلا وتعليل ذلك) ولو كان المولود يولد فهما (1) عاقلا لأنكر العالم عند ولادته ولبقى حيرانا تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير الى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم واعتبر ذلك بأن من سبى بلد وهو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع إلى تعلم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي سبى صغيرا غير عاقل ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة (2) إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى (3) في المهد لأنه لا يستغنى عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد ثم كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل فصار يخرج الى الدنيا غبيا (4) غافلا عما فيه أهله فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا وشيئا بعد شئ وحالا بعد حال حتى يألف الأشياء ويتمرن ويستمر عليها فيخرج من حد التأمل لها والحيرة فيها إلى التصرف والاضطرار إلى المعاش بعقله وحيلته والى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية وفي هذا أيضا وجوه اخر فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الاولاد وما قدر ان يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة وما يوجب التربية للآباء على الابناء من المكافأة بالبر والعطف عليهم عند
---
(1) الفهم - بفتح فكسر - السريع الفهم. (2) الغضاضة: هي الذلة والمنقصة - جمعها غضائض. (3) التسجية: هي التغطية بثوب يمد على الجسم. (4) على وزن فعيل - وهو القليل الفطنة.
--- [ 16 ]
صفحة ١٥
حاجتهم الى ذلك منهم (1) ثم كان الاولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء أبناءهم لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم فيتفرقون عنهم حين يولدون فلا يعرف الرجل أباه وأمه ولا يمتنع عن نكاح امه واخته وذوات المحارم إذا كان لا يعرفهن وأقل ما في ذلك من القباحة بل هو أشنع واعظم وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود بطن أمه وهو يعقل ان يرى (2) منها ما لا يحل له ويحسن به أن يراه أفلا ترى كيف اقيم كل شئ من الخلقة على غاية الصواب وخلا من الخطأ دقيقه وجليله (3) (منفعة الأطفال في البكاء) اعرف يا مفضل ما للأطفال في البكاء من المنفعة واعلم ان في أدمغة الأطفال رطوبة ان بقيت فيها احدثت عليهم احداثا جليلة وعللا عظيمة من ذهاب البصر وغيره والبكاء يسيل تلك الرطوبة من رؤوسهم فيعقبهم ذلك الصحة في أبدانهم والسلامة في أبصارهم أفليس قد جاز ان يكون الطفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك فهما دائبان (4) ليسكتانه ويتوخيان (5) في الأمور مرضاته لئلا يبكى وهما لا يعلمان ان البكاء اصلح له
---
(1) أي بان يبر الابناء بآبائهم والعطف عليهم عند حاجة الآباء إلى ذلك في كبرهم وضعفهم، وجزاء لما عانوا من الشدائد في سبيل تربية الابناء. (2) خبر لقوله: أقل ما في ذلك. (3) إن بعض هذا البيان البديع من الامام عن تدرج الانسان في نموه، ونموه في أوقاته، كاف في حكم العقل، بأن له صانعا صنعه عن علم وحكمة وتقدير وتدبير. (عن كتاب الامام الصادق) للشيخ محمد حسين المظفر ج 1 ص 171. (4) الدؤب: الجد والتعب. (5) التوخي. التحري والقصد.
