بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نواله، والصلاة على محمد وآله، هذا تصحيح اعتقاد الامامية (1) للشيخ أبي جعفر بن بابويه - رضي الله عنه - تأليف الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان - رحمه الله - (2).
---
(1) الاعتقاد هو المحرك الاول نحو الفعل، والمهيئ الاول لقبول الاثر وللاخلاق والعواطف المنزلة الثانية من التأثير والاعداد مهما كانت قوية التأثير، فالاعتقاد هو العامل الاول بكل معنى الكلمة، وله أثر عظيم في تقدم الافراد والامم، والمدخلية العظمى في تسافل الانسان وفشل أعماله، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بحسن العقائد، وكم تدهورت امم عظمي في هوة الانقراض من سوء الاعتقاد. فإذا كان الاعتقاد بهذا الشأن فالاهتمام بتصحيح الاعتقاد فريضة فوق الكل، ولما كانت مقالات الصدوق أبي جعفر في عقائده مشوبة بآرائه الشخصية - كما سيأتي - وبصورة موهمة الحكاية عن كافة الشيعة، نهض لنقدها شيخ الامامية، وغرة رجال الاصلاح، المفيد محمد بن محمد بن النعمان - قدس سره - لتنزيه المذهب عن الشانئات والشائبات، ولتصحيح عقائد المسلمين من غرائب الاراء والاهواء، إذ الاعتقاد - كما سلف - هو المحرك الاول (أيما إلى جنة أيما الى نار). ش. (2) ومفتتح النسخة التي هي بخط أحمد بن عبد العالي الميسي العاملي هكذا: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين. قال الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه في قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) والساق وجه الامر وشدته. قال الشيخ المفيد: ومعنى قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) يريد به يوم القيامة... الخ. چ.
--- [ 28 ]
صفحة ٢٧
معنى كشف الساق قال الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ه في رسالة اعتقاداته (ا) في معنى قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود) (2) الساق: وجه الامر وشدته (3) (4). قال الشيخ المفيد: معنى قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) (5) يريد به
---
(1) الاعتقادات للشيخ الصدوق ص 23. (2) ا لقلم: 42. (3) فالاية المذكورة تهدد المشركين الذين أنفوا من السجود لرب العالمين فتوعدهم بمجئ يوم عصيب (ولو في هذه الدنيا ومن بعد فتح مكة) تتجلى فيه عظمة دين التوحيد، وقوة تعاليم القرآن، فيرغمون فيه على عبادة الله ويدعون الى السجود. ولفظة (كشف الساق) على وجازتها تشير إلى لطيفتين، إحداهما: شدة الحالة الداهية، والثانية: تجليات الحقائق الاسلامية في المستقبل، لان العرب تكني بكشف الساق عن هاتين الحالتين، وقد جرت عاداتهم على كشف الساق عند استقبال أوحال الطريق والغمرات، وعلى الكشف عن ساق الجارية قبل شرائها أو بعده لمعرفة عيوبها والمحاسن، فأين الاية من الدلالة على ساق الرب تعالى عنه، سيما مع تنكير الساق وعدم إضافته إلى أحد ؟ ! ش. (4) راجع بحار الانوار 3: 309 - 339 وج 4: 1 - 25. (5) هذا ابتداء الرد على المجسمة، وهي فرقة عرفت بعد القرن الاول الهجري، وتفشت في المسلمين، ودعواها جواز وصف الله تعالى أوصاف الانسان الجسمانية والنفسانية، وأن له=
--- [ 29 ]
صفحة ٢٨
يوم القيامة [ يكشف فيه ] (1) عن أمر شديد صعب عظيم، وهو الحساب والمداقة (2) على الاعمال، والجزاء على الافعال، وظهور السرائر وانكشاف البواطن، وا لمداقة (3) على الحسنات والسيئات، فعبر بالساق عن الشدة، ولذالك قالت العرب فيما عبرت به عن شدة الحرب وصعوبتها: (قامت الحرب على ساق) و(قامت الحرب بنا على ساق) وقال شاعرهم أيضا وهو سعد بن خالد: كشفت لهم عن ساقها * وبدا من الشر الصراح وبدت عقاب الموت * يخفق تحتها الاجل المتاح ومن ذلك قولهم: قد قامت السوق، إذا ازدحم أهلها واشتد أمرها با لمبايعة والمشاراة، ووقع الجد في ذلك والاجتهاد.
---
= تعالى يدا وجنبا وعينا واذنا وقدما وساقا... إلخ، حتى كشف زعيمهم عن ساقه وقال (لله ساق كهذه) ولهجت عامتها بخرافات يأنف اليراع من إيرادها. وسبب انتشار دعواهم قصور كثير من الناس عن تفسير متشابهات القرآن وتمييز وجوه أمثالها ومجازاتها الرائعة عند العرب، فصاروا يفسرون الظواهر من مثل (قدم صدق) (يونس: 2) و(يكشف عن ساق) و(مطويات بيمينه) (الزمر: 67) ومئات آيات اخرى بنحو ما يفهم من الكلمة في أصل اللغة، وقد أوضحنا تفاسيرها جميعا في (المحيط) وفي (الدلائل) وغيرهما. ش. (1) (ز) (ش): ينكشف به. (2 و3) (ق) (ش): والموافقة ، (ز) (م): والمدافعة.
