المقد مة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين، أما بعد ..
فإن هذا البحث المتواضع في مسألة الإرسال والضم أثناء القيام في الصلاة، سبق وأن طبع منذ سنوات، وكنت قد أشرت في مقدمته إلى أن الباعث عليه أننا ابتلينا بأناس يعتبرون الضم في الصلاة علامة المعرفة والتسنن، ويعتبرون الإرسال علامة الجهالة والابتداع، وبالغوا في ذلك حتى صارت المسألة كأنها من مهمات مسائل أصول الدين، متعللين في ذلك بأن الإرسال لا دليل عليه، وأن أدلة الضم متواترة!! وأنه لا يرسل في الصلاة إلا حفنة من الناس ليس لهم في ذلك رائحة دليل.
تلك التقولات وغيرها جعلت البعض يتساءل كيف جاء الارسال في الصلاة؟ ومن هم القائلون بشرعيته؟ وما مدى صحة ما يعتمدون عليه من الأدلة في ذلك؟
وكنت ممن خطر بباله تلك التساؤلات؛ فتوجهت نحو البحث في هذه المسألة بجد وتوسع، إيمانا مني بأن بحث أي موضوع، وجمع ما أمكن من أدلته وملابساته، وفحصها بموضوعية، بعيدا عن أي عصبية أو ميول مسبق، أو تأثر بمحيط ثقافي أو اجتماعي أو سياسي؛ يؤدي إلى رؤية إن لم تكن صوابا، فقريبة من الصواب.
وبعد أن باشرت عملي في البحث والتتبع وجدت أن الخلاف في مسألة الضم والإرسال في الصلاة واقع بين علماء المسلمين: فقهاء ومحدثين، وهو خلاف لا يؤدي - في الحقيقة - إلى التباعد والتنافر بين الأمة الواحدة، لا سيما وأن هذه المسألة من المسائل الفرعية الاجتهادية التي كل مجتهد فيها مصيب، إذا اجتهد وأعطى المسألة حقها من البحث والتنقيب الذي لا يشوبه شيء من العصبية المذمومة.
وحين فرغت من الاطلاع على مقالات العلماء واستعراض الأدلة في هذه المسألة، رأيت أن أدون ما اجتمع عندي من المعلومات، لأقدمها للقراء وأقربها للباحثين، فجاءت في ثلاثة أبواب على النحو التالي:
صفحة ١
الباب الأول في: الإرسال، ويشتمل على ذكر القائلين به، وبيان أدلتهم ومرجحاتهم، وما يتعلق بذلك.
الباب الثاني في: الضم، ويشتمل على ذكر القائلين به واختلافهم في صفته، وأدلتهم عليه، مع تعليق وتقييم للروايات المذكورة فيه.
الباب الثالث في: نتيجة البحث في المسألة، ويشتمل على تأملات في مجمل الأدلة، وذكر محاولات العلماء للجمع بينها، وما هو الأقرب إلى واقع الأدلة منها.
وهنا أود أن أشير إلى أن هذا الكتاب كان أول تجربة لي في مجال البحث والتأليف، وقد كنت سودته وصورته لغرض التصحيح والمراجعة، ولكنني فؤجئت بعد أشهر بأن بعض دور النشر قد قامت بطباعته بغير أذن مني، فخرج الكتاب مشوها بكثير من الأخطاء والسقط، مما اضطرني إلى مراجعته على عجل وتقديمه للطباعة مرة ثانية، ولكنني رغم ذلك لم أتمكن من تصحيح جميع الأخطاء، فرأيت بعد نفاد الطبعة الأولى والثانية أن أعمل على مراجعة الكتاب وتهذيبه، فقمت بترتيبه والخذف منه والإضافة إليه وتأكدت من المصادر التي نقلت عنها، ونحو ذلك من التصحيحات.
والآن وبعد المراجعة والتهذيب أقدمه للقراء والباحثين باعتباره بديلا عن الطبعتين السابقتين، راجيا أن أكون بهذا قد لفت النظر إلى أهمية ما وقع فيه من تغير، ومن الله أستمد العون والسداد.
وأخيرا أقدم هذا الجهد مني لطلبة العلم الشريف الذين يتطلعون إلى مستقبل أفضل ونور يذهب ظلمات العصبية والتحجر، وأنصح كل متعصب أن لا يقرأ كتابي هذا حتى لا يضيع وقته، فأنا أعرف أنه لا يرضي المتعصبين.
ومن الله أستمد العون والهداية، والحمد لله رب العالمين.
محمد يحيى سالم عزان
صنعاء : 1/ رمضان/ 1419ه
Hg
الباب الأول : الإرسال
مدخل
الارسال في الصلاة، هو: جعل اليدين - عند القيام - بجانب الفخذين، وهو الوضع الطبيعي للإنسان عند القيام.
