الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي: في ضوء مقارنة إحصائية واضحة الدلالة
تصانيف
سنوات العمر وحصاد الهشيم
إهداء
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الثالثة1
العرب والترجمة
الترجمة
الترجمة في العالم العربي ومجتمع المعرفة
الترجمة عن العربية (التعجيم)
نقل المعرفة والترجمة في العالم العربي
صفحة غير معروفة
ما الترجمة؟ ولماذا؟
شهادة التاريخ
واقع العالم العربي
إحصاءات مصرية
معوقات الترجمة في العالم العربي
الجامعة العربية والترجمة
الترجمة والجهات المنوط بها الترجمة في العالم العربي
مقارنة بين إحصاءات واضحة الدلالة
العولمة وتعريب الترجمة
الترجمة وحوار المتوسط
صفحة غير معروفة
المترجم العربي، الحقوق والدور الاجتماعي
الجات والكتاب المترجم والعولمة
لغتنا وتعريب العلم
أزمة الترجمة العلمية وتعريب المصطلح
البعد الاجتماعي لأزمة ترجمة المصطلح
نحو إنشاء مؤسسة عربية للترجمة
المستقبل والمصير
سنوات العمر وحصاد الهشيم
إهداء
مقدمة الطبعة الأولى
صفحة غير معروفة
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الثالثة1
العرب والترجمة
الترجمة
الترجمة في العالم العربي ومجتمع المعرفة
الترجمة عن العربية (التعجيم)
نقل المعرفة والترجمة في العالم العربي
ما الترجمة؟ ولماذا؟
شهادة التاريخ
واقع العالم العربي
صفحة غير معروفة
إحصاءات مصرية
معوقات الترجمة في العالم العربي
الجامعة العربية والترجمة
الترجمة والجهات المنوط بها الترجمة في العالم العربي
مقارنة بين إحصاءات واضحة الدلالة
العولمة وتعريب الترجمة
الترجمة وحوار المتوسط
المترجم العربي، الحقوق والدور الاجتماعي
الجات والكتاب المترجم والعولمة
لغتنا وتعريب العلم
صفحة غير معروفة
أزمة الترجمة العلمية وتعريب المصطلح
البعد الاجتماعي لأزمة ترجمة المصطلح
نحو إنشاء مؤسسة عربية للترجمة
المستقبل والمصير
الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي
الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي
في ضوء مقارنة إحصائية واضحة الدلالة
تأليف
شوقي جلال
سنوات العمر وحصاد الهشيم
صفحة غير معروفة
نشأت في أحضان الحركة الوطنية لاستقلال ونهضة مصر، التي استعانت بالكفاح المسلح حينا، واستطاعت على مدى قرن من الزمان وحتى منتصف العشرين أن تعيد لمصر وعيها بذاتها بعد غياب امتد قرونا بفعل قوى الكولورونالية والإمبريالية، ابتداء من الفرس ومرورا بالرومان والعرب والمماليك والأتراك.
ومع انتصاف القرن العشرين شهدت مصر تحولا سياسيا قسريا يحمل ظاهريا بعض شعارات الحركة الوطنية، وإن أنكرها واستنكرها في الممارسة العملية، بدلا من أن يكون امتدادا لإيجابياتها بشأن الديمقراطية ونظام حكم المؤسسات والفصل بين السلطات، وترسخ مطلب الحريات وحقوق وواجب الإنسان المصري العام في المشاركة المنظمة مؤسسيا لإدارة شئون مجتمعه وبناء مستقبله.
البداية لي مع عام 1931 .. مصر في وعي جيلي إرادة وعزم صادقان على النهوض، التحرر من الاستعمار، العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والفساد والحفاء، التحديث الاجتماعي واللحاق بالحداثة الأوروبية فنا وأدبا وعلما وإنجازات مادية (تكنولوجيا) .. ومصر قوة إنتاجية واعدة، يحفظها حلم مؤسس على تاريخ حضاري سالف وواقع واعد، وإن ضاقت ساحته بصراع المتناقضات، ورؤى مبشرة في المستقبل الذي يليق بمكانة مصر .. مصر فجر الضمير والمجد الحضاري التليد.
نشأت في واقع حضاري ثوري أسهم في تأسيسه نضال أجيال ثلاثة قبل جيلي، استيقظت بداية على ضوء مدافع الغرب، وأفاقت وتململت تدعو وتحفز، تبشر وتنذر، واستهلت مشروع التحديث إلى أن خطت أول الطريق في عهد «محمد علي» الذي أشرت في كتبي إلى أنه كان مناسبة لا سببا .. ومن هنا مصر ثقافة جديدة .. مصر الوطن والمواطنة تستوعب الموروث بعقل نقدي جديد .. ثقافة الوعي بالذاتية التاريخية بعد جهود متوالية من الغزاة على مدى أكثر من ألفي عام لطمس هذه الذاتية والانسلاخ عنها .. استعادت مصر اسمها وتاريخها على يدي الأزهري رفاعة الطهطاوي، واستعادت ذاتيتها الوطنية على أيدي فلاحي مصر العسكريين أحمد عرابي ورفاقه.
تربيت مثلما تربى جيلي على قيم الحرية والتحرير والتغيير .. ثقافة التسامح مع المذاهب الفكرية والعقائد الدينية .. كتب من كتب «لماذا أنا ملحد؟» مثل أدهم، أو «لماذا أنا مسلم؟» مثل عبد المتعال الصعيدي. وانتقدهما من انتقدهما دون أن يفسد النقد للود قضية .. وكانت مصر قبلة المتعطشين إلى الحداثة من المثقفين العرب .. ولم يكن الجوار بعد ناهضا ولا مناهضا أو مزاحما .. مصر هي الكلمة، ومصر هي الفعل.
وشهدت مصر التي عشتها وملأت علي وجداني وعقلي الكثير من أعلام الفكر والأدب والعلوم والفنون والرياضة ... كانوا النجوم الهادية، مثل مشرفة الذي ذاع عنه باعتزاز مصري أنه نظير آينشتاين، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وطه حسين، وسلامة موسى، ومختار النحات العظيم، ورءوف صروف، وشبلي شميل، وجورجي زيدان، وروز اليوسف، وهدى شعراوي، ومي، وسيد درويش، وداود حسني، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم ... ولمعت أسماء رياضيين دوليين في السباحة وكرة القدم والشيش ... هؤلاء وغيرهم نجوم سواطع تهدينا إلى الطريق، وتحفزنا للاقتداء بهم باسم مصر ومن أجل مصر.
وتعلمت في مدرسة ثانوية خيرية؛ أي للفقراء، ولكن استمعت فيها لأول مرة إلى فاجنر معزوفا على شاشة مسرح المدرسة، وتربيت كما تربى أقراني على كتب مثل «تاريخ الأديان في العالم» دون حساسية أو انحياز، ومجلات ثقافية مثل: «مجلتي»، و«الرسالة»، و«الثقافة»، و«الكتاب»، و«الكاتب»، و«المقتطف»، و«الفصول» ... ولن أنسى مجلة تنويرية أسبوعية ساخرة هي «البعكوكة»، الواسعة الانتشار، وإحدى شخصياتها الأسبوعية الناقدة «الشيخ بعجر» الذي نقرأ على لسانه نقدا ساخرا للمتنطعين باسم الدين.