--- [ 30 ]
صفحة ٢٩
[ تأويل اليد ] فصل: ومضى في كلام أبي جعفر - رحمه الله - شاهد اليد عن القدرة قوله تعالى: (واذكر عبدنا داود ذا الايد) (1) فقال: ذو القوة (2). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: وفيه وجه آخر وهو أن اليد عبارة عن النعمة، قال الشاعر: له علي أياد لست أكفرها * وإنما الكفر ألا تشكر النعم فيحتمل أن قوله تعالى: (داود ذا الايد) يريد به ذا النعم، ومنه قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) (3) يعني نعمتيه العامتين في الدنيا والاخرة.
---
(1) ص: 17. (2) الاعتقادات ص 23، مجمع البيان 4: 469، التوحيد: 153 / 1. (3) قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) هي الاية الرابعة والستون في سورة المائدة، وتمامها: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)... إلخ، استعارة أسماء الجوارح للمعانى والمجردات سائغة وشائعة كقوله تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) البقرة: 238. وليس للنكاح عقدة محسوسة ولا انشوطتها في كف ولي الزوج الحسية، فمن الجهل الفاضح توقف المجسم من تأويل اليد في الكتاب والسنة. وفي الحديث النبوي: الحجر الاسود يمين الله في أرضه، وقد حكى اتفاق الظاهرية، حتى الامام أحمد بن حنبل على وجوب تأويل هذا الحديث، فليست الاستعارة عار الكلمة لو=
--- [ 31 ]
صفحة ٣٠
[ نفخ الارواح ] (1) أبو جعفر - رحمه الله - في قوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) (2) فقال: هي روح مخلوقة أضافها إلى نفسه كما أضاف البيت إلى نفسه وإن كان خلقا له.
---
= لم تكن زينتها، ولا هي بدعا في العربية، بل هي سنة البلغاء من كل الامم، فللجميع تعابير شكوى من يد الزمان حيث لا يد للزمان ولا جسد، ولهم الشكوى من يد المنون وليس بذي يد. وقال الشاعر الجاهلي: (وإذا المنية أنشبت اظفارها)... إلخ، وأنى للمنايا من أكف أو أظافير، فهل يحمل المجسم كل هذه الكلم على حقائقها اللغوية المحسوسة، أم يختار فيها وفي أمثالها ما نرجحه في آية: (لما خلقت بيدي) (ص: 75) ؟ وإذا جاز المجاز في القران ولو مبدئيا فلنا على تأويل اليد في خصوص هذه الاية شاهدان منها عليها، أحدهما: جملة (غلت أيديهم) فان أيدي اليهود المحسوسة لم تغل بأغلال محسوسة، وإنما ذلك منه كناية عن خزي وعار لحقا بهم ، وثانيهما: جملة (ينفق (برحمته) كيف يشاء) فانه دليل إرادة النعمة من كلمة اليد - كما اختاره الشيخ المفيد وغيره. وفي القرآن شاهد ثالث في (سورة الاسرى: 29): (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط)... إلخ، فان مغلة اليد فيها كناية عن الشخ والتقتير، وبسطها كناية عن التبذير والسرف في الصرف أو العطاء، والقرآن يفسر بعضه بعضا. ش. (1) الاعتقادات ص 23. (2) قوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) (الحجر: 29) لا يسع الناس حتى المجسمة المشبهة والظاهرية أن يجمدوا على ألفاظ (نفخت فيه من روحي) دون أن يتاولوا المجاز فيها، لان النفخ الشائع بالهواء إن جوزوه على الالات أو من الالات فلن يجوزه على الروح أو من الروح أحد حتى الحشوي الجهول، وإذا تعذرت الحقيقة فأنسب المجازات اثخاذ النفخ استعارة عن الحركة=
--- [ 32 ]
صفحة ٣١
قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: ليس وجه إضافة الروح [ والبيت ] إلى نفسه (1) والنسبة إليه من حيث الخلق فحسب (2)، بل الوجه في ذلك التمييز لهما بالاعظام والاجلال والاختصاص بالاكرام والتبجيل من جهة التحقق بهما، ودل بذلك على أنهما يختصان منه بكرامة وإجلال لم يجعله لغيرهما من الارواح والبيوت (3)، فكان الغرض من ذلك دعاء الخلق إلى اعتقاد ذلك فيهما والاعظام لهما به.