صفحة ٢
وقد ذهب إلى أنه هو المشروع في الصلاة سائر المنتمين إلى خط أهل البيت من زيدية، وإمامية، وإسماعيلية، واختاره الإمام مالك ومن تبعه من المالكية، وذهب إليه سادات التابعين وكبار فقهاء المسلمين، أمثال سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة، وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير فقيها أهل الكوفة، وعطاء بن أبي رباح وعبد الملك بن جريج فقيها أهل مكة، والحسن البصري فقيه أهل البصرة، والليث بن سعد فقيه أهل مصر، وعبد الرحمن الأوزاعي فقيه أهل الشام، وغيرهم .
والقائلون بالارسال المتمسكون بفعله في الصلاة منتشرون على طول البلاد الاسلامية وعرضها، وليسوا قلة شاذة كما يروج متعصبي مخالفيهم، وهم يعتقدون أنهم متمسكون في ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، معتمدين في ذلك على ما عرفوا من صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك ما سنفصله لاحقا بمشيئة الله تعالى.
الفصل الأول
مذهب أهل البيت عليهم السلام
تضافرت الروايات من طرق الخاصة والعامة على أن الإرسال أثناء القيام في الصلاة هو مذهب جمهور أهل البيت، وقد أخذوا ذلك خلفا عن سلف، وعليه مضى سائر المنتمين إليهم من زيدية، وإمامية، وإسماعيلية، رغم اختلافهم في مسائل كثيرة، وذلك ما سنوضحه فيما يلي:
أولا: مذهب الزيدية
اتفق جمهور الزيدية قديما وحديثا على أن إرسال اليدين على الفخذين هو المشروع عند القيام في الصلاة، وهو ما اشتهر عنهم واحتجوا له في كتبهم، ورجحوه على غيره وما زالوا يفعلونه جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، وتأكيدا لذلك سأورد هنا نبذة من نصوص أئمتهم وعلمائهم لأضع القارئ أما صورة واضحة لهذا الجانب من المسألة.
صفحة ٣
فعن الإمام أحمد بن عيسى بن زيد (المتوفى 247ه) أنه كان إذا كبر في أول الصلاة أرسل يديه على فخذيه وهو قائم، ولم يضع واحدة على الأخرى(1).
* وجاء عن الإمام القاسم بن إبراهيم (المتوفى 246ه) أن فعله يفسد الصلاة (2).
* وقال الحافظ محمد بن منصور المرادي المتوفى (390 ه تقريبا): (( إذا كبرت فأرسل يديك حتى تقع كفاك على فخذيك ))(3).
* واشتهر عن الإمام الهادي (المتوفي 298ه) أن أن فعله لايجوز وأنه يفسد الصلاة (4).
* وقالت الناصرية، وهم زيدية الجيل والديلم(5): وضع اليد على اليد في الصلاة بعد التكبيرة غير مشروع(6).
* وقال الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (المتوفي 411ه): (( وذلك مكروه عند أهل البيت عليهم السلام؛ لأن ذلك ينافي السكون؛ فإنه يحتاج عند الوضع إلى إرسالهما، ثم إلى رفعهما، ثم إلى إرسالهما وذلك ضد السكون )).روى ذلك عنه القاضي زيد في (شرح التحرير)(7)، والأمير الحسين في (الشفاء)(8).
صفحة ٤
* وقال الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني (المتوفى 424ه): ((ولا يجوز للمصلي أن يضع يمينه على يساره في حال القيام، على موجب قول القاسم ويحيى عليهما السلام، فإن فعل ذلك بطلت صلاته)) (1).
* وقال الحافظ أبو عبد الله العلوي (المتوفى 445ه): (( وأما وضع اليمنى على كفه اليسرى فيكره، ويقال: إنه من فعل اليهود ))(2).
* وقال العلامة جعفر بن أحمد بن عبد السلام (المتوفى 576ه) في تعداد مفسدات الصلاة: ((والثالث: أن يفعل فيها أفعالا كثيرة ليست منها، ويدخل في ذلك وضع اليد على اليد ))(3).
* وقال الأمير الحسين بن بدر الدين (المتوفى 662ه): (( قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أسكنوا في الصلاة )). يدل جميع ذلك على أنه لا يجوز للمصلي أن يضع يمينه على يساره في حال القيام ))(4).
* وقال الإمام يحيى بن حمزة (المتوفى 749ه): يكره(5).
* وقال العلامة ابن المظفر (المتوفى 796ه): (( وضع اليد اليسرى على اليمنى مفسد إذا كثر، نحو أن يستمر حتى كثر، وهو حيث يكون الوضع أكثر من الإرسال. ذكره المنصور بالله. ونحو أن يضع ثم يرفع ثم يضع، وكذا في وضع اليمنى على اليسرى ))(6).
* قال العلامة يوسف بن أحمد بن عثمان وهو أحد أقطاب المذهب الزيدي في عصره (توفي 832 ه): هذه المسألة أي الضم اختلف فيها العلماء، فمذهب عامة أهل البيت أن ذلك غير مشروع(7).
* وقال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى (المتوفى 840ه): تركه أحوط(8).
