أما موضع الغزالي من معاصريه فإن هذه ترجمة حياة الغزالي التي ثقفناها ما أمكن التثقيف الذي يوائم حياته الروحية بحياته الزمنية، ويبدو معها الرجل وهو يسير مع الحياة يلقى فقهاء يقفون من الفقه عند حد النصوص، ومتكلمين يحاولون جاهدين مزج الدين بالعقل، أو قل يصبون الإيمان في صور عقلية يبدو عليها القلق والصنعة؛ لأنهم فيما يحتمل أرادوا أن يصطنعوا لهذه المادة الروحية قوالب نظرية، فتخطفوا وجوه المذاهب الفلسفية في غير حذق وتريث، فجاءت شائهة ضاق بها الغزالي كما ضاق بها المسلمون زمنا ما، ثم أيضا غير هؤلاء وهؤلاء تنشأ في محيط الغزالي طائفة تتمشدق بالرياضيات والطبيعيات وتأخذ بحظ ما من المنطق والفلسفة اليونانية ممثلة في القدر الهزيل من فلسفة أفلاطون وأرسطو الذي أذاعه الفارابي وابن سينا.
وهناك أيضا فرقة أو أكثر تهيئ نفسها بأنواع من السلوك والمجالدة على الرياضة الروحية في لون من الخفاء والتستر حينا، أو الفوضى والإباحة أحيانا رجاء أن تطمئن وتطامن غيرها من طريق أسمى وأرفع من العقل، ويمثل هذه الطائفة معظم الفرق الصوفية.
هذه أظهر التيارات التي كانت تجري في القرن الحادي عشر الميلادي وصاحبنا لا يكاد يتبين نفسه منها ولا يكاد يفاضل بينها، على أنه يرى من حق نفسه عليه أن يدرس كل هذه الدراسات فيندفع اندفاعا قويا إلى الدرس والتحصيل يتمثل في قوله: «أتهجم على كل مشكلة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل.»
فهو إذا يدرس دراسة العارف المريد لا ليملأ نفسه إيمانا على طريقة المقلدين الذين يعتقدون أن الإيمان تركة تورث ولا يتفيهق بالمنطق كالببغاوات، ولا يتفلسف ليملأ شدقيه تفخيما باسم أفلاطون الإلهي وباسم أرسططاليس المعلم الأول، إنما هو يدرس هذا وذاك ليتبين موضع الحق عند كل طائفة فيعينه، أو محلا للباطل فيحمل عليه، وهو حين يخاصم طافة يحاربها بسلاحها ويقهرها على نفسها بأدلة من نوع أدلتها، أما هذه الطوائف فيدعوها بأصناف الطالبين وهي عنده أربعة أصناف: (1) متكلمون يدعون أنهم أهل رأي ونظر. (2) وباطنية يزعمون أنهم أصحاب التعليم المخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم. (3) وفلاسفة يزعمون أنهم أهل منطق وبرهان. (4) وصوفية يدعون أنهم خواص حضرة وأهل مشاهدة ومكاشفة ويقول: «إن الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة.» وأخذ يدرس معارف كل طائفة دراسة أعانته على وسائل الخصام، بل جعلت للخصومة في حياة العقلية العربية قيمة هامة، ولكن ما مدى الخصومة وما حدود هذا الخصام؟!
الخصومة ... بل طريق الغزالي إلى المعرفة وسبيله إلى الحق كان يختلف اختلافا بعيدا أو قريبا من هذه الطوائف ونظرتها إلى اليقين الديني، والسبيل التي يتأدى بوساطتها على نحو ما يعين مما أدى إلى أنه تارة يقف مناصرا لبعضها في ناحية من نواحي المعرفة، وتارة نراه منازعا، بل خصما مردا عنيدا لبعضها الآخر، مما جعل الخصومة تشتد تارة وتفتر تارة، ويفسر لنا هذا نظرة الغزالي إلى قيمة العقل واقتداره على معرفة الحق وهو يرتب هذه الطوائف على قدر نظرتها إلى العقل.
أما قيمة العقل في نظر الغزالي فيكفي أن يضعه في موضع أدنى من مرتبة الذوق والإشراق الذي بدونه يصبح اليقين الديني ضربا من الاستحالة، بل هو يشك في قيمة العقل ويوجه إليه سهما لعله يصيب «عنده» العقل في المقتل وفي أعظم موضع يعتز فيه العقل بذاته وبطبيعته ما كشفه من قوانين، هذه الناحية التي ينقدها صاحبنا هي المعارف الضرورية، ويخص منها قانون السببية فيقول بالنص: «لعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل، فكذب الحس في حكمه وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته.» (المنقذ ص72).
ومن هنا يمكن توقع نظرته إلى الطوائف السابقة «أصناف الطالبين» ومدى خصامه لكل منها.
فهو يرى أن المتكلمين كان غرضهم نصرة الدين والذب عنه بسلاح من البرهان والعقل، وعجز هذا العقل عن السمو بالعقائد الدينية إلى درجة اليقين، ولكنه رغم خصومته لهم كان يشفق عليهم، أليسوا مسلمين!
وهو أيضا يقف للباطنية أصحاب الإمام المعصوم فيدرس آراءهم ويؤلف في عرضها والرد عليها، ويجود هذا العرض حتى يعاتبه أحد أصدقائه بأن هذا العرض يوقف الخصوم على ما غمض من مذهبهم في نظرهم، وطريقتهم في إبطال حجتهم هي طريقة مألوفة توسم بطريقة «الفناقل»، هو يزعم أن دعوى هؤلاء باطلة ضعيفة وإن عدت قوية، فهذه القوة ليست بالذات ولا من الذات، بل بالإضافة إلى ضعف حجة خصومهم فهي قوة معدودة وليست قوة حقيقية، فينبري لهم هو خصما ألد يعرف كيف يقهرهم ويدل على فساد نظرتهم إلى معلم معصوم مزعوم، فليس هناك معلم غائب ولا هنا دعاة ينتظرونه، إنما المعلم هو محمد ودستوره كامل من يوم أن أنزل الله
اليوم أكملت لكم دينكم ، وما يزال بهم حتى يشعر هو بالنصر ويقول في النهاية: «فلما خبرناهم نفضنا اليد عنهم.»
صفحة غير معروفة