---
= التدريجية المحسوسة في نمو الانسان تشبيها لها بحركة الجراب المنفوخ أو نحوه فيه، فالتشابه بين نمو الانسان وبين الحركة التدريجية المحسوسة في الجراب المنفوخ يسوغ استعارة لفظ النفخ لمعنى نمو الجسد المحسوس من ولوج الروح فيه، فترى القرآن يصور نمو الانسان من محرك خفي في داخله أعني الروح الشبيهة بحركة الجراب من محرك خفي في داخله أعني الريح، ولكن بتصوير بليغ في لفظ وجيز. أما الروح فهي بمعناها الشائع وغنية عن كل تأويل، والنرض منها الاشارة إلى نمو الانسان في بدء أمره بواسطة الروح غير أن المهم هو كشف السر عن سر إضافتها إلى الله تعالى، فان الاضافات تختلف وجوه الاعتبارات فيها حسب اختلاف المضافات، فالخلق عبيد الله باعتبار رقيتهم له، والرقية من أظهر صفات العبيد، والانبياء سفراء الله باعتبار ابلاغهم أحكام الخالق إلى الخلائق، وهذا التبليغ من أظهر صفات السفراء، والكعبة بيت الله باعتبار اجتماع المسلمين فيها كاخوة، ومن أظهر مزايا البيت جمع شمل الاخوة والعائلة، والمسيح روح الله باعتبار ظهور الكمالات الملكوتية فيه، ومن أظهر صفات الروح أنها مرآة كمالات الملكوت. إذن فالروح تستحق الاضافة الى الله بهذا الاعتبار، إذ هي مرآة كمالات الملكوت والمظهر الاتم لكمالات الرب وأسراره الغيبية، وهذه الوجوه أرضى من أوجه الشيخين الجليلين. ش. (1) أي في الايات الكريمة: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أن طهرا بيتي للطائفين) (سورة البقرة: 126) - (وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين) (سورة الحج: 26). ج. (2) (أ) (ح) (ز) (ش) (ق) (م): حسب. (3) (ق): والبيوتات.
--- [ 33 ]
صفحة ٣٢
[ حكمة الكناية والاستعارة ] فصل: والذي قاله أبو جعفر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) (ا) أن المراد: بقدرتي وقوتي (2). قال أبو عبد الله: ليس هذا هو الوجه في التفسير، لانه يفيد تكرار المعنى، فكأنه قال: بقدرتي وقدرتي أو بقوتي وقوتي، إذ القدرة هي القوة والقوة هي القدرة (3)، وليس لذلك معنى في وجه الكلام، والوجه ما قدمناه من ذكر النعمة،
---
(1) قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) (سورة ص: 75) لا يفوتك أن القرآن (حسبما أوضحناه) يستعمل أفانين البلاغة كأبلغ خطيب، وقد جرت سنة البلغاء في كافة الامم على الاهتمام بصب الكلام مصبا محسوسا لتمثل عند المخاطب معانيهم كأنه يراها محسوسة لديه ومركوزة نصب عينيه، ولاجل البلغة إلى هذا الغرض المهم سلكوا سبل الكناية والاستعارة، إذ فيهما إقامة المحسوس مقام المعقول بعد ثبوت الملازمة أو المحاكاة بينهما نظير حكاية الاسد عن الشجاعة أو العقرب عن إيذاء الصديق، فعند التعبير بهما عن هذين المعنيين يتمثل المعقول محسوسا ونافذا في الخواطر، هذه حكمة الكنايات والاستعارات ومن ذلك استعارة اليد عن القوة والاحسان، إذ ليس في أعضائك عضو يقوم بخدمتك أو يظهر عملك وقولك مثل يديك، لذلك استحقت اليد أن يؤتى بها حاكية وممثلة عن القوة والبطش تارة، وعن الانعام والاحسان اخرى، كما ذهب إليه الشيخان الجليلان، وقد أوضحنا الامر في تأويل آية: (بل يداه مبسوطتان). ش. (2) الاعتقادات ص 23، مجمع البيان 4: 485، التوحيد: 153 / 1، 2. (3) فيه نظر. ش ظ.
--- [ 34 ]
صفحة ٣٣
وأن المراد بقوله: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) إنما أراد به نعمتي اللتين هما في الدنيا والاخرة. والباء في قوله تعالى: (بيدي) تقوم مقام اللام، فكأنه قال: خلقت ليدي، يريد به لنعمتي، كما قال (1): (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) (2) والعبادة من الله تعالى نعمته عليهم، لانها تعقبهم ثوابه تعالى في النعيم الذي لا يزول، وفي تأويل الاية وجه آخر، وهو: أن المراد باليدين فيها هما (3) القوة والنعمة، فكأنه قال خلقت بقوتي ونعمتي، وفيه وجه آخر وهو، أن إضافة اليدين إليه إنما اريد به تحقق الفعل له وتاكيد إضافته إليه وتخصيصه به دون ما سوى ذلك من قدرة أو نعمة أو غيرهما، وشاهد ذلك قوله تعالى: (ذلك بما قدمت يداك) (4) وإنما أراد: ذلك بما قدمت من فعلك، وقوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) (5) والمراد به: فبما كسبتم. والعرب تقول في أمثالها: (يداك أوكتا وفوك نفخ) (6) يريدون به أنك فعلت ذلك وتوليته وصنعته واخترعته وإن لم يكن الانسان استعمل به جارحتيه اللتين هما يداه في ذلك الفعل.