صفحة ٥
* وقال العلامة عبد الله بن مفتاح (المتوفى 877ه) في (شرح الأزهار) عند ذكر مفسدات الصلاة وأثناء الكلام على كون الفعل الكثير مفسدا، ما لفظه: (( قال المؤيد بالله - واختاره الإمام يحيى -: إن الكثير: ما وقع الإجماع على كونه كثيرا. قال الفقيه يحيى: ولو اختلفوا هل هو مفسد أم لا؟ فلا عبرة بهذا الخلاف بعد إجماعهم على كثرته، كوضع اليد على اليد ))(1).
* واعتبره العلامة صارم الدين الوزير (المتوفى 941ه) من الفعل الكثير المفسد للصلاة، فقال: ومنه وضع اليمنى على الشمال مطلقا(2).
* ورجح العلامة صلاح بن أحمد المهدي المؤيدي (المتوفى 1044ه) كون الضم مفسد للصلاة(3).
* وذكر العلامة محمد بن القاسم الوجيه (المتوفى 1418ه) أن العمل بالإرسال وخلاف الضم اشتهر عن الزيدية(4).
فهذه نبذة من أقوال أئمة وعلماء الزيدية، من قبل عصر الإمام الهادي، ومن مختلف العصور تبين ما كانوا عليه في هذه المسألة، أما علماء الزيدية المعاصرين فنحن نشاهدهم يرسلون أيديهم في الصلاة ويفتون بذلك.
الروايات المخالفة للمشهور عن الزيدية
لقد أتاح المذهب الزيدي لأتباعه حرية النظر والترجيح في مختلف المسائل الفرعية وذلك عندما يكون المرجح أهلا للنظر والاجتهاد، وتلك ميزة تسجل للمذهب الزيدي وتحمد له، وعلى هذا فلا حرج أن يختار بعض علماء الزيدية لنفسه العمل بهذه المسألة أو تلك، ولكن غير المقبول هو أن يلزم أحد سواه باجتهاده، أو يجعل مما توصل إليه مذهبا لعموم الزيدية، ثم يعمد إلى تطويع نصوص الأئمة ويكثر التمحلات لترجيح ما ذهب إليه.
صفحة ٦
وهذا ما فعله بعض علماء الزيدية المتأخرين في مسألة الضم والإرسال، وكان العلامة محمد بن إسماعيل الأمير من أكثر هم المتحمسين لإلزام الزيدية بفعل الضم في الصلاة، فقد قال في بحث له سماه: (المسائل الثمان)، ما لفظه: "الضم هو مذهب زيد بن علي، وأحمد بن عيسى حفيده، قال في (البحر): قال زيد وأحمد ين عيسى إن وضع اليد على اليد بعد التكبيرة مشروع، استوفى الهادي دليل هذا القول وكان يذهب إليه ، وقد عد رواته في ضوء النهار من عشرين طريقا، فإذا كان مذهب زيد بن علي تعين على من يدعي أنه زيدي المذهب أن يفعله في صلاته وإلا فليس بزيدي" أه.
وقد اخترت كلام العلامة الأمير للتعليق عليه هنا؛ لأن مخالفي الزيدية في هذه المسألة يروجون له كثيرا، وفيه من الأوهام ما لا بد من الكشف عنه.
أما نسبة الضم إلى الإمام زيد، فلا بد من التنبيه هنا على أن ما يذكر عن الإمام زيد من القول بمشروعية الضم مصدره الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى(1)، وهو إنما أراد أن الإمام زيد يرى أن الصلاة لا تفسد بفعله، لا أنه كان يفعله، ويؤكد ذلك أن الغمام المهدي أورده مقابل القول بأن الضم يبطل الصلاة.
وقد يحتج بعض الناس على اعتبار الضم مذهبا للإمام زيد بما ورد في (مسنده)، ولفظه: "قال أبو خالد رحمه الله: حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنه قال: ثلاث من أخلاق الأنبياء تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع الكف على الكف تحت السرة )(2).
وقد استشهد بهذه الرواية على شرعية الضم كل من الإمام محمد بن المطهر في (المنهاج الجلي) (3). والعلامة السياغي في (الروض النضير) (4).
ولكن أكثر الزيدية ينكرون أن يكون فعل الضم مذهبا للإمام زيد، ويقولون: إن ما ورد في (المسند) لا يدل عليه، لعدة أمور:
صفحة ٧
الأول أن الحديث ليس فيه ذكر الصلاة، ومن ادعى أنه في الصلاة فعليه الدليل الصحيح، ولعل إيراده في باب الصيام قرينة صارفة عن أن يكون المراد به في الصلاة.
قال شيخانا العلامة بدر الدين الحوثي حفظه الله: ((ليس في (المجموع) ذكر أنه في الصلاة ولا ينصرف إليها إلا بدليل، فإن ثبت أن الضم فيها للأنبياء بدليل آخر، انصرف إليها، وإلا كان الظاهر الإطلاق، وأنه أدب في العادة المعهودة للناس، التي هي الضم بدون تقييد كونه في الصلاة، فينبغي لمن يضم وراء ظهره أو على صدره أو يجعل اليسرى على اليمنى؛ أن يرجع إلى هذا الخلق النبوي ويترك العادة المخالفة له )) (1).
