وبتكرار الأمور الأبدي، الذي يبدو أنه أقوى سنن التاريخ، ترانا اليوم مدعوين على الأرجح إلى مثل تلك الغزوات السلمية التي أدت إلى تحويل الحضارة الرومانية، وقد يدعو انتشار الحضارة الحديثة العام إلى الاعتقاد بأنه لا برابرة اليوم، أو أن البرابرة التائهين في سواء آسية وإفريقية هم من البعد منا بحيث لا نخشى غزواتهم، وليس لدينا ما نخاف به مغازيهم لا ريب، وأنهم لن يصبحوا خطرين علينا إلا بمزاحمتهم الاقتصادية التي سيوجهونها إلى أوربة ذات يوم كما بينت في كتاب آخر، وليس أولئك هم الذين نقصدهم هنا إذن. والبرابرة قريبون في الحقيقة وإن بدوا بعيدين، وهم أقرب جدا مما كانوا أيام أباطرة الرومان؛ وذلك لوجودهم في صميم الأمم المتمدنة بالواقع، وترى كل أمة تشتمل على عدد كبير من العناصر الدنيا العاجزة عن ملاءمة حضارة تفوق مستواها كثيرا لما تكلمت عنه من تعقد حضارتنا الحديثة ومن تفاوت الأفراد بالتدريج، وهكذا يتكون سقط كبير لا ينفك يزيد فيكون عمله هائلا في الأمم التي تبتلى به.
واليوم يتجه أولئك البرابرة الجدد نحو الولايات المتحدة بأمريكة كما لو كانوا مجمعين على ذلك، واليوم ترى أولئك البرابرة يهددون حضارة تلك الأمة العظيمة تهديدا جديا، ويكون الهضم سهلا نافعا ما دامت هجرة الأجانب إلى ذلك البلد نادرة، وما دامت مؤلفة من عناصر إنكليزية على الخصوص، وهجرة كهذه أوجبت عظمة أمريكة، واليوم تخضع الولايات المتحدة لغزو هائل من عناصر منحطة لا ترغب في هضمها ولا تقدر على امتصاصها، وقد دخل الولايات المتحدة نحو ستة ملايين مهاجر من أدنياء العمال المنتسبين إلى جميع الأصول بين سنة 1880 وسنة 1890، ولا تجد اليوم بين أهالي شيكاغو البالغ عددهم 1100000 شخص غير الربع من الأمريكيين، وتشتمل هذه المدينة على 400000 ألماني و220000 إيرلندي و50000 بولوني و5500 شيكي إلخ، ولا تبصر أي امتزاج بين هؤلاء المهاجرين والأمريكيين، ولا يبالي أولئك المهاجرون بتعلم لغة وطنهم الجديد، وفي وطنهم الجديد هذا ينشئون مستعمرات بسيطة ذات أعمال زهيدة الأرباح، وأولئك هم من الساخطين إذن، وأولئك هم من الأعداء إذن، وكاد أولئك يحرقون مدينة شيكاغو حين إضراب عمال الخطوط الحديدية الكبير، فقضت الضرورة بضربهم بالمدافع الرشاشة بلا رحمة، ومن أولئك وحدهم يجمع أشياع الاشتراكية المسوية الثقيلة التي قد تحقق في أوربة المنهوكة، والتي هي منافية لخلق الأمريكيين الحقيقيين منافاة تامة، وما قد تسفر عنه هذه الاشتراكية من المنازعات فوق أرض تلك الجمهورية العظمى سيكون، بالحقيقة، منازعات عروق بلغت من التطور درجات مختلفة.
ومما يلوح واضحا أن النصر لا يكتب للبرابرة في الحرب الأهلية التي تعد بين أمريكة الأمريكيين وأمريكة الأجانب، ولا ريب في أن هذه الحرب الضروس ستنتهي بملحمة تقع بمقياس واسع على غرار ملحمة ماريوس حين استأصل شأفة السنبر استئصالا كاملا، وإذا ما تأخر النزاع قليلا، وإذا ما استمر الغزو، لم يكن الحل إبادة تامة، بل يصيب الولايات المتحدة مثل ما أصاب الإمبراطورية الرومانية على الأرجح، بل ينفصل بعض ولايات الجمهورية الحاضرة عن بعض فتقوم دول مستقلة منقسمة متحاربة بلا انقطاع كما يقع في أوربة وفي أمريكة الإسپانية.
وليست أمريكة وحدها هي المهددة بمثل تلك الغارات، فقل مثل ذلك عن فرنسة أيضا، وفرنسة بلد غني لا يزيد عدد سكانه، وفرنسة محاطة ببلدان فقيرة يزيد عدد سكانها باستمرار، وهجرة هؤلاء الجيران إلينا أمر محتوم، وهو يزيد حتما كلما أوجبت مطاليب عمالنا المتصاعدة تلك الهجرة قضاء لاحتياجات زراعتنا وصناعتنا، وما يجده هؤلاء المهاجرون فوق أرضنا من الفوائد أمر واضح، وتتجلى هذه الفوائد في عدم خضوعهم لنظامنا العسكري وفي دفعهم قليل ضرائب أو في عدم دفعهم ضرائب؛ لأنهم من الغرباء المتنقلين، وفي قيامهم بأعمال أسهل مما يقومون به في بلادهم وأجزل أجرا مما ينالونه في ديارهم، ولا يقصد أولئك المهاجرون بلادنا لغناها العظيم وحده، بل يقصدونها أيضا لأن معظم البلدان الأخرى يضع كل يوم من التدابير ما يؤدي إلى دحرهم.
والذي يزيد في خطر غارة الأجانب هو أنها تقوم بحكم الطبيعة على عناصر منحطة؛ أي على أناس تعذر عليهم أن يعيشوا في وطنهم الذي يهجرونه، وإن من مقتضيات مبادئنا الإنسانية أن يقضى علينا بمعاناة غزو من الأجانب زائد، وإن عدد هؤلاء كان 400000 شخص منذ أربعين عاما فغدا اليوم 1200000 شخص، ونرى صفوفهم تتراصف كل يوم أكثر من قبل، ولو لم ننظر إلى غير الطلاينة الذين تشتمل عليهم مرسيلية لوجدنا هذه المدينة مستعمرة إيطالية، وإذا لم تقف تلك الغارات فإنه لا يمضي غير وقت قصير حتى يكون ثلث سكان فرنسة من الألمان، وثلث آخر من الطليان. وما تكون وحدة أمة، وما تكون حياة أمة هذه هي أحوالها؟ ألا إن أسوأ المصائب في ميادين القتال أخف هولا من مثل تلك الغارات، ألا إن من الغرائز الصادقة أن كانت الأمم الغابرة تخشى الأجانب، ألا إن هذه الأمم كانت تعرف جيدا أن قيمة البلد لا تقاس بعدد سكانه، بل بالأصليين من أبنائه.
وفيما تقدم نرى مسألة العروق المحتومة أساسا لجميع المعضلات التاريخية والاجتماعية على الدوام، وتلك المسألة هي التي تهيمن على سواها.
هوامش
الباب الرابع
كيف تتغير أخلاق العروق النفسية
الفصل الأول
صفحة غير معروفة