---
(1) فيه نظر ش ظ. (2) الذاريات: 56. (3) (ش) (ح) (ق): هو. (4) الحج: 10. (5) الشورى: 30. (6) قال العلامة أبو الفضل الشيخ أحمد الميداني المتوفى سنة 518 ه في تأليفه النفيس (مجمع الامثال - ص 335 ج 2 ط مصر 1342 ه *: قال المفضل أصله أن رجلا كان في جزيرة من جزائر البحر فاراد أن يعبر على زق قد نفخ فيه فلم يحسن احكامه حتى إذا توسط البحر خرجت منه الريح فغرق فلما غشيه الموت استغاث برجل فقال له: (يداك أوكتا وفوك نفخ، يضرب لمن يجني على نفسه الحين)) وكى القربة: سدها بالوكاء: رباط القربة. انظر (فرائد اللال في مجمع الامثال - ص 363 ج 2 ط بيروت 1312 ه) لوحيد عصره العلامة الشيخ إبراهيم الاحدب (المتوفى سنة 1308 ه). چ. * قال قاضي القضاة أحمد بن خلكان (المتوفى بدمشق سنة 681 ه عن 73 سنة) في كتابه النفيس (وفيات الاعيان - ص 6 ج 2 ط مصر 1355 ه): وأتقن (يعني الميداني) فن العربية خصوصا اللغة وأمثال العرب. وله فيها التصانيف المفيدة، منها كتاب (الامثال) المنسوب إليه، ولم يعمل مثله في بابه. چ.
--- [ 35 ]
صفحة ٣٤
[ المكر والخدعة من الله، معنى الله يستهزئ بهم ] فصل: وذكر أبو جعفر - رحمه الله - (1) في قوله تعالى: (يخادعون الله وهو خادعهم) (2)
---
(1) الاعتقادات ص 25، التوحيد: 163 / 1 و159 - 160 / 1. (2) قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) إلخ (النساء: 142) سيأتي الاصل في آية: (الله يستهزئ بهم) ونوضح أن العرف من عرب وغيرهم يتمثلون في أغلب محاوراتهم استعارة بالعمل عن أشباهه وما على شاكلته فيقولون (نام فلان عن حقه وتحزم لحق غيره) فلا يخطر ببالهم الحزم والمنام المحسوسان، وإنما يريدون أنه يعمل عملا يشبه بالنائم عن حق نفسه أو المتحزم لخدمة غيره، كما يقال لمن قعد عن طلب نصيبه أو ضيع فرصة متاحة: لقد كنت نائما أو غائبا، وإن كان حاضرأ واعيا، لان عمله يشبه عمل النائم والغائب دون عمل الواعي الحاضر، كذلك الذين يثشبثون لاهوائهم وشهواتهم بدسائس التمويه والتطلية والحيل الشرعية والتزوير في التسمية كأنهم يمكرون ويخدعون الله، ثم إن الله تعالى في إسقاطهم على غرة يشبه من يقابلهم بالمكر والخديعة في حين أنه ليس مكرا في الحقيقة، وإنما هو تأديب بعد استدراج، وبعد إنذار واحتجاج، وبهذه المناسبة وصف الله بأنه خير الماكرين وخادع المنافقين. إن الماكرين أو الخادعين لا يعملون لغاية مقدسة ولا يسبق منهم إنذار لمن في وجههم أو إعلامه لكنما الله سبحانه يعمل لغاية قدسية كالتأديب، ويعمل بعد الانذار والمواعيد لعلهم يحذرون ويتقون، فهي وأشباهها بحسب الاصطلاح استعارة، لكن الشيخين الجليلين حسباها من المجاز المرسل. ش.
--- [ 36 ]
صفحة ٣٥
و: (نسوا الله فنسيهم) (1) و: (ومكروا ومكر الله (2) و: (الله يستهزئ بهم) (3):
---
(1) التوبة: 67. (2) آل عمران: 55. (3) قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) (البقرة: 16) إن بلاء الظاهرية وأعني بهم الغلاة المتمسكين بالظواهر المأثورة ليس على الدين والمسلمين بأقل من بلاء الباطنية وأعني بهم الغلاة في التمسك ببواطن الاثار واعتبارهم ظواهر النقل العرفية قشورا، وما هؤلاء وأولئك سوى طرفي إفراط وتفريط في الحقيقة، وأحرى بهم أن يعدلوا عن تطرفهم ويسلكوا مذهب التوسط والاعتدال، فان للقرآن والحديث ظواهر مقصودة عند التخاطب مثل : (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (البقرة: 44) و(أحل الله البيع وحرم الربا) إلى آخره (البقرة: 276) مجمعا عليها بالضرورة. كما أن في القرآن والحديث ألفاظا لا يراد منها معانيها اللغوية الاصلية المبذولة، وإنما قصد منها معان عرفية يتقبلها عرف التخاطب على سبيل التجوز والتشبيه كآية: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) (البقرة: 20) أو حديث: (الحجر الاسود يمين الله في أرضه) فلا ترى العقلاء إلا مجتمعين على صرف هذه الالفاظ عن مفاهيمها اللغوية الاصلية إلى معان ثمثيلية رائجة الاستعمال في محاورات العرف من كل امة، فتجد العرف يقولون (فلان نام عن ميراث أبيه وتحزم لمنازعة السلطان) أي عمل شبيه عمل الانئم أو شبيه المتحزم دون أن يقصد النوم الاصلي أو الحزام الحقيقي، قال الشاعر: لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب برأسه فبكى وليس المشيب في الحقيقة إنسانا يضحك، لكنه يعمل بالرجل شبه عمل الضاحك المستهزئ، وكذلك الله سبحانه يعمل بالظالمين عملا يخيل للناظر البسيط غير المتعمق أنه عمل المستهزئ بهم، لانه سبحانه يوسع عليهم ابتداء ويملى لهم ويمدهم في طغيانهم حتى إذا استمر طغيانهم وضاق الذرع بهم وبظلمهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر على حين غفلة وبدون مهلة، فيخال البسطاء أنه سبحانه يستهزئ بهم أو يمكر في إذلالهم بعد الاعزاز وإسقاطهم بعد الاسعاد والامداد، لكن الخواص من ذوي الالباب يعلمون أن إمهالهم بادئ بدء استدراج وإتمام حجة، ثم التنكيل بهم تأديب لهم وللبقية، ويشهد على هذا قوله بعدئذ: (ويمدهم في طغيانهم... إلخ. ش.