ويؤيد ذلك: أنه ورد بلفظ (أخلاق الأنبياء)، ولفظ (الأخلاق) يستعمل للآداب العامة في غير الصلاة، وفي ذلك ما روى البخاري من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى صلاة العشي - قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا - فصلى بنا ركعتين، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى(2).
الثاني: أنه قد اشتهر عن الزيدية الإرسال في الصلاة، وهم أعرف بمذهب إمامهم واشد تمسكا به، وحديث (المجموع) عندهم صحيح، فلو كان الضم في الصلاة مفهوما من الحديث، أو قولا معروفا للإمام زيد، لتسابقوا إلى فعله إذ ليس ثم ما يدعوهم لمخالفته لو كان مشروعا.
الثالث: أن الرواية عن الإمام علي، ولو سلم أن المراد بها (الضم في الصلاة)، فقد وجد قرائن تدل على أن ذلك في غير الفريضة.
منها: أن البخاري حينما روى الضم عن الإمام علي رواه في (باب الاستعانة)، أحد أبواب صلاة التهجد من صحيحه(3).
صفحة ٨
ومنها: أن ابن حزم حكى ذلك عن علي عند التطويل، فقال: كان يعني عليا إذا طول قيامه في الصلاة يمسك بيده اليمنى ذراعه اليسرى، من أصل الكف إلا أن يسوي ثوبا أو يحك جلدا(1).
ومنها: أن ذكر الوضع مع الفطور والسحور فيه إشارة إلى ما يفعله الصائم بين ذلك من تهجد وقيام.
وأما نسبة الضم إلى الإمام أحمد بن عيسى فإذا لم يكن من قبيل ما ذكرنا عن الإمام زيد فهو وهم؛ لأن الثابت عنه غير ذلك، فقد جاء في كتاب الحافظ محمد بن منصور المرادي المسمى: (آمالي أحمد بن عيسى) قوله : (( إذا كبرت فأرسل يديك حتى تقع كفاك على فخذيك )). وقال: رأيت أحمد بن عيسى بن زيد بن علي حين كبر في أول الصلاة أرسل يديه على فخذيه وهو قائم، ولم يضع واحدة على الأخرى. وقد تقدم.
وأما اعتماد العلامة الأمير على ما في (البحر)، فقد تقدم وجهه، إلى جانب أن مؤلفه رجح ترك الضم فقال: تركه أحوط(2).
وأما قوله: أن الهادي استوفى دليله وكان يذهب إليه. فهو خلاف المعلوم عند الجميع، فإذا لم يكن غلطا من الناسخ فهو سهو من العلامة الأمير.
وأما اعتماده على ما ذكر العلامة الجلال، حيث قال: وقد عد رواته في (ضوء النهار) من عشرين طريقا. فنقول: نعم، ولكنه لم يعد منها طريقا واحدا من طرق أهل البيت، فهو استشهاد في غير محله؛ لأن النزاع في دعوى نسبة ذلك إليهم، وما أورد من الروايات فهي من طرق مثبتي الضم، وعلى حسب أصولهم فكيف يلزم بها مخالفيهم. هذا إلى جانب أن الجلال نفسه اعترف بضعفها، وإنما اعتبرها "لشهادة بعضها لبعض"، على حد قوله(3).
صفحة ٩
مع أننا لا نسلم أنها رويت من عشرين طريقا، كما سيأتي توضيح ذلك، ولا نسلم شهادة بعضها لبعض؛ لأن ذلك لا يكون إلا فيما كان متحد المعنى متقارب الدلالة، وليس الحال كذلك في الأحاديث المذكورة، فإن فيها من الاختلاف في اللفظ ما يجعلها ذات معان مختلفة، فلا تصح شهادة بعضها لبعض.
وأما إلزامه للزيدية بهذا المذهب، بقوله: فإذا كان مذهب زيد بن علي تعين على من يدعي أنه زيدي المذهب أن يفعله في صلاته وإلا فليس بزيدي.
فإننا نقول: قد تقدم أنه ليس مذهب الإمام زيد فلا يتعين على أحد من الزيدية فعله، ثم أن نسبة الزيدية إلى الإمام الأعظم زيد بن على ليس على أساس اتباعه في مسألة فرعية، ولكن على أساس الانتماء إلى أصل الفكر، الذي من مبادئه: التوحيد والعدل، وما يلحق بهما من مسائل النبوة والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء لأهل البيت.
ومما يثار في هذا الجانب أن جماعة من العلماء المحسوبين في الزيدية قد اختاروا الضم ورجحوه، كالحافظ محمد بن إبراهيم الوزير(1)، والعلامة الجلال(2) والعلامة السياغي(3)، والعلامة الحسن بن يحيى القاسمي(4).
