على أن ما في الأديان من قدرة على تحويل النفوس مؤقت، ومن النادر أن تدوم المعتقدات زمنا كافيا فتبلغ درجة من الاشتداد ما تتحول به الأخلاق تحولا تاما؛ فالحلم لا يلبث أن يذوي، والمنوم لا يلبث أن يصحو قليلا، فيبدو أساس الأخلاق القديم مرة أخرى.
ومع ما تكون عليه المعتقدات من قدرة عظيمة تلوح الأخلاق القومية، دائما، من خلال النمط الذي تنتحل به هذه المعتقدات ومن خلال المظاهر التي تؤدي إليها، وانظروا إلى المعتقد الواحد في إنكلترة وإسپانية وفرنسة تجدوا الفروق عظيمة جدا! وهل كان الإصلاح الديني ممكنا في إسپانية ؟ وهل كانت إنكلترة تخضع لنير محاكم التفتيش الهائل؟ أفلا ترى بسهولة لدى الأمم التي انتحلت الإصلاح الديني أخلاق العروق الأساسية التي حافظت، بالرغم من تنويم المعتقدات، على صفات مزاجها النفسي الخاصة كالاستقلال والإقدام وعادة التعقل وعدم الخنوع لسيد؟
ولا مراء في أن تاريخ الأمم السياسي والفني والأدبي وليد معتقداتها، بيد أن المعتقدات مع تأثيرها في الأخلاق تتأثر بالأخلاق تأثرا عظيما، وإذا سألت عن أخلاق الأمة ومعتقداتها وجدتهما مفاتيح مصيرها. والأخلاق، لما كان من عدم تغيرها في عناصرها الأساسية، ومن عدم تغيرها وحده، تجد التاريخ محافظا على شيء من الوحدة على الدوام. والمعتقدات، لما كان من تغيرها، ومن تغيرها وحده، تجد التاريخ حافلا بالانقلابات.
وأقل تغير في معتقدات الأمة يؤدي إلى سلسلة من التطورات في حياتها بحكم الضرورة، ومما رأيناه في غضون فصل سابق أن رجال القرن الثامن عشر بفرنسة كانوا يبدون مختلفين عن رجال القرن السابع عشر. وما مصدر هذا الاختلاف؟
تجد مصدره في انتقال النفس من اللاهوت إلى العلم بين قرن وقرن، وفي معارضة التقاليد بالعقل، ومعارضة الحقيقة المنزلة بالحقيقة المشاهدة، وفي تحول منظر العصر في النظر إلى الأمور بسبب هذا التغير، ونحن إذا ما درسنا نتائج هذا التغير أبصرنا أن ثورتنا الفرنسية الكبرى وما أسفرت عنه، وما لا تزال تسفر عنه، من الحوادث هما نتيجة تطور للمبادئ الدينية.
واليوم إذا كان المجتمع المسن يرتج فوق أسسه، وكانت جميع نظمه ترتجف ارتجافا عميقا، فلأنه يخسر بالتدريج ما قام عليه حتى الآن من المعتقدات القديمة، وهو إذا ما تم فقده لهذه المعتقدات حلت محله حضارة جديدة قائمة على إيمان جديد بحكم الضرورة، ومما يدل عليه التاريخ أن الأمم لا تعيش طويلا بعد تواري آلهتها، وأن الحضارات التي قامت بفعل هذه الآلهة تموت معها، فلا شيء أشد تخريبا من عفر الآلهة الميتة.
الفصل الثالث
شأن عظماء الرجال في تاريخ الأمم
عندما بحثنا في مراتب العروق وتفاوتها رأينا أن أعظم فارق بين الأوربيين والشرقيين هو ما لدى الأوربيين من صفوة رجال عالية ، ولنحاول أن نبين في بعض السطور حدود شأن هذه الصفوة.
يتألف من كتيبة أفاضل الرجال الصغيرة التي تشتمل عليها الأمة المتمدنة، والتي تكفي إزالتها في كل جيل لخفض مستوى هذه الأمة خفضا عظيما - تجسد قوى العرق، وإلى هذه الكتيبة يرجع الفضل فيما يتم من التقدم للعلوم والفنون والصناعة؛ أي لجميع فروع الحضارة.
صفحة غير معروفة