وشاهدت مصر الغنية بالمتاحف العلمية نهضة مواكبة من المدارس الفكرية والعلمية، فجاءت نشأة جامعة القاهرة ببعض الجهد النضالي والتحدي ضد الاستعمار، وضمت الجامعة أسماء أعلام أسهموا بجهد متميز وتاريخي: شفيق غربال، وإبراهيم حسن، وأحمد أمين، في الأدب والتراث، ويوسف مراد مؤسس مدرسة علم النفس التكاملي، ومصطفى زيور مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي، وعبد العزيز القوصي في علم النفس التربوي ... وغيرهم وغيرهم في العلوم والفنون والآداب.
ونشطت في مصر حركة الترجمة العلمية المرتبطة بالهدف القومي واستيعاب علوم وفكر العصر، وتوظيف ذلك لبناء مصر الجديدة، وإذا كانت جهود الترجمة في العصر الحديث بدأت على يدي رفاعة الطهطاوي ومدرسة الألسن، فحري أن نذكر بقدر كبير من الزهو لجنة التأليف والترجمة والنشر التي رأسها أحمد أمين، وقدمت ثروة من الإنجازات البالغة الأهمية بمقاييس العصر، وكانت نموذجا احتذته مجتمعات عربية أخرى. وكم شعرت بالفخار عند زيارتي للجنة التأليف والترجمة والنشر في الرباط بالمغرب، وقال لي رئيسها إننا هنا نقتدي بمصر.
تحدد طموحي، مثل أقراني وأبناء جيلي، في النضال من أجل مصر الحرة .. الواعية في اعتزاز بتاريخها .. الجادة في سعيها لبناء مجدها الحضاري العصري، اعتمادا على سواعد وعقول أبنائها، والعمل على إنتاج وجودها الحديث المادي والفكري إبداعا ذاتيا، وانتماء نقديا إلى العالم المتقدم .. وكان طموحي أن أكون مثل من أشربت نفسي بعلمهم وثقافتهم وقيمهم، وأن أسهم إيجابيا في بناء مصر الحرة/المستقلة/المنتجة ...
صفحة غير معروفة
وسعيت على الرغم من تعدد السبل إلى أن أكون إيجابيا في جهدي لذلك بمداومة الفكر والتفكير دون قيود غير العقل الناقد، والاطلاع على كل جديد من غير انحياز أو عقد، وأن أتابع فكر وجهود الساعين إلى ذلك من خلال التنظيمات والأحزاب .. واستطعت الانتصار على قيود ومحاذير الفقر بالاعتماد على نفسي، ولكن العقبة الأخطر في الطريق هي سنوات الاعتقال السياسي المتقطعة على فترات دون محاكمة، وبلغ مجموعها اثنتي عشرة سنة بدأت عام 1948م، وحتى نهايتها 1965م. وحاولت أن أنتصر على قسوة وآلام التعذيب في السجون والمعتقلات، من السجن الحربي إلى ليمان أبي زعبل؛ حيث كنا نعيش حفاة الأقدام، شبه عراة الأبدان، نشقى في عمل تكسير الزلط تحت وطأة الشمس الحارقة، والسياط اللاهبة، والسباب المقذعة، والشتائم المهينة الجارحة، ولم أتخل عن طموحي وجهدي من أجل مصر .. مصر العقل الجديد.
وبدأت الكتابة أول الأمر وأنا طالب بالجامعة، في سلسلة «كتابي» التي يصدرها حلمي مراد .. وأول موضوع كتبته عام 1953م بعنوان «مذكرات الولد الشقي»، وهو تلخيص لمذكرات تشارلز داروين. ولكنني لم أره بسبب الاعتقال.
ولكي أتجنب خيوط المنع والحظر رأيت أن أتكلم بلسان غيري، مع إضافة رأيي في مقدمة وهوامش؛ ومن هنا اتخذت الترجمة وسيلة لكي أبدأ مشروعي «تغيير العقل المصري العربي»، وصدر لي عام 1957م عن دار النديم كتابان هما: «السفر بين الكواكب»، وهو أول كتاب علمي مترجم عن علوم ورحلات الفضاء، صدر بمناسبة إطلاق الكلبة لايكا إلى الفضاء. والكتاب الثاني «بافلوف، حياته وأعماله»، وهو أيضا أول كتاب علمي مترجم عن هذا العالم الروسي الفذ الذي كنت أعتزم أن أرصد له جهدي في دراستي الجامعية العليا. ثم انقطعت عن الكتابة والترجمة ثانية سنوات سبعا بسبب الاعتقالات السياسية، وعلى الرغم من كل ما عانيته في المعتقلات تطوعت - وأنا المستقل سياسيا غير المنخرط في أي تنظيم - بعد هزيمة 1967م، لكي أحمل السلاح دفاعا عن بلدي مصر، ولكن جهات الأمن السياسي استدعتني وحذرتني وطالبتني صراحة: «انت لأ .. تقعد في البيت.»
وواصلت جهدي في التحدث بلسان الآخرين، وقدمت ترجمة لرواية «المسيح يصلب من جديد» تأليف نيقوس كازانتزاكيس، الذي عشقت كتاباته وشعرت بنوع من التماهي معه. وتوالت الترجمات التي لا يعنيني كميتها التي تجاوزت الستين، ولكن يعنيني أنها مختاراتي من بين قراءاتي، وملتزمة جميعها بمشروعي من الانتقال إلى العقل العلمي، والتحول عن ثقافة الكلمة إلى ثقافة الفعل.
وبدأت التأليف في تكامل مع مشروع الترجمة، وصدر لي أول كتاب عام 1990م بعنوان «نهاية الماركسية!» وهدفي منه نقد الثقافة العربية في التعامل النصي الأرثوذكسي مع الفكر العالمي، متخذا الحديث المتواتر عن سقوط الماركسية مثالا، مع فصل بعنوان «هل سقطت الليبرالية؟» وأتبعت هذا بكتاب عنوانه «التراث والتاريخ»، وهو رؤية نقدية لأخطاء ثقافية شائعة في حياتنا، وحاكمة لنا، عن العقيدة والموروث الثقافي وفهم التاريخ.
وصدر كتابي الثالث بعنوان «العقل الأمريكي يفكر: من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات»، وهو دراسة أكاديمية تعطي بانوراما لتطور العقل الأمريكي السائد على مدى 160 عاما، ابتداء من الآباء المؤسسين لتصحيح صورة أمريكا المدعاة في حياتنا، ومجابهة الحقيقة، وأؤكد فيه العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع العملي نشأة وتطورا، وأن الفكر هو منتج الفعل الاجتماعي في تطور جدلي مطرد، مستشهدا بتطور الفكر/الفعل الأمريكي في مجالات الفلسفة/العلم/الآداب والفنون، موثقا ذلك بنصوص لأئمة الفكر الأمريكيين.
وبلغ مجموع مؤلفاتي أربعة عشر عنوانا، آخرها «الشك الخلاق في حوار مع السلف»، وأعكف منذ سنوات على إصدار دراسة عن انتحار الحضارات .. كيف سقطت بفعل أبنائها وأولهم رجال الدين، حين تكون لهم السلطة دون العقل؛ أي لأسباب داخلية أولا وليست خارجية فقط. وذلك في ضوء ما نشاهده اليوم من جماعات تدمر وتنتحر وتنحر من حولها باسم إحياء حضارة تفككت وسقطت وتأخر تأبينها قرونا.