--- [ 37 ]
صفحة ٣٦
أن العبارة بذلك كله [ عن جزاء الافعال ] (1). [ قال أبو عبد الله ] (2): وهو كما قال إلا أنه لم يذكر الوجه في ذلك، والوجه: أن العرب تسمي الشئ باسم المجازى عليه للتعلق فيما بينهما والمقارنة، فلما كانت الافعال المجازى عليها مستحقة لهذه الاسماء كان الجزاء، مسمى بأسمائها، قال الله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) (3) فسمى ما يأكلونه (4) من الطيبات تسمية النار وجعله نارا، لان الجزاء عليه النار.
---
(1) في بقية النسخ: الجزاء على الافعال. (2) ليست في بقية النسخ. (3) النساء: 10. (4) في المطبوعة: يأكلون.
--- [ 38 ]
صفحة ٣٧
[ نسبة النسيان إلى الله ] فصل: ذكر أبو جعفر - رحمه الله - (1): أن النسيان (2) من الله تعالى يجري مجرى المخادعة منه للعصاة (3)، وأنه سمي بذلك باسم المجازى عليه. [ قال أبو عبد الله ] (4): والوجه فيه غير ذلك: وهو أن النسيان في اللغة هو الترك والتأخير، قال الله تعالى: [ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو
---
(1) الاعتقادات ص 2 6، التوحيد: 163 / 1 و159 - 160 / 1. (2) قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) (التوبة: 67) قد سبق الاصل في تفسير أمثال هذه في آية: (الله يستهزئ بهم...) إلخ، وآيات اخرى أن ذلك وارد مورد تمثيل العمل وتشبيه الفاعل في ظاهر فعله كقولهم (فلان نام عن حقه وتحزم لحق غيره) وقولهم لمن أساء على من أحسنو إليه (نسيت الجميل) في حين أنه غير ناس، لكنه يعمل عمل الناسي أي الاساءة على المحسن نظير اتخاذ البلغاء غير الجاحد جاحدا إذا وجدوه عاملا عمل المنكرين، كقول الشاعر: جاء شقيق عارضا رمحه * إن بني عمك فيهم رماح وبالجملة: فالوجه الذي استقبلناه في تأويل الايات هو الاستعارة، والوجه الذي استقبله الصدوق أبو جعفر (رض) أشبه بالمجاز المرسل، وأما تأويل النسيان إلى معنى الترك كما أفاده الشيخ المفيد (رض) فماله إلى الاشتراك اللفظي. ش. (3) في بقية النسخ: العصاة. (4) ليست في بقية النسخ.
--- [ 39 ]
صفحة ٣٨
مثلها) (1) يريد ما ننسخ من آية نتركها على حالها أو نؤخرها (2)، فالمراد بقوله تعالى: (نسوا الله) تركوا [ إطاعة الله تعالى ] (3)، وقوله: (فنسيهم) يريد به تركهم من ثوابه، وقوله تعالى: (أنساهم أنفسهم ) (4) أي: ألجأهم إلى ترك تعاهدها ومراعاتها بالمصالح بما شغلهم به من العقاب. فهذا وجهه وإن كان ذلك أيضا وجها غير منكر، والله ولي التوفيق .