والواقع أن من أختار العمل بالضم من المذكورين أو غيرهم، لم يختره على أساس أنه مذهب الزيدية؛ لعدم المستند في ذلك، ولكنهم اختاروه على أساس أنهم وجدوا ما يرجح شرعيته في نظرهم، ولكل اجتهاده، والزيدية كمذهب غير ملزمة باجتهاد بعض المنتمين إليها إذا كان مبنيا على غير قواعدهم، كما هو الحال في هذه المسألة.
صفحة ١٠
أدلة الزيدية على الإرسال استدل علماء الزيدية على ما ذهبوا إليه من أن إرسال اليدين عند القيام في الصلاة هو المشروع بمجموعة من الأدلة، مع أنهم ومن وافقهم لا يحتاجون إلى دليل في ذلك؛ لأنهم باقون على الأصل، وإنما يلزم من أتي برافع عن الأصل، أو ادعي شرعية ما اختلف في شرعيته أئمة الإسلام، وإنما ذكرنا هذه الأدلة تنبيها على عدم دقة دعاوى عدم وجود دليل على الإرسال، فعن الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير أنه قال : "وما علمت أنه روى أحد من أهل البيت وشيعتهم حديثا واحدا في النهي عن وضع الكف على الكف في الصلاة(1).
وقال العلامة الحسن بن علي السقاف: وأما الإسبال وهو: إرسال اليدين دون وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة الذي يفعله بعض الناس فالسنة بخلافه(2).
ولعمري لقد تسرع كل من الحافظ الوزير والعلامة السقاف في هذا الحكم؛ لأن ما نورده من الروايات من كتب أهل البيت يشهد بغلطهما.
ومما يحسن التنبيه عليه هنا أنه لا يصح أن تقيم أدلة القائلين بالإرسال على قواعد مخالفيهم في تقييم الأدلة، فلا يقال: هذا الحديث ضعفه ابن معين أو الذهبي أو الشوكاني أو أتباعهم؛ أو أنه لا يوجد في كتاب البخاري أو مسلم أو الترمذي أو أبي داود أو غيرهم من المحدثين، ولكن تقيم على قواعد الزيدية أنفسهم، فإن ذلك أقرب إلى الحق والانصاف، إذ الكل يعتقد أن ما لديه هو الأصح وأن على بقية المسلمين التمسك به.
فمن أدلة الزيدية على ما ذهبوا إليه من ترجيح الإرسال في الصلاة ما يلي:
(1) - روى الحافظ محمد بن منصور المرادي، عن الإمام القاسم الرسي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا كنت في الصلاة قائما فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، ولا اليسرى على اليمنى، فإن ذلك تكفير أهل الكتاب، ولكن أرسلهما إرسالا، فإنه أحرى أن لا تشغل قلبك عن الصلاة )).
صفحة ١١
احتج به الإمام القاسم بن محمد في (الاعتصام)(1)، والعلامة صلاح بن المهدي في (لطف الغفار)(2).
(2) - روى الإمام محمد المرتضى (ت310ه)، عن أبيه الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب في كتاب (المناهي)(3) بالإسناد من طريق آبائه، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نهى أن يجعل الرجل يده على يده على صدره في الصلاة، وقال: ذلك من فعل اليهود، وأمر أن يرسلهما.
احتج بهذا الحديث الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد في الاعتصام (4)، والشهيد محمد بن صالح السماوي في (الغطمطم)(5) وقال: هذا إسناد في نهاية الصحة، كيف لا، ورجاله تلك السلسلة النبوية المطهرة بتطهير الله ورسوله؟
وصحح سنده شيخنا العلامة المحقق بدر الدين الحوثي في كتاب (التبيين)(6). ولا أعلم أحدا من علماء الزيدية ضعف هذه الرواية، أو شكك في صحتها.
(3) - أخرج الحافظ محمد بن منصور أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه نهى أن يدخل إحدى يديه تحت الأخرى على صدره وهو يصلي، وقال: ذلك فعل اليهود، وأمر أن يرسلهما(7).
احتج به الإمام المنصور بالله في (الاعتصام)(8)، والعلامة السماوي في (الغطمطم)(9).
صفحة ١٢
ولفظه في (لطف الغفار): أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يرسل يديه إذا كان قائما في الصلاة، ونهى أن يدخل إحدى يديه تحت الأخرى على صدره، وقال: ذلك فعال اليهود، وأمره أن يرسلهما(1).
ويشهد لما تقدم من غير طريق أهل البيت، ما أخرج ابن أبي شيبة - وهو من كبار محدثي أهل السنة - عن وكيع، عن يوسف بن ميمون، عن الحسن البصري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة ))(2). ورواه السيوطي في (الجامع الكبير)، وقال العلامة الشهيد محمد بن صالح السماوي: إسناده إلى الحسن صحيح(3). أقول: وقد ثبت عن الحسن البصري رحمه الله، أنه قال: كل شيء أقوله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو عن علي بن أبي طالب(4).
