توضيح الأحكام شرح تحفة الحكام

عثمان بن المكي التوزري الزبيدي ت. 1350 هجري
135

توضيح الأحكام شرح تحفة الحكام

تصانيف

أي هذا باب في بيان أركان الوكالة وحكمها وبيان ما يتعلق بها من اختلاف الوكيل والموكل وانعزاله وعدم انعزاله ونحو ذلك من لواحق الباب (والوكالة) لغة لها معان منها الشهادة كقول الله عز وجل {والله على ما نقول وكيل} أي شهيد لأن الشهيد وكيل بمعنى أنه موكول إليه قاله الرازي في سورة يوسف عليه السلام (ومنها) الحفظ والكفاية والكفالة وقد فسر بالثلاثة قول الله تعالى {ألا تتخذوا من دوني وكيلا} وفي المصباح وكلت الأمر إليه وكلا من باب وعد ووكولا فوضته إليه واكتفيت به والوكيل فعيل بمعنى مفعول لأنه موكول إليه ويكون بمعنى فاعل إذا كان بمعنى الحافظ ومنه حسبنا الله ونعم الوكيل والجمع وكلاء ووكلته توكيلا فتوكل قبل الوكالة وهي بفتح الواو والكسر لغة وتوكل على الله اعتمد عليه ووثق به واتكل عليه في أمره كذلك والاسم التكلان بضم التاء وتواكل القوم تواكلا اتكل بعضهم على بعض ووكلته إلى نفسه من باب وعد وكولا لم أقم بأمره ولم أعنه انتهى (وشرعا) عرفها الإمام ابن عرفة بقوله الوكالة نيابة ذي حق غير ذي إمرة ولا عبادة لغيره فيه غير مشروطة بموته فتخرج نيابة إمام الطاعة أميرا أو قاضيا أو صاحب صلاة والوصية اه أي فكل واحد من الأمير والقاضي وإمام الصلاة والوصي لا يسمى وكيلا في العرف وبعبارة أخرى فقول الشيخ نيابة ذي حق هو من إضافة المصدر إلى فاعله وقوله ذي حق أخرج به من لا حق له وقوله غير ذي إمرة بكسر الهمزة أخرج به نيابة إمام الطاعة أميرا أو قاضيا وقوله ولا عبادة أخرج به إمام الصلاة وقوله غير مشروطة # بموته أخرج به الوصية فالأربعة المذكورة لا يطلق عليها لفظ الوكيل عرفا وقوله لغيره متعلق بنيابة وكذا فيه وضمير لغيره عائد على صاحب الحق وضمير فيه عائد على الحق قال البناني في حاشيته على الزرقاني والظاهر أن هذا التعريف غير جامع لخروج قسم من أقسام الوكالة وهو توكيل الإمام في حق له قبل شخص فلو أسقط ذي من قوله ذي إمرة وجعل غير نعت لحق لكان شاملا لها تأمل انتهى (والأصل) في مشروعيتها الكتاب قال الله تعالى {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة} الآية وقال تعالى {والعاملين عليها} وقال عز وجل {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا}. والسنة فقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع على نكاح ميمونة وقد روى جابر بن عبد الله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له أني أريد الخروج إلى خيبر فقال ائت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته وقد وكل عمرو بن أمية الضمري على عقد نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان عند النجاشي وأم حبيبة رضي الله عنها اسمها كما في تاريخ الطبري رملة بنت أبي سفيان بن حرب وأمها صفية بنت أبي العاص ابن أمية بن عبد شمس عمة عثمان بن عفان تزوجها عبيد الله بن جحش فولدت له حبيبة فكنيت بها وكان عبيد الله بن جحش هاجر بأم حبيبة معه إلى أرض الحبشة ثم مات بها مرتدا وبقيت أم حبيبة على إسلامها قالت فلما انقضت عدتي جاءتني أبرهة جارية النجاشي وقالت أن الملك يقول لك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه فقلت لها بشرك الله بخير فقالت أن الملك يقول لك وكلي من يزوجك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه السلام أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة # بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقتها أربعمائة دينار ثم سكب الدنانير بين يدي القوم فتكلم خالد بن سعيد فقال الحمد لله أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة ابنة أبي سفيان فبارك الله لرسوله ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا فقال اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا وإنما أطلت بذكر هاته القصة لما فيها من الفوائد المهمة تاركا لما لا حاجة لنا به منها (وحكم) الشرع فيها لذاتها الجواز ويطرأ لها سائر الأحكام بحسب متعلقها كقضاء دين تعين لا يوصل إليه إلا بها والصدقة والبيع المكروه والحرام ونحو ذلك كما في البناني نقلا عن ابن عرفة. وفي ابن فرحون ولا تجوز الوكالة من المتهم بدعوى الباطل ولا المجادلة عنه قال ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى {ولا تكن للخائنين خصيما} أن النيابة عن المبطل المتهم لا تجوز بدليل قوله تعالى لرسوله عليه السلام {واستغفر الله أن الله كان