---
(1) البقرة: 107. (2) انظر (مجمع البيان * - ص 180 - 181 ج 1 ط صيدا) لامام المفسرين الشيخ أبي علي الطبرسي قدس. چ. (3) (أ) (ح) (ز) (ق): طاعته. (4) الحشر: 19. * انظر المقال القيم الذي دبجه يراع العلامة المحقق فضيلة الدكتور محمد يوسف موسى الاستاذ بكلية اصول الدين بمصر حول تفسير مجمع البيان لامام المفسرين الشيخ الطبرسي - ره -، في العدد الاول من مجلة (رسالة الاسلام - ص 63 - 69 ط قاهرة ربيع الاول 1370 ه) لسنتها الثالثة، تلك المجلة الزاهرة الوحيدة التي تصدر عن (دار التقريب بين المذاهب الاسلامية) بمصر المحمية، قال الاستاذ في ص 66 من العدد المذكور: (هذا الكتاب الجليل الذي تعني هذه الايام (جماعة الازهر للنشر والتأليف) التي أشرف برئاستها، بالعمل على نشره نشرا علميا محققا بكل معنى الكلمة - إلى أن قال - وانه لايمنع هذه الجماعة من المضي سريعا فيما اعتزمت وقررت إلا بعض الصعاب التي نرجو أن تتغلب عليها إن شاء الله بمعونة من يرجى منهم العون من كبار العلماء المعنيين باحياء التراث الاسلامي المجيد، والله هو الموفق لكل خير، الهادي إلى سواء السبيل). چ.
--- [ 40 ]
صفحة ٣٩
[ صفات الله (1) ] فصل: في صفات الذات وصفات الافعال قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله -: كل ما وصفنا الله تبارك وتعالى به من
---
(1) إذا توسعنا في تدقيق صحائف الكتاب والسنة حق التوسع لم نجد هذا التقسيم الاصطلاحي: أي تقسيم صفات الله إلى صفات الذات، وصفات الفعل، وصفات النقص، وبعبارة اخرى: الكمالية والجلالية والتنزيهية، أو بحسب المشهور الصفات الثبوتية والزائدة والسلبية. نعم، نجد المنشأ الحقيقي لهذا التقسيم الثلاثي موجودا في القرآن والحديث، وهو أن الصفات بعضها ثابتة لله سبحانه بوجه عام، من دون استثناء وقت أو فرد كالعلم، فانه - عز شأنه - بكل شئ عليم، عليم في كل أين وآن، وفي كل مكان وزمان، لم يزل عالما بكل شئ ولا يزال. والقسم الثاني من المعاني منفية عن الله كذلك منفية بوجه عام وبدون استثناء وقت أو مقام كالظلم، فلا يظلم ربك أحدا، فكما أن العلم ثابت له ولا يزال، كذلك الظلم منفي عنه على الاطلاق في كل حال . والقسم الثالث من صفات الله وسط بين القسمين، فلا هو كلي الثبوت، ولا هو كلي السلب، مثل الارادة، فانها قد تثبت لربنا - عز وجل - بالنظر إلى شئ، وقد تنتفي عنه بالنظر إلى شئ آخر، كما في آية: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 186) ومتى كان المعنى يستحق الثبوت تارة ويستحق النفي اخرى فهو غير ضروري الايجاب، كما هو غير ضروري السلب. هذه ثلاثة أقسام في صفات الله يمتاز كل منها عن البقية بحسب ظواهر الكتاب والسنة، بل وبحسب ضرورة العقل أيضا، إذ كل وصف قيس إلى ذات، فاما أن يكون ضروري الثبوت لها، أو يكون ضروري السلب عنها، أو يكون غير ضروري الثبوت للذات كما هو غير ضروري السلب عنها، الامر الذي دعا شيوخ أسلافنا إلى القسمة الثلاثية في صفات الله وتسميتهم القسم الاول بصفات الذات أو الثبوتية. والقسم الثاني بصفات التنزيهية أو السلبية. والقسم الثالث بصفات الفعل أو الزائدة، ويريدون بالفعل ضد الشأن، وإن كان الانسب عندنا تسمية الاقسام بالذاتية والنسبية والسلبية. ش.
--- [ 41 ]
صفحة ٤٠
صفات ذاته (1). قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: صفات الله تعالى على ضربين: أحدهما: منسوب إلى الذات، فيقال: صفات الذات. وثانيهما (2): منسوب إلى الافعال، فيقال: صفات الافعال، والمعنى في قولنا صفات الذات: أن الذات مستحقة لمعناها استحقاقا لازما لا لمعنى سواها، ومعنى صفات الافعال: هو أنها تجب بوجود الفعل ولا تجب قبل وجوده، فصفات الذات لله تعالى هي الوصف له بأنه حي، قادر، عالم ألا ترى أنه لم يزل مستحقا لهذه الصفات ولا يزال. ووصفنا له تعالى بصفات الافعال كقولنا خالق، رازق، محيي، مميت، مبدئ، معيد، ألا ترى أنه قبل خلقه الخلق لا يصح وصفه بأنه خالق وقبل إحيائه (3) الاموات لا يقال إنه محيي. وكذلك القول فيما عددناه، والفرق بين صفات الافعال وصفات الذات: أن صفات الذات لا يصح لصاحبها الوصف بأضدادها ولا خلوه منها، وأوصاف الافعال يصح الوصف لمستحقها بأضدادها وخروجه عنها، ألا ترى أنه لا يصح [ وصف الله ] (4) تعالى بأنه يموت، ولا [ بأنه يعجز، ولا بأنه يجهل ] (5) ولا يصح الوصف له بالخروج عن كونه حيا عالما قادرا، ويصح الوصف بأنه غير خالق اليوم، ولا رازق لزيد، ولا محيي لميت بعينه، ولامبدئ لشئ في هذه الحال، ولا معيد له. ويصح الوصف له - جل وعز - بأنه يرزق ويمنع ويحيي ويميت ويبدئ ويعيد ويوجد ويعدم، فثبتت العبرة في أوصاف الذات وأوصاف الافعال (6)، والفرق بينهما ما ذكرناه.