(4) - أخرج الحافظ محمد بن منصور المرادي، في كتاب (المناهي)(5) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى الرجل أن يجعل يده على يده في صدره وهو يصلي، أو يده على فيه وهو يصلي، وقال: كذلك المغلول، وأمر أن يرسل يديه إذا كان قائما في الصلاة.
احتج به الإمام القاسم بن محمد في (الاعتصام)(6)، والعلامة أحمد بن محمد الشرفي في كتابه (ضياء ذوي الأبصار في الأدلة على الأزهار)(7)، والمحقق الشهيد محمد بن صالح السماوي في (الغطمطم)(8) وجزم بصحته.
صفحة ١٣
ويشهد لهذا من غير طريق أهل البيت، ما روى ابن القيم: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن التكفير(1). فقال: ويكره أن يجعلهما على الصدر، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نهى عن التكفير، وهو وضع اليدين على الصدر.
(5) - أن أكثر أحاديث صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد فيها ذكر الضم، قال ابن رشد القرطبي: (( رأى قوم أن الآثار التي أثبتت ذلك يعني الضم اقتضت الزيادة على الآثار التي لم تنقل فيها هذه الزيادة، وأن الزيادة يجب أن يصار إليها، ورأى قوم أن الأوجب المصير إلى الآثار التي ليست فيها هذه الزيادة؛ لأنها أكثر، ولكون هذه ليست مناسبة لأفعال الصلاة، وإنما هي من باب الاستعانة؛ ولذلك أجازها مالك في النفل ولم يجزها في الفرض ))(2).
ومن أشهر روايات صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما روي عن أبي حميد الساعدي فقد سمع - وهو في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منهم أبي قتادة الأنصاري، وأبي هريرة، وأبي أسيد، وسهل بن سعد- يقول: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قالوا: لم ؟ فالله ما كنت أقدمنا له صحبة ولا أكثرنا له إتيانا. قال: بلى، قالوا: فاعرض. فعرض أمامهم صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مفصلة بأركانها وهيئاتها ولم يضع يده على يده، ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين لترك ذلك، مع أنهم في مقام النقد، فلما انتهى قالوا: صدقت هكذا كان يصلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الحديث رواه الصحاب الصحاح والسنن (3).
صفحة ١٤
(6) - إجماع المسلمين على أن من صلى ولم يضع يده على يده في صلاته وأرسلهما على فخذيه، فإنه قد صلى صلاة صحيحة كاملة، والاتزام بما أجمع عليه خير من فعل ما اختلف فيه.
(7) - الضم فعل كثير، إذ هو عبارة عن حركة وانشداد، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أسكنوا في الصلاة )). وواضع الكف على الكف لا يسمى ساكنا؛ لأنه لا يضعهما إلا بعد حركة.. وقد جعل الله تعالى الخشوع في الصلاة من صفات المؤمنين، فقال تعالى: ?الذين هم في صلاتهم خاشعون?[المؤمنون:2]، والإرسال إلى الخشوع أقرب، إذ المطلوب خشوع القلب والجوارح، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للذي كان يعبث بلحيته في الصلاة: أما هذا فلو خشع قلبه لخشعت جوارحه(1).
المطلب الثاني مذهب الإمامية
اتفق علماء الإمامية الشيعة الاثنا عشرية على أن الضم غير مشروع في الصلاة أصلا، وأن المشروع فيها هو الإرسال.
* فقال الشيخ المفيد في صفة المصلي: (( يرسل يديه مع جنبيه إلى فخذيه )).. وقال: (( ولا يضع يمينه على شماله في صلاته كما يفعل ذلك اليهود والنصارى ))(2).
* قال شيخ الطائفة الإمامية أبو جعفر الطوسي: (( إذا أردت الدخول في الصلاة بعد دخول وقتها، فقم مستقبل القبلة بخشوع وخضوع، وأنت على طهر، ثم ارفع يديك بالتكبير حيال وجهك ولا تجاوز بها طرفي أذنيك، ثم أرسلهما على فخذيك، حيال ركبتيك ))(3).
* وقال الكاشاني في صفة المصلي: (( ينتصب قائما متوجها إلى القبلة عينها أو جهتها بوقار وخشوع، واضعا يديه على فخذيه بإزاء ركبتيه ))(4).
صفحة ١٥
* وقال الشيرازي وهو يذكر صفة المصلي أثناء القيام : (( يسدل منكبيه ويضع كفيه على فخذيه ))(1).
* وذكر السيد محمد باقر الصدر: أن التكتف (الضم) في الصلاة من الزيادة التي لا تجوز في الصلاة(2).
ثم اختلفوا في حكم صلاة من فعله على عدة أقوال:
القول الأول: أنها تبطل صلاته، قال العلامة العاملي: (( القول بالبطلان هو المشهور بين الأصحاب، ونقل الشيخ يعني الطوسي والمرتضى فيه الإجماع ))(3).
وقال العلامة الكركي: (( هو حرام في الصلاة عند أكثر الأصحاب ومبطل ))(4).
وعده الشهيد الثاني في مبطلات الصلاة(5).
