وعدم الإدراك ذلك لأنه يسود ما بين مختلف الأمم من صلات، ونحن لأننا نود أن نحكم في أمر تلك الأمم بمشاعرنا وأفكارنا الشخصية، كان من الصعب أن يبصر سير الأمم الأجنبية وسادتها في حال ما، ولنا في الحرب الأوربية عدة أمثلة؛ ومنها أن ما لدى أولياء الأمور بألمانية من غفلة نفسية أدى إلى تأليب بلاد كإنكلترة وإيطالية عليها ظانين أن هذه البلاد مما يجب أن يعتمد على صداقته أو حياده.
وما كان لروح التوتون (الألمان) النفعية أن تبصر أن احترام إمضاء المعاهدات، الذي هو أساس جميع الحياة التجارية بإنكلترة، مما يوجب قيام هذه الأمة المسالمة ضد ألمانية، وأن اضطرار بلجيكة الضعيفة إلى الدفاع عن نفسها يحملها على الوقوف في وجه قاهرها القوي.
وعدم إدراك مثل هذا تجلى فينا أيضا؛ فقد نسينا ما قد يكون لروح الأموات من السلطان الهائل على الأحياء، فاعترانا الدهش من صولة تلك الجيوش الهمجية التي حرقت المدن والآثار بدم بارد، وقتلت السكان العزل من السلاح بدم بارد، وما كان الألمان في ذلك إلا مكررين أعمال أجدادهم في ذلك. نعم، لاح أن الحضارة ألانت طبائع الألمان، بيد أن ما كان منسيا من القسوة في أيام السلم، لتعذر إبدائه، لم يزل، فظل التراث سليما. •••
ومن الطبيعي أن تظل المعضلة التي أثارها اختلاف العروق وما ينجم عنه من نفور باقيين بعد الحرب، فيكون أشد المصاعب في المستقبل تعديل زمر الأمم المتحاربة في جميع أوربة، ولا سيما بلاد البلقان.
وتبدو صعوبة تلك المعضلة عند النظر إلى وحدة الدين واللغة والمصالح بأشد مما قد تبدو في قيام القومية على العرق وإن كان على وجه أبسط من ذلك في هذه الحال، ومما يؤسف عليه في أمر دوام السلم الأوربية القادمة أن كان من النادر اجتماع هذه العناصر الأربعة في أمة واحدة.
وسيظل تباين العروق، لطويل زمن، مصدر اصطراع بين الأمم الناقصة التمدن على الخصوص، كأمم البلقان التي لم يسطع شيء أن يسكن أحقادها المتأصلة.
ولا يؤثر الزمان في تباين العروق إلا بأقصى البطوء، وإذا لاح أحيانا تغير أمة فإن بعض الأحوال لا يلبث أن يكشف أن هذه التغيرات لم تكن في غير الظاهر، وأنها لم تتناول غير ما في الشخصية من النواحي الثانوية.
ولا تكفي تقلبات البيئة ولا الفتوح لتغيير روح الشعب، ولا يمكن تحول الشعب إلا بالتوالد المكرر، وما كانت الأرض ولا النظم ولا الديانة لتغير روح العرق.
على أن التوالد لا يكون مؤثرا إلا إذا وقع بين أمم ذات نفسية متقاربة، ولا يكون التوالد إلا مضرا بين أمم ذات نفسية شديدة الاختلاف، ولا يكون لتزاوج البيض والسود والهندوس والپوروج (أصحاب الجلود الحمر) نتيجة سوى انحلال ما في حصائل هذا التزاوج من عناصر الثبات النفسي الموروث، وذلك من غير إحداث ما يقوم مقامها، وتظل قيادة الأمم المولدة؛ كأمم المكسيك، وأمم الجمهوريات الإسپانية الأمريكية، أمرا متعذرا؛ لأنها مولدة فقط، وقد أثبتت التجربة أن أي نظام أو تربية لم يقدر على إخراج هذه الأمم من الفوضى. •••
قلنا آنفا إن من أسباب الحرب الأوربية الرئيسة هو ما تسرب في أدمغة الألمان بالتدريج من الفكر القائل إن الألمان قوم عالون أعدوا لفتح العالم.
صفحة غير معروفة