هواء ثلجي
امتلأت السماء صباح يوم الثلاثاء بغيوم مثقلة رمادية، لكنه ليس ذاك الرمادي الداكن الذي يميز غيمات نوفمبر المطيرة؛ إذ كانت درجة لونها أفتح. تشممت فاندا الهواء ورفعت رأسها مشبعة بالأمل نحو السماء، كانت في طريقها إلى محطة الأتوبيس، متأخرة كعادتها. وقد كان بالهواء هشاشة استشعرتها، وبحسب ما تحمل ذاكرتها فقد كانت تنتظر هذه اللحظة كل سنة؛ ففي مثل تلك الأيام كانت تنظر كل حين من النافذة. لم تكن تريد بأية حال أن تفوت اللحظة التي تتساقط فيها ندف الثلج الأولى، كما أنها كانت تريد أخيرا أن ترتدي حذاء الشتاء طويل الرقبة الذي جلبته معها من أمريكا.
كان أول ما فعلته حين وصلت المعهد هو كتابة رسالة إلكترونية لبيتر سنايدر. أوضحت له طلبها بإيجاز، لكنها تجنبت الإفصاح عن مصدر المادة التي كانت تريد أن ترسلها إليه بغرض تحليلها، كذلك طلبت منه النصيحة حول كيفية تفادي الجمارك الكندية. كان يوهانيس يظهر في غرفتها كل نصف ساعة، فيجلس على الكرسي المعيب واضعا فنجان قهوته على المكتب. بنفاد صبر كان يغير وضعية رافعة الكرسي التي تضبط ارتفاع الجلوس، ثم يستسلم سابا لاعنا. ويقول بضع كلمات عن وجوب تكهين هذا الكرسي، ثم يسحب كتابا من الرف مقلبا في صفحاته بلا هدف ثم يخرج ثانية. كان يوتر أعصابها. علي أن أبقيه خارجا، هكذا تقول لنفسها لتهدأ. كان يوهانيس يتمتع بأفضل إطلالة على «أفعى التايبان السامة»، هذا هو الاسم الذي أطلقوه على قطعة الأثاث بالمعمل التي يتم فيها الاحتفاظ بالمواد التي تشكل خطورة خاصة، وكل ما لا ينبغي أن تتداوله الأيدي، والأرجح أن المادة الخاصة بشركة بي آي تي تنتمي للصنف الثاني. كانت التسمية تشير في الواقع إلى ثلاجة مكتظة عن آخرها بالمواد الكيماوية الملصقة عليها صورة غير واضحة لرأس أفعى. كانت الثلاجة في معمل البيولوجيا الجزيئية يزينها قفل معلق مثل تميمة حماية، وحتى وقت قصير مضى لم يكن هذا القفل سوى التزام بتعليمات تخزين المواد الخطرة، وكان المفتاح متاحا للجميع على لوحة المفاتيح. أما تدوين المواد والكميات التي تم أخذها في سجل السموم، فكان أمرا متروكا للرقابة الذاتية، لكن قبل أسبوعين نقصت أمبولتان خاصتان بمواد مخدرة، ومن ساعتها أصبحت مراقبة حركة المواد السمية مهمة ميشائيل.
كانت زابينة قد وصفت ليوهانيس بالتحديد المكان الذي وضعت فيه العلبة آخر مرة، بما فيها من أسطوانات ثلاث بلاستيكية صغيرة. كانت المادة مركبة من ثلاثة عناصر: مادة فعالة، ومادة مذيبة، ومادة ثالثة رجحوا أنها نوع من المواد المحفزة. كانوا في حاجة للعناصر الثلاثة جميعها. كانت زابينة قد اقتصدت في استخدامها؛ ولذا فهذه هي الكمية المتبقية التي سيستخدمونها في التحليل. كان ثمة أمر إضافي يتعين عليهم مراعاته في الوقت المخصص لتنفيذ العملية، ألا وهو أنه رغم أن دولاب السموم كان متاحا للاستخدام - أو ربما لهذا السبب تحديدا - فإنه لم يكن منطقة محايدة، فمثله مثل أي ثلاجة في سكن مشترك ليس فيه نزاعات ظاهرة، لكنه مليء بالصراعات التي لا يمكن تجاهلها، فهي لا تبرد الأطعمة والأشربة فحسب، لكنها أيضا تسخن مشاعر البعض على البعض الآخر، ولعل الأمر يتعلق بمحتواها غير الصحي، حيث تصطدم بها شتى أنواع الطاقة السلبية، مهددة بالتراكم في محيطها. النزاعات على المساحة كانت أسوأها؛ لأنها كانت تحكم على المواد الخاصة بالحزب المعادي بالنفي في الزوايا الخلفية أو الأرفف الدنيا، وأحيانا يحدث ذلك بلا تفكير ولا سوء نية مبيت. كان عليهم إذن أن يتوقعوا أن المادة الخاصة بشركة بي آي تي قد لا تظل في المكان نفسه الذي خزنتها فيه زابينة المرة الأخيرة؛ لذا أملت فاندا بشدة ألا يضطر يوهانيس للبحث طويلا. سيتعين عليها هي أن تراقب الطرقة وتصرف انتباه أي شخص ينوي أن يتجه نحو معمل البيولوجيا الجزيئية، بالدخول في حديث معه إلى أن ينتهي يوهانيس من المهمة الحرجة. في الوقت نفسه كانت بيترا تؤدي واجبها الذي لم تحسدها عليه فاندا؛ إذ لم يكن ميشائيل هو النوع المفضل لها ، على العكس، كان ميله للاستسلام يثير غضبها، لكن ربما يكشف في العلاقة الحميمة عن جوانب لم يمكن التنبؤ بها. لم تكن فاندا تهتم بمعرفة التفاصيل. أهم شيء أن يصلوا إلى المادة دون أن يرتاب أحد في الأمر.