---
(1) الاعتقادات ص 27. (2) (أ) (ح) (ش) (ق): والضرب الاخر، (ز): والاخر. (3) (أ) (ز) (ش): إحياء. (4) (ز): وصفه، (ق): الوصف لله. (5) (ح) (ز): يعجز ولا يجهل، (أ) (ق): يعجز ويجهل. (6) (أ) (ح) (ز) (ش): الفعل.
--- [ 42 ]
صفحة ٤١
[ خلق أفعال العباد ] فصل: في أفعال العباد قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لاخلق تكوين ، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يزل عالما بمقاديرها (1 و2). قال الشيخ أبو عبد الله - رحمه الله -: (3) الصحيح عن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أن أفعال العباد (4) غير مخلوقة لله تعالى، والذي ذكره أبو جعفر - رحمه الله - قد جاء به حديث غير معمول به ولا مرضي الاسناد، والاخبار الصحيحة بخلافه، وليس يعرف في لغة العرب أن العلم بالشئ هو خلق له، ولو كان ذلك كما قال
---
(1) الاعتقادات ص 29. (2) عنه في البحار 5: 19 / 29. وراجع معاني الاخبار 396، بحار الانوار 5: 30 الحديث 37 و38. (3) تبع الشيخان الجليلان جمهور المتكلمين في إفراد بحث الجبر عن بحث خلق الافعال، وعن مبحث الهدى والضلال، مع أن الجميع فروع من نظرية الجبر ومن فاز بحل مشاكل هذه الاخيرة فاز بالنجاة من صعوبات البقية. ش. (4) إن لهذا البحث وبيان المقصود منه تقريرا من وجهين: كلامي، ونفسي، أما النفسي - وهو المقصود لدى الفلاسفة وعلماء التربية - فهو أن الانسان في أفعاله - وفي مقدمتها الطلب والارادة - هل هو حر مختار ومستقل في إيجاد أفعاله ؟ أو هو مجبور باقتضاء العوامل الاخرى المتصرفة فيه من الداخل والخارج ؟ فان اختلاف التربية والتهذيب يؤثران بالحس والتجربة على الانسان في اختلاف إرادته ومطالبه وتكييف أحواله وإصدار أعماله، وهذا البحث يختلف عن=
--- [ 43 ]
صفحة ٤٢
المخالفون للحق (1) لوجب أن يكون من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد خلقه، ومن علم السماء والارض فهو خالق لهما، ومن عرف بنفسه شيئا من صنع الله تعالى وقرره في نفسه لوجب أن يكون خالقا له، وهذا محال لا يذهب وجه الخطأ فيه على بعض رعية الائمة - عليهم السلام - فضلا عنهم. فأما التقدير فهو الخلق في اللغة، لان التقدير لا يكون إلا بالفعل، فأما بالعلم فلا يكون تقديرا ولايكون أيضا بالفكر، والله تعالى متعال عن خلق الفواحش والقبائح على كل حال (2). وقد روي عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا - صلوات
---
= المبحث الكلامي الاتي ذكره اختلافا واضحا وإن خفي على الجمهور. وأما البحث الكلامي - وهو المبحوث عنه لدى علماء الكلام وزعماء الطوائف الاسلامية، ولا يزالون مختلفين فيه - فهو أن الانسان - وإن بلغ رشده وأشده وخوطب بالتكاليف الالهية - هل هو مختار في أفعاله، حر في إرادته، مستقل في الطلب ؟ أو أن الله تعالى هو الخالق في الحقيقة لجميع ما يصدر من الانسان في الظاهر، وهو كالة صماء في أداء ما يجري على يديه من أفعال خالقه، فعلى هذا يكون الانسان فاعلا بالمجاز في كل ما ينسب إليه من أفعاله مباشرة، وإنما يكون المنسوب إليه حقيقة هو الله تعالى وحده، وهذا الوجه يشترك مع الوجه السابق عليه في سلب اختيار العبد واضطراره في أفعاله طرا، وهما بناء عليه يستلزمان الجبر معا، ويسمى البحث الكلامي بحث الجبر الديني، كما يسمى البحث النفسي بحث الجبر التكويني، والفرق بينهما يبدو من وجوه أهما أن المنسوب إليه في الجبر الديني إنما هو الله وحده، وهو الذي أمر بالحسنات ويثيب بحسبها، وهو الذي نهى عن السيئات ويعاقب عليها، وفي صورة كهذه يصعب جدا تصور الايمان بعدالة من أجرى على يديك السيئات وهو في نفس الوقت مؤاخذك بها ومعاقبك عليها، نعم إن الجبر التكويني يقضي أيضا باضطرار العبد فيما يأتيه، غير أنه يجعل مصادر الحسنات والسيئات غير مصدر الثواب والعقاب. ش. (1) بحار الانوار 5: 20. (2) بحار الانوار 5: 20.
