فإذا أراد الله بهذا العبد خيرا ألقاه في ذنب يكسره به، ويعرفه قدره، ويكفي به عباده شره، وينكس به رأسه، ويستخرج به داء العجب، والكبر، والمنة عليه، وعلى عباده؛ فيكون هذا الذنب أنفع له من طاعات كثيرة، ويكون بمنزلة شرب الدواء؛ ليستخرج به الداء العضال+(53).
وهذا سر بديع من أسرار التوبة.
11_ أن الله يحب أن يتفضل على عباده: ويتم نعمه عليهم، ويريهم مواقع بره وكرمه؛ فلذلك ينوعه عليهم أعظم الأنواع في سائر الوجوه الظاهرة والباطنة.
ومن أعظم ذلك أن يحسن إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه.
وقد ندب عباده إلى هذه الشيم الفاضلة والأفعال الحميدة، وهو_عز وجل_أولى بها منهم وأحق.
وهذا سر من أسرار التوبة، وتقدير الذنوب والمعاصي.
هذا ولو شاء ألا يعصى في الأرض طرفة عين لم يعص، ولكن اقتضت مشيئته ما هو مقتضى حكمته.
12_ أن يعرف العبد حاجته إلى حفظ الله ومعونته وصيانته: وأنه كالوليد في حاجته إلى من يحفظه؛ فإنه إن لم يحفظه مولاه، ويصونه، ويعينه فهو هالك ولا بد.
13_ أن يعرف العبد حقيقة نفسه: وأنها الظالمة الجهول، وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة وتقوى_فهو من ربها الذي زكاها، وأعطاها إياه.
فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونقصها؛ فرتب له على ذلك حكم ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها، ويحفظها.
14_ تعريف العبد بكرم الله وستره، وسعة حلمه: وأنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتك ستره بين العباد؛ فلم يطب له عيش معهم أبدا.
ولكنه_عز وجل_جلله بستره، وغشاه بحلمه، وقيض له من يحفظه_وهو في حالته هذه_بل كان شاهدا عليه وهو يبارزه بالمعاصي والآثام، ومع ذلك يحرسه بعينه التي لا تنام.
صفحة ١٧