بدأ العاملون في مغادرة القسم في مجموعات صغيرة قرب الظهيرة. كانت فاندا قد تركت باب حجرتها مفتوحا لتنصت إلى وقع خطواتهم ورنين أصواتهم في تزايده وانحساره، وكلما ظنت أنهم ذهبوا جميعا، سمعت صوت قفل يوصد وخطوات أحدهم تسارع بالخروج، ثم ظهر رأس يوهانيس المحمر في إطار بابها. «حان الوقت.» «هل نسيت دواء ضغط الدم؟» قالت باقتضاب وتبعته عبر الطرقة.
أخذ يوهانيس نفسا عميقا. نظر يمينا ويسارا أمام باب غرفة ميشائيل ثم ضغط الأكرة. فتح الباب. لقد أنجزت بيترا الكثير، فميشائيل ذو الضمير اليقظ تخلى عن كل حذره وترك الباب غير موصد، يبدو أنه كان على عجلة من أمره. أما باحثا الدكتوراه اللذان يشاركانه الغرفة، فكانا مثل الآخرين في طريقهم إلى المطعم. انسل يوهانيس داخلا وأغلق الباب خلفه. أرهفت فاندا السمع، ثم ارتعدت فرائصها إذ سمعت صوت طابعة ليزر آتيا من غرفة السكرتارية. هل كانت بونتي لا تزال هناك؟ لم يكن بين غرفة السيدة المتصابية بونتي وغرفة ميشائيل سوى غرفتين. نظرت فاندا من باب غرفة السكرتارية نصف المفتوح. لا يصح أن تترك الطرقة غير مراقبة. كانت المتصابية بونتي تقف إلى جوار جهاز الفاكس تقرأ الرسالة التي وصلت للتو، يتدلى فضفاضا من على كتفيها معطف الفرو، أما شفتاها المزمومتان فوشتا بأنها في عجلة من أمرها.
قالت فاندا مشيرة إلى صندوق بريدها: «علي أن أتحقق منه سريعا.»
ردت بونتي بلمحة احتقار: «لا يأتي إلا مرة في اليوم»، ثم نظرت إلى فاندا متفحصة: «المفترض أنك صرت تعلمين ذلك.» «ظننت أني فوت شيئا اليوم.» ردت فاندا معتذرة، وأحنت رقبتها ثم ألقت نظرة خاطفة على الطرقة. لا حركة على الإطلاق. ابتهلت فاندا في سرها من أجل لحظة إضافية، فلا يجب أن تعرف بونتي متى سيخرج يوهانيس. «ألا يزال أحد هنا؟» سألت السكرتيرة وأشارت إلى الباب. في تلك اللحظة انسل يوهانيس من غرفة ميشائيل خارجا، وأصدر القفل صريرا خافتا وهو يغلق الباب بحذر. ابتسم ناحية فاندا وأخذ يلوح بالشريط المعلق به المفتاح منتصرا. رأت فاندا كيف خفت حمرة وجهه، ثم طار شيء فضي في أقواس عبر الهواء ليسقط على بعد عدة أمتار منه في نفس اللحظة التي دفعت فيها بونتي فاندا إلى الطرقة. لكن يوهانيس تصرف على الفور، فبسرعة البرق أخفى بيد الشريط اللافت للنظر في ردائه الأبيض، بينما التقطت الأخرى المفتاح. «غداء شهيا» قال يوهانيس واختفى بسرعة في معمل البيولوجيا الجزيئية، بينما أغلقت بونتي باب السكرتارية. لم يكن الباب المبطن يستقر بسهولة في الزوايا؛ لذا كان يلزمها أن تسحبه من الأكرة لتحكم وضع الترباس. أدارت المفتاح مرتين. وقد استأثرت تلك العملية بجل اهتمامها فلم تلاحظ شيئا، فتنفست فاندا الصعداء. «لو سأل «أحدهم» عني فإني هناك في المكتبة» أومأت فاندا. وهذا ليس بالنعت السيئ للرئيس. «أحدهم» يريد أن يحدثك، «أحدهم» يريد أن ينشر اسمه بشكل ضروري على البحث، حتى لو لم يسهم بشيء فيه، «أحدهم» قال لي اليوم في حديث خاص إني حققت الكثير رغم كوني امرأة. ورغم ذلك لا يمكن «لأحدهم» أن يستفيد من عملي في شيء. لا، فإن «أحدهم» لا يهتم به على الإطلاق. قررت فاندا أن لا أحد يمكن أن يكون بهذه الأهمية.
توجهت السيدة بونتي الآن بخطوات واثقة إلى الحمام الكائن إلى جوار غرفة النظافة. فكتمت فاندا أنفاسها، وتساءلت هل تذكرت بيترا أن توصد الباب؟ كانت المتصابية تهز الباب بقوة. «مغلق» فلتت الكلمة من بين شفتي فاندا بارتياح.
تلفتت السكرتيرة حولها. «لماذا؟» سألت بصوت عال، «هل الحمام به عطل ثانية؟» هزت رأسها مستنكرة، ثم سارعت بالخروج. وضعت فاندا كفيها على وجهها.
صفحة غير معروفة