قضايانا الملحة عديدة ومتكاملة، ومن هذه القضايا التي عرضتها في كتبي: (1)
إعادة بناء الإنسان المصري الذي تعمد الغزاة والحكام المستبدون انسلاخه عن تاريخه وعن هويته؛ ولذلك لا تتوفر نظرية جدلية متكاملة لتاريخ مصر منذ القدم، وقد حاولها صبحي وحيدة، والدكتور حسين فوزي سندباد مصري، ومحمد العزب. وتلزم الإجابة على سؤال: ماذا أصاب الإنسان المصري على مدى التاريخ حتى أصبح على هذه الحال من السلبية واللامبالاة؟ حتى لا نردد ما قاله المقريزي وغيره: «قال الرخاء أنا ذاهب إلى مصر، فقال الذل وأنا معك».
ثم إننا نعيش الآن في عصر أو حضارة الإنسان العام المشارك إيجابيا، عن علم وقدرة، في إدارة شئون أمته مع مسئوليته عن الإنسان والبيئة في العالم. ويتناقص هذا مع الظروف التاريخية وحياة الاستبداد والقهر التي صاغت الإنسان المصري، وباتت موروثا اجتماعيا وثقافة نافذة.
صفحة غير معروفة
وحري أن نتخلى عن الالتزام بإنجاز ما أسميه المعادلة المستحيلة؛ ألا وهي نزعة المواءمة أو الجمع بين حضارة العلم والتكنولوجيا والعقل العلمي النقدي، وبين الموروث الثقافي المتحجر الذي انتهى عصره. وإن أول معالم الطريق إلى النهضة الحضارية إنما يتجلى بداية في سقوط هيبة السلف والفكر السلفي وعبادة السلف في أذهان العامة، ومن ثم إحلال ثقافة التغيير والتطوير باعتماد العقل العلمي النقدي؛ لذلك نؤكد دائما أن لا نهضة لمصر إلا بنهضة الفلاح المصري في قرى ونجوع الشمال والجنوب، هذا الفلاح هو مصر، الذي ظل يحمل على فوديه رسما نزعم سخرية أنه عصفور .. وهو حورس الحامي. (2)
اتساقا مع هذا نحن بحاجة إلى دراسة العلاقة العكسية بين الاستبداد والإبداع .. الاستبداد يصنع روبوتا فضيلته الطاعة دون حق السؤال، والحرية هي صانعة الإنسان .. الحرية كما يقول فيلسوف العلم دانييل دنيت هي القوة الحافزة للتطور الخلاق للحياة منذ نشأتها حتى بلغت مرحليا أعلى صورها في صورة الجهاز العصبي للإنسان. (3)
المثقفون المصريون مسئولون أولا وأساسا عن واقع حال مصر الراهن؛ إذ بدأ المثقف الحديث موظفا تابعا للسلطة الحاكمة وقد نشأ وتربى على ثقافة الطاعة، بينما المثقف المستنير هو من يحافظ على مسافة نقدية فاصلة بينه وبين ذوي السلطان؛ أي سلطة دينية، أو سياسية، أو عقائدية؛ لكي تتهيأ له فرصة الرؤى في عقل نقدي ينير بها الطريق إلى المستقبل. (4)
سبق أن ذكرت في كتابي «أركيولوجيا العقل العربي» أن التراث الثقافي الذي عاش ممتدا في الزمان التاريخي الاجتماعي، وإن أخذ مسميات دينية لاحقة؛ هو التراث الهرمي في مصر .. تراث هرمي مثلث المعظمات، لا يزال يقسم باسمه المصريون (معظما ثلاثا)، ويحمل هذا التراث صفات وخصائص البيئة والذهنية المصرية، وأراه تراث تحوت أو توت رب الحكمة والقلم في الديانة المصرية، وإن حمل حينا اسما إغريقيا .. وأرى أن هذا التراث هو الحاكم للثقافة الشعبية السائدة التي امتدت مع حالة الركود الاجتماعي قرونا. وهذه الثقافة التي تصوغ ذهنية المصري هي التي تجهض إرادة وفعالية الإنسان لحساب قوة مفارقة، لها القدسية والفعالية.
ويستلزم هذا تحولا حقيقيا وموضوعيا من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير .. من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة. وهذا هو ما سينقلنا طبيعيا إلى ثقافة التناقض والحركة كشرط وجودي .. الحركة مع التناقض .. الفعالية بين «النحن والآخر» .. الانتقال من ثقافة الإقصاء المفضية إلى الانشقاق والانقسام - دائنا التاريخي - إلى ثقافة التناقض أو تلازم النقيضين .. إذ إن ثقافة الحركة الفكرية والمادية في جدل مشترك مطرد، لا تنشأ ولا تكون إلا بين نقيضين «نحن والآخر»، ووجود كل طرف رهن وجود الآخر .. ولهذا نشأ الحوار الذي هو صراع في إطار الوحدة، أو حركة في إطار التناقض .. إن الصورة لا تكتمل ولا نفهمها إلا في دلالاتها الحركية؛ أي وجود النقيضين، وإلا بدت مواتا .. وهل الحياة إلا حركة بين نقائض؟!
ويكتمل ما سبق بالحديث عما اصطلحنا على تسميته أزمة الترجمة في العالم العربي. وسبق أن تناولت هذا تفصيلا في ضوء إحصاءات ذات دلالة، سواء في كتابي «الترجمة في العالم العربي» أو في تقرير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة 2003م. وتؤكد الدراسة أن الترجمة متدنية أشد التدني، وطالبنا - كما سبق أن طالب عميد الأدب العربي طه حسين - بإنشاء مؤسسة عربية للترجمة. ولكن على الرغم من محاولات الإنقاذ وستر العورة وإنشاء مراكز ترجمة في عدد من البلاد العربية، مع رصد أموال ضخمة في بلدان الخليج، فإنها تؤكد جميعا تشتت الجهود دون هدف استراتيجي جامع واضح مشترك.
وهذا ما أكده أيضا التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية؛ إذ أوضح تقرير عام 2007م أن المناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والفكر الأصولي السلفي المتطرف. وأشار إلى أن هذا المناخ هو المسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم، وعن الاهتمام بالقراءة وبالبحث.
والرأي عندي أن واقع حال الترجمة، بعيدا عن الشكليات والأرقام الصماء، ليس أزمة، بل هو موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة والإبداع والتجديد قرين الفعالية المجتمعية لإنتاج الوجود الذاتي. ولا يستقيم الحديث عن الترجمة دون الحديث عن الفعل الإبداعي المجتمعي والفضول المعرفي .. الفعل والفكر الاجتماعيان في اقتران جدلي تطوري .. وهذا غير وارد في ثقافتنا؛ ثقافة الإقصاء والاكتفاء الذاتي بالموروث .. ولا يستقيم كذلك دون الحديث عن الإنسان، وتغيير الواقع بإرادة ذاتية، وبالانخراط كقوة فاعلة إيجابيا في الفعل والفكر العالميين؛ أي الانخراط في الحداثة انخراطا إبداعيا ذاتيا تكامليا في تطور مرحلي .. أعني الوحدة مع الصراع في العالم الحديث؛ فهذا شرط التغيير الجذري الحضاري نحو واقع مصري يبدعه الإنسان المصري.
