أجل، ماذا يقول القائلون في طريقة أول شروطها تطهير القلب عما سوى الله، ومفتاحها استغراق القلب استغراقا كاملا في ذكر الله، وآخرها الفناء في الله حبا وعبادة؟ لقد أضفى التصوف على الوجود صورة جميلة مشرقة، وألبس الإنسان صورة نورانية طاهرة، وجعل للحياة هدفا وغاية قدسية عالية، وأي الغايات أقدس وأعلى من التسبيح والنجوى، وفناء النفس في محاريب الأنس والتقوى.
يقول سهل التستري: «أصول طريقنا سبعة: التمسك بالكتاب، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى، وتجنب المعاصي، ولزوم التوبة، وأداء الحقوق.»
ويقول أبو الحسن الشاذلي: «إذا تعارض كشفك مع الكتاب والسنة؛ فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة.» مع أنهم أجمعوا على أنه لا ينبغي العمل بالكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة، ويقول أبو سعيد الخراز: «كل باطن خلافه الظاهر فهو باطل.»
هذا هو العلم الباطني في التصوف، وتلك شرائطه وحدوده، فبأي آية من آياته يكذب المدهنون؟ وبأي صورة من صوره يجحد المنكرون؟
ويقول الشعراني متعجبا من خصوم التصوف وأعدائه: «ما بلغنا قط عن أحد من القوم نهى أحدا عن الصلاة والزكاة والحج والصوم أبدا، ولا تعرض لمعارضة شيء من الشرائع، وكيف يترك الولي ما كان سببا لوصوله إلى حضرة ربه؟ إنما يحث الناس على الإكثار من أسباب الوصول، فما بقي وجه الإنكار إلا على مواجيدهم وأفهامهم، وتلك أمور لا تعارض شيئا من صريح السنة، والأمر في ذلك سهل، فمن شاء فليصدقهم ويقتدي بهم كمقلدي المذاهب، ومن شاء فليسكت ولا ينكر؛ لأنهم مجتهدون في الطريق، والمجتهد لا يقدح إنكاره على مجتهد آخر.»
ذلك فصل الخطاب في حقيقة العلم اللدني، وتلك رسالته لدى المتصوفة، إنهم قوم مجتهدون كأئمة المذاهب الفقهية، فإن أئمة المذاهب قد اجتهدوا في أحكام الفروع واختلفوا، ولم يقدح اختلافهم في عقيدتهم، ولم يقدح اختلافهم في اجتهادهم.
فكذلك المتصوفة قوم اجتهدوا في أمراض القلب وأدويتها، وآداب العبودية وواجباتها، وخفايا النفس وإلهاماتها، ورقائق المحبة وأسرارها.
قوم أخذوا عقيدتهم بقوة وعزم، فتطوعوا لله تطوع أولي القوة والعزم، وأخلصوا التوجه إلى الله إخلاصا جعلهم يتحرون الكمال، فهم أهله ورجاله، واجتهدوا في فلسفة الكمال، فكونوا من اجتهادهم نهجا لهم وسبلا، وطريقا له قواعده كما له شرائطه.
وإن كان الرجل «الجنتلمان» بلغة العصر هو الرجل الممتاز بخلق وعادات سامية خاصة، واضحة الأثر في حركاته ومعاملاته وصلاته، بل هو الرجل الذي فرض على نفسه آدابا وقواعد في السلوك خاصة به يتميز بها ويعرف.
فكذلك الصوفي هو «الجنتلمان» في العبودية الربانية، الممتاز بخلق وعادات سامية خاصة، واضحة الأثر في حركاته ومعاملاته وصلاته، بل هو العابد الذي فرض على نفسه في العبودية آدابا ونهجا يتميز به ويعرف.
صفحة غير معروفة