--- [ 44 ]
صفحة ٤٣
الله عليهم -: أنه سئل عن أفعال العباد، فقيل له: [ هل هي ] (1) مخلوقة لله تعالى ؟ فقال - عليه السلام -: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها. وقد قال سبحانه: (أن الله برئ من المشركين ورسوله) (2) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم (3). وسأل أبو حنيفة أبا الحسن موسى بن جعفر - عليهما السلام - عن أفعال العباد ممن هي ؟ فقال له أبو الحسن - عليه السلام -: إن [ أفعال العباد ] (4) لا تخلو من ثلاثة منازل: إما أن تكون من الله تعالى خاصة، أو من الله ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصة، فلو كانت من الله تعالى خاصة لكان أول بالحمد على حسنها والذم على قبحها، ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها، ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معا فيها والذم عليهما جميعا فيها، وإذا بطل هذان الوجهان ثبت أنها من الخلق، فان عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة. وفي أمثال ما ذكرناه من الاخبار ومعانيها ما يطول به الكلام. فصل: وكتاب الله تعالى مقدم على الاحاديث (5) والروايات، وإليه يتقاضى في صحيح الاخبار وسقيمها، فما قضى به فهو الحق دون ما سواه.
---
(1) (أ) (ح) (ق) (ش): أهي. (2) التوبة: 3. (3) بحار الانوار 5: 20. (4) (ق): الافعال. (5) (ز): الاخبار.
--- [ 45 ]
صفحة ٤٤
قال الله تعالى: (الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الانسان من طين) (1) فخبر بأن كل شئ خلقه فهو حسن غير قبيح، فلو كانت القبائح من خلقه لنافى ذلك حكمه بحسنها، وفي حكم الله تعالى بحسن جميع ما خلق شاهد ببطلان قول من زعم أنه خلق قبيحا (2). وقال تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (3) فنفى التفاوت عن خلقه (4)، وقد ثبت أن الكفر والكذب متفاوت في نفسه، والمتضاد (5) من الكلام متفاوت ! فكيف يجوز أن يطلقوا على الله تعالى أنه خالق لافعال العباد وفي أفعالهم من التفاوت والتضاد (6) ما ذكرناه مع قوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) فنفى ذلك ورد على مضيفه (7) إليه وأكذبه فيه.
---
(1) السجدة: 7. (2) ليس هذا الكلام وحده ولا هذه الاية وحدها شاهد الفئة العدلية وشيخها الشارح - طاب ثراه - عند إبطاله لنظرية الجبر وتصحيحه لاسناد أفعال العباد الى أنفسهم، إذ كل آية نزهت ربنا سبحانه عن الشرور وخلق الاثام تؤيده، وكذلك الدلائل التي قضت بأن الشرور امور سلبية غير ثابتة في متن الاعيان ولا مبدأ لها ولا علة تقوي أيضا كلام الشيخ - طاب ثراه - وكذلك القياسات التي أقامها علماء اللاهوت بغرض إثبات أن المبدأ الاول (واجب الوجود) مصدر كل خير وجود، ولا ولن يرى شر ما من ناحيته القدسية. ش. (3) الملك: 3. (4) يجوز أن يكون الخلق هنا مصدرا مرادفا للايجاد لا اسم مصدر مرادفا للموجود، كما ذكر في المتن، فيكون المراد - والله أعلم - أنه سبحانه لا يتفاوت عليه خلق الاشياء صغيرها من كبيرها، أو حقيرها من خطيرها، أو قليلها من كثيرها، ولا يلزم من العدول عن تفسير الشيخ - قدس سره - وهن ما في أصل رأيه. ش. (5) (ق) (ش): والتضاد. (6) ليست في بقية النسخ. (7) (ق): من يضيفه.
--- [ 46 ]
صفحة ٤٥
فصل: في الفرق بين الجبر والتفويض قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - (1): لا جبر ولا تفويض (2)، بل (3) أمر بين أمرين (4). وروى في ذلك حديثا مرسلا قال: فقيل: وما أمر بين أمرين ؟ قال: مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية. قال الشيخ المفيد - عليه الرحمة -: الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقهر (5) والغلبة، وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق (6) من غير أن يكون لهم (7) قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيه، وقد يعبر عما يفعله الانسان بالقدرة التي معه على وجه الاكراه له على التخويف والالجاء أنه جبر والاصل فيه ما فعل من غير قدرة على امتناعه منه حسب ما قدمناه، وإذا تحقق القول في الجبر على ما وصفناه كان مذهب أصحاب المخلوق هو بعينه، لانهم يزعمون [ كان
---
(1) الاعتقادات ص 29. (2) الكافي 1: 160 / 13، التوحيد: 362 / 8، وعنه في البحار 5: 17 / 28. (3) (ح): ولكن. (4) (ا) (ش): الامرين. (5) في بعض النسخ: بالقسر. (6) (ش) (ق): الحي. (7) (ش) (ق): له.
--- [ 47 ]
صفحة ٤٦