والآن وقد تجاوزت التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظرة مودع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحو غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعد مجتمعا، بل أصبحت تجمعا سكنيا، وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك، وهو أنها باتت تجمعا سكنيا لغرائز منفلتة .. أفتقد مصر الحلم الحافز، مصر الوعي الموحد تاريخيا، مصر الوطن والمواطنة، مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية .. مصر المستقبل .. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب.
ولكن تحت الرماد جذوة نار قد تتأجج ويشتد لهيبها .. ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل .. هكذا علمنا التاريخ .. ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء.
صفحة غير معروفة
شوقي جلال
إهداء
إلى من يؤرقهم فعل الحاضر،
وحلم المستقبل؛
حاضر ومستقبل الوطن والإنسان.
شوقي جلال
مقدمة الطبعة الأولى
الترجمة عنصر أساسي من بين عناصر الفعالية الاجتماعية النشطة . فعالية قائمة على المعرفة العلمية؛ إنتاجا لها، وبحثا عنها، وتسامحا معها، وإيمانا بها أساسا للبناء والتجديد. فحياة العصر - بل الحياة الاجتماعية في كل العصور - هي قبول للتحدي الوجودي تأسيسا على المعرفة الاجتماعية وإبداع الجديد. ليس في التاريخ مجتمع ضمن بقاءه ووجوده اقتداء بآخر، أيا كان هذا الآخر في الزمان أو في المكان، يسلم إليه الزمام، ويرتضي حياة الاطراد العشوائي، كأنما أقال العقل الباحث؛ فمثل هؤلاء خارج التاريخ. وإنما ضمان الحياة هو اطراد البناء الحضاري، وهو بناء متجدد أساسه المعرفة، إبداعا ذاتيا، واستيعابا لمعارف الآخرين، في إطار من التنافس ونزوع إلى التفوق.
وهذا الكتاب محاولة نقدية لسبر غور حياتنا الثقافية والفكرية من خلال مؤشر الترجمة، وواقع حالها، بعيدا عن صخب الشعارات، ورطان النعرات، ودغدغة الوجدان؛ وإنما استنفار لقوى الفعل والتحدي في ضوء الواقع، وإن بدا أليما. والتركة وإن كانت مثقلة، إلا على أولي العزم. لهذا أود أن نقرأه وعيوننا على المستقبل وليس على الماضي. قد نرضى أو نهنأ بالقليل في الحاضر، قياسا إلى ماض حديث أو وسيط ساده الخواء الفكري، ونظن - والظن هنا إثم - أننا أنجزنا، وحالنا أفضل، فنخطئ التمييز بين تحول حضري بلغناه بفضل الغير، وتحول حضاري ننشده ولم نبلغه؛ لأننا أخطأنا الوعي بأسسه، ولا يتحقق إلا بفضل جهد الذات. لذلك أحاول هنا أن نرى صورتنا من خلال الآخر، ومقارنة به، لا تمجيدا له، وإنما حفزا للذات، وحثا على قبول التحدي، ودعوة إلى فعل اجتماعي على هدى واقع واضح البيان.
الكتاب يقول - من واقع الإحصاءات: إننا منصرفون عن القراءة، وعن المعرفة الحضارية المعاصرة تحصيلا وإنتاجا، وإننا لا نزال نعيش عصر الشفاهة، وهو ركون إلى فرد نظن به الحكمة المتفردة، وامتلاك ناصية المعرفة، فيه الكفاية، وله الأمر، وتعطيل لفكر الإنسان العام. وبين هذا ومقتضيات التطور الحضاري العصري أزمان. والكتاب يؤكد أننا لسنا دون الآخرين شريطة أن نعقد العزم اجتماعيا، ونهيئ أسباب النهوض. لا نتخذ الثقافة زخرفا وزينة، ولا الاستهلاك معيارا، ولكن نتخذ العلم منهجا وثقافة ومناخا وإنتاجا وتنظيما للحياة؛ فهذه هي بطاقة الانتساب إلى العصر، وتجاوز قرون التخلف. فالإنسان/المجتمع يعيش حياته بين أحد حالين؛ الوضع أو الحركة؛ الوضع سكون ورضاء بالموروث، وقناعة بحكمة القدماء. والحركة فعل نشط ركيزته إبداعات وإنجازات العقل في مستوى العصر. وغذاء الحركة المعرفة؛ فهي ضالة الإنسان/المجتمع إبداعا، وانتزاعا، أو استيعابا من كل مصادرها شرقا وغربا، داخل بنية حاضنة خصيبة. والحركة بهذا المعنى مؤشر الحياة على طريق الارتقاء، وبدونها استسلام للوضع، والثبات في الطبيعة، تحلل للعناصر وفساد للبنية.
صفحة غير معروفة
والترجمة، وإن كانت عنصرا واحدا، إلا أنها عنصر كاشف لمجمل عناصر الصورة الكلية، وحياتنا الاجتماعية الواقعية؛ إذ لا يوجد عنصر هو جزيرة مستقلة يمكن أن ينشط دون العناصر الأخرى، وإنما عناصر البنية الاجتماعية جميعها تتحرك وتنشط في تكامل وامتداد. ويتجلى هذا في الإنسان/المجتمع أداة وهدفا. والقصد من الحديث هنا عن الترجمة إنما شهادة على المجتمع في شموله. وصورة حالة الترجمة هي تعبير عن حال أشمل وأعم. والنهوض بالترجمة لا يكون إلا حين ينعقد العزم على النهوض بالمجتمع في ضوء صورة للمستقبل واضحة المعالم، تؤكد عامل الانتماء، فتكون الترجمة استجابة لمطلب اجتماعي ملح، وتكون دالة ووظيفة.
لم أشأ الحديث عن نهضة الترجمة في العصر الكلاسيكي الإسلامي؛ فهذا كله معروف ومحفوظ، رددناه مرارا نلتمس فيه التعويض. ولكن قصرت الحديث عن واقعنا الراهن المجهول؛ لإسقاط الغمامة عن العيون. المنطلق فهم الواقع دون زخارف، والغاية دعوة إلى تضافر الجهد لتدارك ما فاتنا وهو كثير. فالوجود عزم ومعاناة، وأبواب التاريخ مفتوحة فقط لصناع الحياة.
مقدمة الطبعة الثانية
الترجمة بين ثقافة الوضع وثقافة الموقف
تقول حكمة صينية: «من لا يقارن لا يعرف.» وإذا كانت المقارنة ضرورية لتعرف الذات موقعها من الآخر، ووقع خطوها في تفاعلها وتنافسها مع هذا الآخر، ومن أجل بناء نفسها؛ فإنها الآن أكثر ضرورة في ظل شرط وجودي عالمي جديد، تداخلت فيه العلاقات بين الأمم والجماعات والأفراد، بحيث يقال: إن الوجود الاجتماعي على الصعيد العالمي وداخل المؤسسات وفيما بينها أضحى وجودا شبكيا، بحيث لا يمكن لمجتمع أن يبني ذاته تأسيسا على رصيده الذاتي، أو بمعزل عن الآخر، أو عالة عليه ، مستهلكا للفكر والتكنولوجيا.