وقال العلامة الحلي: (( التكفير مبطل للصلاة وهو: وضع اليمين على الشمال في القراءة عند علمائنا لإجماع الفرقة عليه ))(6).
وقال العلامة النراقي: (( حرمته في الصلاة مشهورة، صرح بها في (الانتصار) و(الخلاف) و(النهاية) و(الجمل) و(السرائر) و(الوسيلة) و(الغنية) و(النافع) و(المنتهى) و(التذكرة) و(نهاية الأحكام) و(التحرير) و(الإرشاد) و(القواعد) و(شرحه) و (الروضة) وغيرها ))(7).
وقال الشيخ محمد جواد مغنية: (( ذهب أكثر الفقهاء يعني فقهاء الإمامية إلى أنه حرام ومبطل للصلاة )) (8).
واحتجوا على كونه مبطلا للصلاة بحجج، منها:
أنه فعل كثير خارج عن الصلاة.
أن أفعال الصلاة متلقاة من الشارع، ولم يشرع الضم في رأيهم؛ لأنهم لا يعتدون بما روي في ذلك من روايات.
أن الاحتياط يقضي بترك ذلك؛ لأنه قد وقع الخلاف فيه دون الإرسال.
أنه قد روي عن الصادق النهي عنه، والنهي يقتضي التحريم(9).
صفحة ١٦
القول الثاني: أنه حرام غير مبطل للصلاة.
قال العلامة النراقي: (( ثم أنه هل هو موجب لبطلان الصلاة؟ كما صرح به كثير من المحرمين؛ ومنهم والدي رحمه الله تعالى في بحث المنافيات من (التحفة الرضوية) أو لا؟ كما في (شرح الإرشاد) للأردبيلي، و(الروضة) و(المسالك)، ووالدي رحمه الله في بحث القيام من الكتاب المذكور. الحق هو الثاني للأصل الخالي عن المعارض مطلقا، إلا ما استدل به من الإجماع البسيط في (الخلاف)، والمركب المصرح به في كلام الثانيين يعني المحقق الثاني في (جامع المقاصد)، والشهيد الثاني في (روض الجنان) وكونه فعلا كثيرا، وأصل الاشتغال، وتوقيفية العبادة، ولزوم الزيادة في الصلاة، والكل ضعيف يظهر وجهه مما مر مرارا ))(1).
القول الثالث: أن تركه مستحب وفعله مكروه.
أشار إلى ذلك العلامة العاملي فقال: (( وخالف في ذلك أي في كونه مبطلا للصلاة ابن الجنيد، حيث جعل تركه مستحبا، وأبو الصلاح حيث جعل فعله مكروها، واستوجهه في (المعتبر) ))(2).
واحتج أصحاب هذا القول بأن الأحاديث دلت على استحباب وضع اليدين على الفخذين محاذيا للركبتين، ولم تدل على الوجوب، ولم يتناول النهي وضعها في موضع معين، فكان للمكلف وضعها كيف يشاء. وأن ما ورد من إجماع على أنه مبطل للصلاة غير معلوم، خصوصا مع وجود المخالف من أكابر الفضلاء. وأن من الضعف بمكان القول بأنه فعل كثير؛ لأن الفعل الكثير هو ما لا يعد فاعله معه مصليا في العادة. وأنه لم يثبت تحريمه كما لم يثبت تشريعه، فكان للمكلف وضعها كيف يشاء، وعدم تشريعه لا يدل على تحريمه.
صفحة ١٧
وأجابوا على القول بأن الاحتياط يقضي بطرح ذلك، بأن الأوامر المطلقة بالصلاة دالة بإطلاقها على عدم المنع، وحملوا النهي عن التشبه بالمجوس في ذلك على الكراهة؛ لأن مخالفتهم غير واجبة؛ لأنهم قد يفعلوا بعض ما يجب، فيكون الأمر بمخالفتهم لا على الوجوب.
وأجيب عليهم بأن ظاهر النهي التحريم، وكون مخالفتهم غير واجبة لا يقدح؛ لأن وجوبها حيث لا يدل دليل على الضد؛ لأن العام المخصص حجة في الباقي، على أنه لو تم ما ذكروه فإنها لا تتحقق الكراهة أيضا؛ لأن مخالفتهم في الواجب حرام(1).
وفرق الشهيد الصدر بينما فعل منه بقصد أنه مشروع، وما فعل بقصد آخر، فقال: (( وضع إحدى اليدين على الأخرى في حال الصلاة غير مطلوب شرعا ومن صنع ذلك قاصدا أنه مطلوب ومحبوب للشرع، فقد فعل حراما؛ لأنه شرع، ومن أتى به ولم يقصد أنه جزء من الصلاة فصلاته تقع صحيحة، وأما إذا قصد أنه جزء من الصلاة فصلاته باطلة ما لم يكن معتقدا خطأ بأنه جزء (2).
ولعله يريد بذلك ما فعل للتقية، ويفهم من آخر كلامه أن من فعله معتقدا أنه جزء من الصلاة فإن صلاته لا تبطل وإن كان خطأ.