--- [ 17 ]
صفحة ١٦
واجمل عاقبة فهكذا يجوز ان في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالاهمال ولو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشئ انه لا منفعة من اجل انهم لا يعرفونه ولا يعلمون السبب فيه فإن كل ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون (1) وكثيرا ما يقصر عنه على المخلوقين محيط به علم الخالق جل قدسه وعلت كلمته فأما ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق ففى ذلك خروج الرطوبة التي لو بقيت في ابدانهم لأحدثت عليهم الأمور العظيمة كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة فأخرجته إلى حد البله والجنون والتخليط إلى غير ذلك من الأمراض المتلفة كالفالج (2) اللقوة (3) وما اشبههما فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم فتفضل على خلقه بما جهلوه ونظر لهم بما لم يعرفوه ولو عرفوا نعمه عليهم لشغلهم ذلك من التمادي في معصيته فسبحانه ما اجل نعمته واسبغها على المستحقين وغيرهم من خلقه تعالى عما يقول المبطلون (4) علوا كبيرا (آلات الجماع وهيئتها) انظر الآن يا مفضل كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والأنثى جميعا على ما يشاكل ذلك عليه فجعل للذكر آلة ناشره تمتد حتى تصل النطفة (5) إلى
---
(1) أي أن ذلك مما لا يقصر عن ادراكه ذو العلم والفهم. (2) الفالج: داء يحدث في أحد شقي البدن، فيبطل احساسه وحركته. (3) اللقوة: - بفتح فسكون - داء يصيب الوجه ، يعوج منه الشدق إلى أحد جانبي العنق، جمعه لقاء والقاء. (4) يقال: أبطل أي جاء بالباطل. (5) النطفة: ماء الرجل أو المرأة، والجمع نطاف ونطف.
--- [ 18 ]
صفحة ١٧
الرحم إذا كان محتاجا ألى أن يقذف ماءه في غيره وخلق للأنثى وعاء قعرا (1) ليشتمل على الماءين جميعا ويحتمل الولد ويتسع له ويصونه حتى يستحكم اليس ذلك من تدبير حكيم لطيف سبحانه وتعالى عما يشركون (اعضاء البدن وفوائد كل منها) فكر يا مفضل في اعضاء البدن اجمع وتدبير كل منها للأرب فاليدان للعلاج والرجلان للسعى والعينان للاهتداء والفم للاغتذاء والمعدة للهضم والكبد للتخليص والمنافذ (2) لتنفيذ الفضول والأوعية لحملها والفرج لإقامة النسل وكذلك جميع الأعضاء إذا ما تأملتها واعملت فكرك فيها ونظرك وجدت كل شئ منها قد قدر لشئ على صواب وحكمة. (زعم الطبيعيين وجوابه) قال المفضل فقلت يا مولاى ان قوما يزعمون ان هذا من فعل الطبيعة فقال عليه السلام سلهم عن هذه الطبيعة أهي شئ له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من اثبات الخالق فإن هذه صنعته (3) وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير
---
(1) القعر من كل شئ: عمقه ونهاية أسفله. (2) المنافذ هنا بمعنى النوافذ من الانسان، أي كل سم أو خرق فيه كالفهم والأنف، والظاهر أن المراد بها هنا محل خروج البول والغائط. (3) لعل المراد انهم إذا قالوا بذلك فقد أثبتوا الصانع، فلم يسمونه بالطبيعة، وهي ليست بذات علم ولا أرادة ولا قدرة ؟
--- [ 19 ]
صفحة ١٨
علم ولا عمد وكان في افعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة علم ان هذا الفعل للخالق الحكيم فإن الذي سموه طبيعة هو سنته في خلقه الجارية على ما اجراها عليه (1) (عملية الهضم وتكون الدم وجريانه في الشرايين والاوردة) فكر يا مفضل في وصول الغذاء الى البدن وفيه من التدبير فإن الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق دقاق واشجة (2) بينهما قد جعلت كالمصفى للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شئ فينكأها (3) وذلك ان الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ثم ان الكبد تقبله فيستحيل بلطف التدبير دما وينفذه إلى البدن كله في مجارى مهيئة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيأ للماء ليطرد في الأرض كلها وينفذ ما يخرج من الخبث
---
(1) أي ظاهر بطلان هذا الزعم، والذي صار سببا لذهولهم إلى إن الله تعالى أجرى عادته بأن يخلق الأشياء بأسبابها، فذهبوا إلى استقلال تلك الاسباب في ذلك. وبعبارة أخرى إن سنة الله وعادته قد جرت لحكم كثيرة، فتكون الاشياء بحسب بادي النظر مستندة إلى غيره تعالى، ثم - يعلم - بعد الاعتبار والتفكر - إن الكل مستند إلى قدرته أو تأثيره تعالى، وإنما هذه الأشياء وسائل وشرائط لذلك ومن هنا تحيروا في الصانع تعالى. (من تعليقات البحار) (2) الواشجة: مؤنث الواشج اسم فاعل بمعنى المشتبك، يقال: وشجت العروق والاغصان إذا اشتبكت. والمراد بالواشجة هنا الموصلة أو الواصلة. (3) نكأ القرحة قشرها قبل أن تبرأ فندبت.