لهذا اعتمدت في كتابي على المقارنة لاستبيان حقيقة وضعنا، واخترت الترجمة مؤشرا على موقفنا من المعرفة؛ لكي نقارن بين حالنا وحال غيرنا ممن يخطون على عتبة عصر جديد يسمى عصر المعلوماتية، أو الثورة المعرفية. عصر يمثل طورا جديدا في سلم التطور الارتقائي للبشرية، يكاد يماثل مرحلة اختراع الكتابة، وستكون له تجلياته الفيزيقية والعصبية والنفسية والاجتماعية. طور ربما يكون حدا فاصلا بين نوعين من البشر، بحيث يخلف وراءه من هم أدنى مستوى، وأعجز عن الملاحقة والتكيف.
والمجتمعات - أو لنقل الثقافات الاجتماعية - في رأيي صنفان، والتصنيف ليس قدرا أبديا، وإنما السيادة والغلبة لهذا أو ذاك رهن شروط وجودية للنهوض أو الانحسار؛ أقول صنفان هما: ثقافة الوضع، وثقافة الموقف.
ثقافة الوضع قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخي الموروث. والمعرفة عندها - أو قل العلم الأسمى - لا يتجاوز حدود تأمل هذا الرصيد، وأقوال الأولين، والأمل عود على بدء، ومن ثم عزوف عن الإبداع والتجديد. والزمان امتداد متجانس، فارغ من الأحداث، إلا الحدث الأول والأهم فهو بداية التاريخ وغايته.
وثقافة الموقف إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار عزم على التغيير والتجديد، وفهم مجريات الأحداث والظواهر، وتراكم متجدد متطور لرصيد المعلومات والمعارف، ومن ثم تطور وارتقاء مطرد للهوية الثقافية التي هي عين الفعل الاجتماعي النشط في الزمان، وليس السكون والبحث عن هوية مجهولة في غيابات التاريخ.
ثقافة الوضع تقف على قارعة طريق الحياة، تتأملها تجليات لإرادة من خارجها. وثقافة الموقف تخوض غمار لجج نهر الحياة الصاخب الدافق، تتجدد وتتغير، وتبني وتتحدى وتستجيب، تأسيسا على الفهم والوعي والعقل الحر الناقد الفعال، إنها إبداع الحياة وصناعة التاريخ.
صفحة غير معروفة
نتحدث عن أزمة اللغة أو قصورها عند الترجمة أو التعبير. والأزمة هي أزمة الإنسان/المجتمع الفاعل على مستوى حضارة العصر. أزمة الفعل الاجتماعي النشط. فعل إبداع الوجود. واللغة هي الفعل، والفعل على مدى التاريخ التطوري هو استجابة التحدي؛ أي هو الحضارة؛ ففي البدء كان الفعل. لم تبدأ اللغة مع الإنسان في تطوره الارتقائي بصيحة، بل بدأت بفعل اجتماعي منذ الإنسان المنتصب القامة
Homo erectus ، فالإنسان الماهر
Homo habilis ، والإنسان العاقل
Homo sapiens ، ومع تعقد الفعل وتعدد وتباين الاستجابات والتحديات تعقدت البنية العصبية، وتعقدت اللغة وبنية المجتمع، وتعددت الكلمات والمفاهيم.
نتحدث عن تراثنا التاريخي في الترجمة باعتزاز، وننسى أن نقارن، وننسى الفعل الاجتماعي، وننسى الإنسان. الفعل هو الوجود الاجتماعي المشروع، أو هو أساس شرعية الوجود، والإنسان هو الغاية والهدف والشهادة على هذا الوجود.
تراثنا التاريخي في الترجمة يؤكد أن ما كان في لحظة من الزمان كان عظيما بكل مقاييس زمانه، ولكنه مضى مثل سحابة صيف. ولم نسأل: لماذا؟ وتراثنا التاريخي في الترجمة يشير إلى أن جملة ما ترجم على مدى أربعة عشر قرنا لا يتجاوز عشرة آلاف كتاب. ولا نسأل: لماذا؟ ولا: كيف يستقيم هذا مع العظمة التي نزهو بها على امتداد قرون الخواء الفكري أو الأنوميا الاجتماعية؟ تراثنا التاريخي في الترجمة يؤكد أنه بعد أن انقشعت سحابة الصيف كفت المجتمعات العربية عن الأخذ وعن العطاء في إطار المعرفة والفكر والإبداع. وعاشت مع تراث فكري مكرور غلفته أساطير، ووجود اجتماعي ثقافي متجانس. وكفت عن الفعل الاجتماعي الإنتاجي الإبداعي، وانعكس هذا في العلوم والفكر واللغة.
ظلت المجتمعات العربية حبيسة ثقافتها التقليدية إلى أن حل القرن التاسع عشر، وظهرت مصر على ساحة الفعل الاجتماعي أو النهضة والتحديث. واقترن هذا بنشاط فكري وعلمي وتعليمي، وأضحت الترجمة أساسا متكاملا مع هذا النشاط الاجتماعي الهادف. وظهرت أيضا «متصرفية لبنان» التي كانت رائدة في مقاومة التتريك، وتأكيد دور اللغة العربية والترجمة إليها. وتراوح نشاط الترجمة بين صعود وهبوط في اتساق مع حركة الفعل الاجتماعي التجديدي النهضوي.
وبعد أن انتصف القرن العشرين، ومع تصفية الاستعمار، واكتشاف النفط، ظهرت المجتمعات العربية دولا ذات كيانات مستقلة، وبزغت حركات ترجمة وليدة وناهضة في عدد منها، بينما لا يزال البعض الآخر بغير اسم على خريطة النشر. وجدير بنا الإشادة بدور لبنان والكويت.
والكتاب دراسة نقدية مقارنة، لسبر غور حياتنا الثقافة والفكرية، من خلال مؤشر الترجمة وواقع حالها، مع مقارنة بالآخرين في مسيرتهم الحضارية. ودعوت إلى أن نقرأه وعيوننا على المستقبل وتحدياته، وليس على الماضي فقط، حتى لا نخطئ التمييز بين تحول حضري بلغناه بفضل إنتاج الغير، وتحول حضاري أخطأنا الوعي بأسسه.
وحاولت أن نرى صورتنا من خلال الآخر ومقارنة به، لا تمجيدا له، وإنما استنفارا لقوى التحدي الكامنة عند أولي العزم.
صفحة غير معروفة
والكتاب يقول: إن موقفنا من الترجمة هو تعبير عن موقفنا من المعرفة إنتاجا إبداعيا، وتحصيلا لها من كل مصادرها المتعددة المتباينة، والتزاما بمنهجية الإنتاج والتحصيل في ضوء عقل ناقد. ويقول الكتاب من واقع الإحصاءات: إننا منصرفون عن القراءة، وعن المعرفة الحضارية العلمية المعاصرة، وإننا لا نزال نعيش عصر الشفاهة. ركونا إلى وجود فرد له الهيمنة حاضرا، أو من ماضيه البعيد، نظن به الحكمة المتفردة، وامتلاك ناصية المعرفة، فيه الكفاية، وله الأمر، وتعطيل لفكر الإنسان العام.