غفورا رحيما} انتهى. وقال ابن العطار لا يصلح للرجل أن يوكل أباه ليطلب له حقه لأن ذلك استهانة للأب كما في الحطاب (وفيه) أيضا نقلا عن ابن سهل قال محمد بن لبابة كل من ظهر منه عند القاضي لدد وتشعيب في خصومة لا ينبغي أن يقبله في وكالة ولا يحل إدخاله اللدد على المسلمين (وحكمة) مشروعيتها التعاون والتعاضد ولا خفاء في ذلك من المصالح العامة إذ يعجز كل أحد عن تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه حتى جاز ذلك في بعض العبادات لطفا منه سبحانه ورفقا بضعفة الخليقة (وأركانها) ثلاثة العاقد والمعقود عليه والصيغة (فالصيغة) لفظ أو ما يقوم مقامه يدل على معنى التوكيل. والمعقود عليه أي الأمر الموكل فيه وهو ما تصح فيه النيابة كالبيع والنكاح والضمان لا ما كان كالصلاة والصيام والإيمان (قال) ابن العربي في أحكام القرآن والوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه # وقد مهدنا ذلك في كتب المسائل تحريره في خمسة وعشرين (الأول) الطهارة وهي عبادة تجوز النيابة منها في صب الماء خاصة على أعضاء الوضوء ولا تجوز على عركها إلا أن يكون المتوضيء مريضا لا يقدر عليه (الثاني) النجاسة (الثالث) الصلاة ولا تجوز النيابة فيها بحال بإجماع من الأمة وإنما يؤديها المكلف ولو بإشفار عينيه إلا في ركعتي الطواف (الرابع) الزكاة وتجوز النيابة في أخذها وإعطائها (الخامس) الصيام ولا تجوز النيابة فيه بحال إلا عند الشافعي وأحمد وجملة من السلف الأول وقد بيناه في مسائل الخلاف (السادس) الاعتكاف وهو مثله (السابع) الحج (الثامن) البيع وهي المعاوضة وأنواعها (التاسع) الرهن (العاشر) الحجر يصح أن يوكل الحاكم من يحجر وينفذ سائر الأحكام عنه. وكذلك الحوالة والضمان والشركة والإقرار والصلح والعارية فهذه ستة عشر مثالا. وأما الغصب فإن وكل فيه كان الغاصب الوكيل دون الموكل لأن كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه. ويتبع ذلك الشفعة والقرض. ولا يصح التوكيل في اللقطة. وأما قسم الفيء والغنيمة فتصح النيابة فيه. والنكاح وأحكامه تصح النيابة فيه كالطلاق والإيلاء يمين لا وكالة فيه. وأما اللعان فلا تصح الوكالة فيه بحال. وأما الظهار فلا تصح النيابة فيه لأنه منكر من القول وزور ولا يجوز فعله. والخيانات لا يصح التوكيل فيها لهذه العلة من أنها باطل وظلم. ويجوز التوكيل على طلب القصاص. واستيفائه. وكذلك في الدية. ولا وكالة في القسامة لأنها إيمان. ويصح التوكيل في الذكاة. وفي العتق وتوابعه إلا في الاستيلاد فهذه خمسة وعشرون مثالا تكون دستورا لغيرها وإن كان لم يبق بعدها إلا يسير فرع لها انتهى وقال القرافي الأفعال قسمان منها ما يشتمل فعله على مصلحة مع قطع النظر عن فاعله كرد الودائع وقضاء الديون ورد الغصوبات وتفريق الزكوات والكفارات ولحوم انتفاع أهلها بها وذلك حاصل ممن هي عليه لحصولها من نائبه ولذلك لم تشترط النيات في أكثرها (ومنها) ما لا يتضمن مصلحة في نفسه بل # بالنظر إلى فاعله كالصلاة فإن مصلحتها الخشوع والخضوع وإجلال الرب سبحانه وتعالى وتعظيمه وذلك إنما يحصل فيها من جهة فاعلها فإذا فعلها غير الإنسان فانت المصلحة التي طلبها صاحب الشرع ولا توصف حينئذ بكونها مشروعة في حقه فلا تجوز النيابة فيها إجماعا. ومنها قسم متردد بين هذين القسمين فتختلف العلماء رحمهم الله في أي الشائبتين تغلب عليه كالحج فإن مصالحه تأديب النفس بمفارقة الأوطان وتهذيبها بالخروج عن المعتاد من المخيط وغيره لتذكر المعاد والاندراج في الأكفان وتعظيم شعائر الله في تلك البقاع وإظهار الانقياد من العبد لما لم يعلم حقيقته كرمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة والوقوف على بقعة خاصة دون سائر البقاع وهذه مصالح لا تحصى ولا تصلح إلا للمباشر كالصلاة في حكمها ومصالحها فمن لاحظ هذا المعنى وهو مالك رضي الله عنه ومن وافقه قالوا لا تجوز النيابة في الحج ومن لاحظ الفرق بين الحج والصلاة ومشابهة النسك في المالية فإن الحج والشائبة الأولى أقوى وأظهر وهي التي تحصل في الحج بالذات والمالية إنما حصلت بطريق العرض كما تحصل فيمن احتاج للركوب إلى الجمعات فاكترى لذلك فإن المالية عارضة في الجمعات ولا تصح النيابة فيها إجماعا فكذلك ينبغي في الحج وهو الأظهر وبه يظهر رجحان مذهب مالك رحمه الله على غيره والله سبحانه أعلم اه وتعقبه ابن الشاط بوجود الخلاف في الصلاة والصيام أيضا (والعاقد) ويتناول الموكل بكسر الكاف والوكيل وإليهما أشار الناظم مع بيان الحكم بقوله

(يجوز توكيل لمن تصرفا ... في ماله لمن بذاك اتصفا)

صفحة ١٨١