--- [ 20 ]
صفحة ١٩
والفضول الى مفائض (1) قد اعدت لذلك فما كان منه من جنس المرة (2) الصفراء جرى إلى المرارة (3) وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال وما كان من البلة والرطوبة جرى إلى المثانة (4) فتأمل حكمة التدبير في تركيب البدن ووضع هذه الأعضاء منه مواضعها واعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلا تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه فتبارك من احسن التقدير واحكم التدبير وله الحمد كما هو أهله ومستحقه (أول نشوء الأبدان تصوير الجنين في الرحم) قال المفضل فقلت صف نشوء الأبدان ونموها حالا بعد حال حتى تبلغ التمام والكمال قال عليه السلام أول ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث لا تراه عين ولا تناله يد ويدبره حتى يخرج سويا مستوفيا جميع ما فيه قوامه وصلاحه من الاحشاء والجوارح والعوامل إلى ما في تركيب أعضائه من
---
(1) المفائض: المجاري، مأخوذة من فاض الماء، وفي بعض النسخ بالغين من غاض الماء غيضا، أي نضب وذهب في الأرض. (2) المرة: بكسر ففتح - خلط من أخلاط البدن وهو الصفراء أو السوداء، جمعه مرار. (3) المرارة: هنة شبه كيس لاصقة بالكبد تكون فيها مادة صفراء هي المرة أشار إليها الامام، جمعها مراثر ومرارات. (4) في كلام الامام عليه السلام هنا معان صريحة عن الدورة الدموية - التي اكتشفها العالم الانكليزي وليم هارفي (1578 - 1756) بل ان الامام قد فصل القول - كما نرى هنا - عن جريان الدم في الأوردة والشرايين، وإن مركزه هو القلب، فنستطيع إذن أن نقول بأن الإمام هو المكتشف الأول للدورة الدموية.
--- [ 21 ]
صفحة ٢٠
العظام واللحم والشحم والعصب والمخ والعروق والغضاريف (1) فإذا خرج إلى العالم تراه كيف ينمو بجميع اعضائه وهو ثابت على شكل وهيئة لا تتزايد ولا تنقص إلى أن يبلغ اشده ان مد في عمره أو يستوفى مدته قبل ذلك هل هذا إلا من لطيف التدبير والحكمة (اختصاص الإنسان بالإنتصاب والجلوس دون البهائم) انظر مفضل ما خص به الانسان في خلقه تشرفا وتفضلا على البهائم فانه خلق ينتصب قائما ويستوى جالسا ليستقبل الاشياء بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل بهما فلو كان مكبوبا على وجهه كذوات الأربع لما استطاع أن يعمل شيئا من الأعمال (تخصص الإنسان بالحواس وتشربها دون غيره) انظر الآن يا مفضل إلى هذه الحواس (2) التي خص بها الانسان في خلقه وشرف بها على غيره كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ؟ ليتمكن من مطالعة الأشياء ولم تجعل في الاعضاء التي تحتهن كاليدين والرجلين فتعترضها الآفات ويصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعللها ويؤثر فيها وينقص منها ولا في الاعضاء التي وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر تقلبها واطلاعها نحو الأشياء
---
(1) الغضاريف: جمع غضروف وهو كل عظم رخص لين. (2) هي الأعضاء التي تؤمن مناسباتنا مع المحيط الخارجي، وهي خمسة أعضاء اللمس والذوق والشم والبصر والسمع.
--- [ 22 ]
صفحة ٢١