والكتاب يقول: إن شروطا وجودية تحكم حياتنا الثقافية صرفتنا عن الإنتاج المعلوماتي، والإبداع الفكري، والتنسيق المعرفي، ووأدت فينا الفضول والنهم لتحصيل معارف الآخرين، واكتساب أسباب وأسس الحضارة وتوطينها. وبتنا نعيش عيالا على الآخر في إنتاجه الثقافي والمعرفي، مستهلكين تابعين؛ ولذلك لسنا طرفا في حوار أو صراع الحضارات.
وتعطلت أو انحسرت الترجمة كنشاط اجتماعي، وهي إحدى أدوات تمكين المجتمع من التفاعل مع الجديد في العلوم والفنون والإنسانيات قرينة الإبداع المحلي، ولكننا نصرخ من موقع الضعف والخواء. الغزو الثقافي يتهدد الهوية، بينما الهوية ليست: من أكون؟ بل: ماذا أفعل؟ ليست الهوية ذكرى ماض تاريخي، بل انخراط إيجابي في الفعل الحضاري. والترجمة قوة تحرير، وأداة تمكين، وشرط للاستقلال، وليست أبدا عونا لغزو فكري حين يتلقاها عقل فاعل ناقد.
تفيد الإحصاءات الواردة في الكتاب أن البلدان العربية تحتل موقعا شديد التدني، ليس فقط بالنسبة لدول المركز المنتجة مرحليا للمعارف، بل وبالنسبة لبلدان الأطراف المجاهدة لاحتلال موقع متقدم على صعيد التحدي الحضاري. العالم العربي كله وتعداده يناهز 270 مليونا يترجم ما لا يزيد عن 450 عنوانا، وانخفض إلى أقل من ذلك بعد أن كف العراق عن الفعل إثر الاحتلال الأمريكي . والملاحظ أنه من بين هذا العدد لا تحتل العلوم، ولا تحتل الكتب التي تصوغ عقلا علميا وعلمانيا، إلا نسبة ضئيلة جدا، تصل عند الدول العربية المنتجة للترجمة إلى 2,5 بالمائة. هذا بينما إسبانيا وتعدادها 38 مليون نسمة تترجم أكثر من عشرة آلاف عنوان سنويا، وتترجم السويد وتعدادها 9 ملايين نسمة 2500 عنوان سنويا، منها ألف عنوان تقريبا أعمال أدبية، وألف عنوان دراسات غير أدبية؛ أي علمية، و500 عنوان من كتب الأطفال (تتس روك: المستعرب والمترجم والأستاذ بجامعة أوسلو السويد). وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية تترجم تراث البلدان الأخرى لتكون هي بنك أو مصدر المعلومات للعالم، وفق الصياغة الأيديولوجية التي تراها هي، ومن ذلك كتب عن الطب في مصر الفرعونية، وعن التراث الإسلامي.
وفي دراسة للدكتور محمود إسماعيل صالح الصيني، الأستاذ بجامعة الملك سعود، نرى مثالا آخر. تشير الدراسة إلى أن سلاح الجو الأمريكي في عام 1978 ترجم حوالي 75 ألف صفحة؛ أي ما يعادل 250 كتابا في دراسات تخصه، مع العلم بأن الإنجليزية لغة حضارة العصر الأولى. وتشير الدراسة أيضا إلى أن هيئة حكومية واحدة هي هيئة الخدمات المشتركة للمنشورات البحثية، والتابعة للمكتب الفيدرالي للمعلومات العلمية والثقافية في وزارة التجارة الأمريكية، ترجمت خلال النصف الأول من العقد السابع حوالي 274 ألف صفحة؛ أي حوالي 910 كتب. واللافت للنظر أنه في الوقت الذي أجاز فيه نظام التعليم في مصر، في إحدى المراحل، نجاح التلاميذ مع رسوبهم في مادتين، وقع اختيار التلاميذ على الإنجليزية والرياضيات، وهما المادتان اللازمتان للاطلاع والتفاعل مع إنجازات العصر؛ أقول: في هذا الوقت أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي تشريعا عام 1958م يحمل اسم
Title lv Defence Act ، يقضي بتشجيع تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الأمريكية، باعتبار هذا قضية أمن قومي، ونجد في الولايات المتحدة أيضا أن وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» مولت إعداد دليل يضم عناوين الهيئات التي توفر المواد العلمية والتقانية المترجمة إلى الإنجليزية داخل الولايات المتحدة. وصدر هذا الدليل عام 1987م، ويتألف من 32 صفحة تشمل فقط عناوين تلك الهيئات التي يعتبرونها مصدرا لترجمة إنجازاتها العلمية العالمية فور صدورها. ومرة أخرى أقول: على الرغم من أن الإنجليزية هي اللغة الأولى في المنشورات العلمية.
وأشار الكتاب إلى جهود اليابان التي وصلت بها إلى ما هي عليه الآن.
عمدت اليابان، منذ مطلع القرن، إلى الاتفاق مع أهم دور النشر العالمية لترجمة أعمالها، وصدورها باللغة اليابانية في ذات الوقت الذي تصدر فيه بلغتها الأصلية. وكانت اليابان تترجم في مطلع القرن أكثر من 1700 عنوان في السنة، ويتجاوز العدد الآن 35 ألف عنوان. إنه نهم التحصيل لإنجازات العصر. ولم تفقد اليابان هويتها، بل تعززت.
ويشير الكتاب إلى أن إنتاج إسرائيل في الترجمة يعادل إجمالي إنتاج البلدان العربية، هذا على الرغم من أن المجتمع الإسرائيلي متعدد الألسنة، إضافة إلى العبرية. وأسست إسرائيل عام 1959م برنامجا للترجمة العلمية تنفذه مؤسسة هي أكبر مؤسسة حكومية متخصصة ضمت عام 1967م عدد 250 مترجما متفرغا، و1440 مترجما متعاونا من الخارج (د. صفاء محمود عبد العال، التعليم العلمي والتكنولوجي في إسرائيل، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2002م).
وحتى نقرن هذا بإصدارات الكتب تأليفا وترجمة، ونصيب الفرد منها؛ نجد الآتي:
صفحة غير معروفة
إصدارات الكتب لكل مليون في أوروبا عام 1991م هي 802 عنوان.
إصدارات الكتب لكل مليون في العالم العربي عام 1991م هي 29 عنوانا. المشكلة هي كتاب وقارئ.
ويدعو الكتاب إلى تعريب نشاط الترجمة على الرغم من ضآلته.
وأعني بذلك أن يكون المنطلق عربيا نهضويا في إطار استراتيجية قومية للتطوير الحضاري، شاملة كل مناحي الحياة؛ إذ الملاحظ أن قدرا كبيرا من نشاط الترجمة إنما تديره وتنظمه وتموله مؤسسات دبلوماسية أجنبية، وما عداه نشاط عفوي لا يخضع لخطة.
مرة أخرى الفجوة بيننا وبين العالم المتقدم فجوة معرفية حضارية؛ أعني فعالية اجتماعية على صعيد حضارة العصر، في إبداع وإنتاج المعارف وتوظيفها. وأضحت الهوة أكثر اتساعا مع الثورة العلمية التكنولوجية التي تقتضي إعادة تشكيل الأساس المادي للمجتمعات، وبناء الإنسان. العصر الجديد يتميز بتسارع تكثيف وتراكم إنتاج المعلومات، تأسيسا على تكنولوجيا توليد المعرفة، ومعالجة المعلومات، والاتصال الرمزي. وهنا المعلومات قوة منتجة للمعلومات والمعارف، مع مزيد من التعقد في معالجة المعلومات.