أدلة الإمامية
يعتبر الإمامية أقوال الأئمة الاثني عشر حجة ودليلا، وهي عندهم بمنزلة الحديث النبوي، باعتبارها صادرة من المعصوم في نظرهم، وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه من ذلك بأدلة كثيرة منها:
(1) - روى أبو جعفر الطوسي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر من حديث طويل في صفة الصلاة، أنه قال: (( وأسدل منكبيك وأرسل يديك ))(3).
(2) - عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث أنه لما صلى قام مستقبل القبلة منتصبا، فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضم أصابعه(4).
صفحة ١٨
(3) - عن أبي جعفر عليه السلام قال: (( إذا قمت إلى الصلاة فلا تلصق قدمك بالأخرى ودع بينهما فصلا إصبعا أقل ذلك إلى شبر أكثره، وأسدل منكبيك، وأرسل يديك ولا تشبك أصابعك، وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك ))(1).
(4) - وروي أيضا عن أبي جعفر أنه قال: ((لا تكفر إنما يصنع ذلك المجوس ))(2).
(5) - وروى أيضا فقال: (( وعن أحدهما يعني الصادق والباقر أنه سئل عن وضع اليمنى على اليسرى، فقال: ذلك التكفير فلا تفعل )). ونحوه حكى الشيخ محمد جواد مغنية(3).
(6) - وروى الشيخ الصدوق عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أنه قال من كلام طويل : (( لا تكفر إنما يصنع ذلك المجوس، وأرسل يديك وضعها على فخذيك، قبالة ركبتيك فإنه أحرى أن تهتم بصلاتك، ولا تشتغل عنها نفسك ))(4).
(7) - وعن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال: (( وضع الرجل إحدى يديه على الأخرى في الصلاة عمل، وليس في الصلاة عمل ))(5).
(8) - وعن علي عليه السلام أنه قال: (( لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي الله عز وجل يتشبه بأهل الكفر يعني المجوس ))(6).
وهنالك عشرات الروايات في كتبهم عن سائر الأئمة الاثني عشر، أقتصر منها على ما سبق.
hg
الفصل الثاني
الإرسال في مذهب إمام أهل السنة مالك بن أنس
يعتبر الإمام مالك بن أنس من أكابر أئمة الحديث والفقه، فقد جمع بين الدقة في رواية الأحاديث وحسن النظر في معانيها، إلى جانب أن وجوده في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبيئته وتعلمه من مشايخها مكنه من التعرف عن كثب على الكثير مما مضى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصا في المسائل العملية التي ورثها أهل المدينة في عصره عن جيل الصحابة رضوان الله عليهم.
صفحة ١٩
وقد كان إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليديه عند القيام في صلاة الفريضة من الأشياء المعروفة المألوفة عند أهل المدينة في الصدر الأول، مما جعل الإمام مالك مع شدة بحثه وتقصيه يقول عندما سئل عن وضع الكف على الكف في الصلاة : (( لا أعرفه في الفريضة )). وهو ثقة يحكي عن واقع يعيشه ويشاهده.
ونظرا إلى مكانة الإمام مالك العلمية، وقربه من عصر التشريع، وموقعه المتقدم بين أئمة أهل السنة، كان لكلمته في هذا الباب وزن كبير، مما جعل بعض المتحيزين يسعون إلى الخلاص مما روي عنه في هذه المسألة، فتارة يكتمونها، وتارة يروون عنه معارضا لها، وتارة يفلسفونها فلسفة بعيدة، فيزعمون أن الإمام مالك ما ترك الضم في الصلاة إلا لأنه ضرب على يده، فكان لا يستطيع أن يمسكها على صدره، وهذا تأويل غير مجد حتى مع صحة الحادثة؛ لأنه إن كان ضرب على يده فلم يضرب على لسانه، حتى يقول: (( لا أعرفه في الفريضة ))!!
ولكي يكون المطلع على بينة من الأمر، سنضع بين يديه بعض التفاصيل المتعلقة بما روي عن الإمام مالك في هذه المسألة فنقول:
اشتهر عن الإمام مالك بن أنس القول بالإرسال، وعليه مضى كبار أصحابه، وروي عنه التخيير بين الإرسال والضم، وحكي آخرون عنه أن الضم مندوب، فهذه ثلاثة مذاهب، سنفصلها جميعا فيما يلي:
المذهب الأول: الإرسال، وهو الأشهر والأكثر رواية، وعليه جمهور أصحابه، وأتباعه ممن لم يتأثر بالمذاهب الأخرى، كما هو الحال في سائر المذاهب، وقد روي عنه في ذلك روايات:
الرواية الأولى: الإرسال وكراهة الضم في صلاة الفريضة، وجواز الضم في النافلة.
ففي (مدونة فقه الإمام مالك): (( عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن الضم، فقال: لا أعرفه في الفريضة. وكان يكرهه ))(1).
صفحة ٢٠