إن قوة عظمى سقطت؛ لأنها عجزت عن دخول عصر المعلوماتية، ليس فقط من حيث الإنتاج والتوظيف، بل من حيث القيم، وإعادة تشكيل البنية الدينامية، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقة مع السلطة، ودور الإنسان العام. ومن أهم هذه القيم ثقافة الحرية والابتكار، وثقافة إدارة جديدة لعلاقات المجتمع. ولعل مسألة إعادة هيكلة النظام الرأسمالي هي وجه لمخاض أزمة ميلاد جديد في الغرب.
لهذا كان الفصل الختامي من الكتاب دعوة إلى إنشاء مؤسسة عربية للترجمة تتضافر فيها الجهود. وأن تكون هذه المؤسسة دعامة من دعامات بنية متكاملة لاستراتيجية تحول حضاري شامل لكل مجالات الحياة؛ العلم المؤسسي، والتعليم، والإعلام، والسياسة، والتنشئة الاجتماعية ... إلخ، وهذه دعوة قديمة دعت إليها جامعة الدول العربية، ولم تر النور؛ لغياب فعل التحول الحضاري الشامل. وأرى أن تنطلق الدعوة من جديد، وتظل مفتوحة لكل من آمن بالخط العام للتطوير الحضاري.
مقدمة الطبعة الثالثة1
قد يبدو غريبا أن أستهل مقدمة الطبعة الثالثة بالإشارة إلى خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم في واشنطن. ولكن الخطاب وثيق الصلة من حيث دلالته بموضوعنا عن الترجمة ونقل المعرفة، خاصة أنني هنا أعتمد التعريف الذي قدمته للترجمة بأنها إحدى آليات تمكين المجتمع في السباق الحضاري بين الأمم. وتتأكد أهمية وحيوية هذا التعريف في سياق ظروف العولمة التي تعني تكثف الزمان والمكان وتكثف الاتصالات؛ ومن ثم تكثف التفاعل العلمي والتكنولوجي والثقافي بين الشعوب.
إن المجتمعات المتصفة بالحيوية في عصر العولمة مجتمعات مشاركة إيجابيا في حوار علمي/تكنولوجي/فكري/ثقافي على الصعيد العالمي، ومشاركة أو متنافسة على أرضية الإبداع أو السبق الإبداعي في عناصر هذا الحوار، والسبق في امتلاك ناصية أغنى رصيد للمعرفة. معنى هذا أن رصيد المجتمع من إنجازات في صورة إبداع علمي وتكنولوجي يمثل الدعامة الأولى والأساسية التي تؤهله للمشاركة الإيجابية في هذا الحوار. وطبيعي أن هذا الرصيد جامع بين مصدرين؛ إبداع محلي، واستيعاب لإنجازات الآخرين.
صفحة غير معروفة
إن جناحي النهضة أو البناء الحضاري هما معا وفي آن واحد الإبداع المحلي قرين استيعاب إنجازات الآخرين، ويصبح هذا النهج أكثر ضرورة وإلحاحا في عصر الترابط الشبكي بين المجتمعات في عصر العولمة.
يؤكد أوباما في خطابه أن الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم بإنجازاتها وتاريخها وتطلعاتها شهادة على روح الفضول المعرفي لدى الأمريكيين، الروح الذي لا يهدأ ولا يستقر له قرار، ويتطلع دوما إلى آفاق لا حدود لها لإنجاز ودعم، ليس المشروع العلمي وحده، بل دعم التجربة الحية المطردة التي نسميها أمريكا.
وانعقد هذا الأمل مع إصدار إبراهام لنكولن قانون إنشاء الأكاديمية الوطنية للعلوم على الرغم من نشوب الحرب الأهلية، ولكنه كان يؤمن أن مستقبل أمريكا ونهضتها رهن العلم.
ويضيف قائلا: رفض إبراهام لنكولن الرأي القائل: إن الهدف الوحيد لأمتنا هو مجرد البقاء. ولكنه أضاف بإنشائه الأكاديمية الوقود اللازم لإثارة الاهتمام وتأجيج عبقرية الاكتشاف.
واستطرد قائلا: ولكن كل مجالات النشاط في الولايات المتحدة تعاني الآن تحديات، وتعيش أزمة؛ أزمة تدني الاستثمار في مجال البحث العلمي على الرغم من ضرورته الحيوية لرخائنا وأمننا وصحتنا وبيئتنا ولنوعية الحياة الجيدة. لقد انخفض حجم التمويل الفيدرالي للبحث العلمي إلى حوالي النصف، وتخلفت مدارسنا عن مستويات مدارس بلدان أخرى متقدمة، بل وعن مستويات بعض الأقطار النامية. وأصبح طلاب مدارسنا دون المستوى في الرياضيات والعلوم بالقياس إلى نظرائهم في سنغافورة واليابان وإنجلترا وهولندا وهونج كونج وكوريا وغيرها. هذا على الرغم من أن الولايات المتحدة التزمت منذ أكثر من نصف قرن بأن تقود العالم بقدراتها الريادية في مجال الإبداع العلمي والتكنولوجي، وكذا الاستثمار في التعليم وفي البحوث والهندسة والسباق في الفضاء.
وأضاف: وندرك جميعا أن بحوث العلوم الأساسية هي رأسمال علمي، ونعرف أيضا أن إمكانات الأمة للاكتشافات العلمية تحددها القدرات المالية والبحثية العلمية التي يوفرها المجتمع للباحثين. واتخذت قراري الذي يقضي بأن الأيام التي فرضت على العلم في الولايات المتحدة أن يحتل مكانا خلفيا تابعا للأيديولوجيا قد انتهت؛ ذلك لأن تقدم أمتنا وتقدم قيمنا يمتد بجذوره إلى حرية البحث. لهذا فإن تقويض سلامة ووحدة وحرية العلم تقويض للديمقراطية. وحري أن تتأسس السياسات الفيدرالية على أفضل قاعدة من المعلومات العلمية الأبعد ما تكون عن الانحيازات الأيديولوجية؛ إذ يجب أن نؤكد أن الحقائق الموضوعية هي ركيزة قراراتنا وليس الأيديولوجيا.
واستطرد قائلا: نحن بحاجة كذلك إلى العمل مع أصدقائنا في العالم؛ ذلك أن العلم والتكنولوجيا والإبداع نشاطات تتسارع حركتها أكثر فأكثر بفضل تقاسم الجهد والاستبصارات والكلفة المالية والمخاطر. وندرك أيضا أن تقدم ورخاء الأمة وأجيال المستقبل رهن ما نقدمه لهم من غذاء تعليمي؛ لهذا أعلن التزامنا بالنهوض بالتعليم في مجالي الرياضيات والعلوم؛ إذ إن هذه هي سبيلنا لكي يحتل طلابنا مكانة أرفع مستوى. إن الأمة التي تتفوق في التعليم اليوم هي التي ستبز غيرها وتفوز عليها في المستقبل. إنني أحثكم على التزام روح التحدي لكي تستثمروا حبكم للعلم والمعرفة العلمية لتأجيج حاسة الدهشة والإثارة والتساؤل والمغامرة المعرفية لدى جيل جديد.
حري أن نقرأ هذا بعقل نقدي واع، نقدي للذات وللآخر، يعتمد الموضوعية العلمية، ويعتمد منهج المقارنة بين حالنا وحال أمة قادت العالم على مدى قرن، هو القرن العشرون، حتى أطلق عليه الباحثون صفة «القرن الأمريكي». وتواجه الولايات المتحدة، القطب العالمي الأول ثم الأوحد قرابة قرن من الزمان، تحديا حقيقيا من الصين والهند. وإنها إذ تنظر إلى نفسها نظرة نقدية في مرآة واقعها ومرآة البلدان المنافسة، تكشف بصدق الباحث عن الحقيقة في ضوء رؤية نقدية علمية، عن أوجه القصور الحقيقية ومظان الإصلاح الفوري بعزيمة صادقة؛ لضمان اطراد الريادة أو على الأقل عدم التراجع لتحتل مرتبة ثانوية. بيد أنها يؤرقها الخوف من المستقبل القريب، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الراهنة على الرغم من أنها لا تزال البلد الأقوى اقتصاديا وعلميا.
والسؤال لنا - عن أنفسنا في ضوء ما سبق: ماذا أعددنا نحن للنهوض بمجتمعاتنا وإنقاذها من مهاوي التخلف الذي استسلمنا له عمليا وإن كنا ندينه كلاما ورطانا. وهذا هو ما يحدث ويتكرر دون ملل عند الحديث عن الترجمة ونقل المعرفة.
واقع الترجمة موضوع كاشف لحال المجتمع في ضوء أبعاد متعددة؛ البعد المعرفي والثقافي والعلمي والتعليمي والإبداعي، وهي جميعا متشابكة في جديلة أو منظومة واحدة ذات عمق تاريخي اجتماعي، وأيضا ذات مدلول اقتصادي سياسي. أو لنقل بمعنى آخر: إن نشاط الترجمة دال على نشاط المجتمع جملة في حركة هذا المجتمع سلبا أو إيجابا، تقدما أو نكوصا على صعيد السباق الحضاري. ونلحظ أنه على الرغم من تواتر الحديث في كل أنحاء العالم العربي عن الترجمة ونقل المعرفة خلال السنوات الأخيرة، إلا أننا لم نخط خطوة عملية حقيقية على طريق الكشف، ومن ثم معالجة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تدني مستوى الترجمة.
صفحة غير معروفة
وجدير بنا أن أشير هنا إلى أنه مع صدور الطبعة الأولى من كتابي هذا صادف الكتاب ما يشبه الإغفال التام. ولكن بعد حديث الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش عن أزمة المعرفة وتدني مستوى العلم والبحث المعرفي في العالم العربي، وهو ما يتجلى في تحصيل المعارف العلمية تأسيسا على ما قدمته من إحصائيات ضمن تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2003م، وهي الإحصاءات والرؤى ذاتها المثبتة في هذا الكتاب. هنا انبرى كثيرون لنقد الإحصاءات، وحقيقة الأمر أن هول الصدمة كان كاسحا وكأننا أفقنا من غفوة وكشفنا عن عورة أو سوأة مجتمعات اعتادت في كبرياء مزعومة أن تسمي نفسها دائما «أمة اقرأ». هذا بينما واقع الحال يكشف أن لا علاقة لها البتة بتوسيع آفاق قراءة المعارف العلمية العالمية، ناهيك عن توسيع آفاق الإبداع المحلي.
وقنع الناقدون الموسومون بصفة «أعلام الفكر العربي» بتكذيب الإحصاءات. ولم يشأ أحدهم أن يكلف نفسه الالتزام بمنهج عقلاني نقدي أو بالمقارنة التي قدمتها بين دفتي الكتاب؛ إذ كان كل ما يعنيهم، والأمر الأهم في نظرهم مداراة العورة، وليس البحث عن الأسباب والعلاج. وأود أن أذكر هنا أنني مع الإحصاءات التي قدمتها عن أعداد الكتب والترجمات قدمت إحصاءات موازية عن استهلاك ورق الطباعة ومقارنتها أيضا بالمجتمعات الأخرى، وترجح المقارنة صدق النتائج إلى حد يقرب من التأكد. وأذكر علاوة على هذا، ما يدركونه ولكنهم أغفلوه عمدا، أن إحصاءات منظمة اليونسكو التي اعتمدت عليها استقتها المنظمة من البلدان العربية ذاتها ولم تبتدعها أو تصطنعها لخدمة أغراض أيديولوجية تآمرية . ولكننا لأننا مجتمعات تعشق الطرب، ويروقها فقط ما يطربها ويدغدغ وجدانها، وتقبل فقط ما يتطابق مع فكرها هي دون أن تتكلف مشاق البحث عن الحقيقة؛ لهذا ضاقت بالإحصاءات الواردة في الكتاب شأنها دائما حين تضيق بكل ما هو مختلف. ونظرا لأن ثقافتنا ثقافة كلمة لا ثقافة فعل؛ فقد انتهى الأمر بعد تدبيج المقالات المعارضة.
وإذا كنا نؤمن بأن التفكير عبر الحقيقة العلمية هو سبيلنا للنهوض، فإنني أؤكد أيضا أن نهج الالتزام بالحقيقة العلمية هو ديدن المؤمنين بالتغيير؛ تغيير الواقع والفكر معا. وطبيعي أن العمل على التغيير يستلزم مع توفر الإرادة الذاتية الجمعية، معرفة الواقع في ضوء منهج البحث العلمي المعتمد مرحليا. ولكن أسرى الأيديولوجيات يهيمون عادة مع تخييلات مقطوعة الصلة بالواقع، وعندهم الماضي والحاضر والمستقبل. امتداد متجانس على صعيد سواء حيث لا تغيير.
وعلى الرغم من مضي سنوات فإننا لا نلمس جهدا مجتمعيا حقيقيا لتنشيط حركة الترجمة في اتجاهها وسياقها المجتمعي الصحيح. وهكذا جاءت شهادة صدق على لسان التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية عن الحصاد الثقافي العربي لعام 2007م؛ لتؤكد صواب ما سبق أن أوضحته الإحصاءات التي أثبتناها في الطبعة الأولى، ولم يأت العالم العربي بشيء جديد، إن لم نقل: ساء الحال أكثر كما تفيد كل الشواهد. عرض التقرير العربي الأول الوضع، وأكد أن المناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والفكر الأصولي السلفي والتطرف. وأشار إلى ما يفيد بأن هذا المناخ هو المسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم وعن الاهتمام بالقراءة العلمية وعن البحث، وهو ما يتجلى في ميدان النشر تأليفا وترجمة. ويؤكد التقرير تدني النشر العربي تأليفا وترجمة، وقصوره الشديد، وندرة الكتاب الذي يتناول علوما أساسية، وغلبة الكتب الدينية والأدبية.
وقد يدفع البعض دفاعا عن الوضع المتردي القائم، بأن ثمة جهات عربية خليجية كشفت عن اهتمام طارئ بنشاط الترجمة. وتجسد هذا في صورة مخصصات مالية ضخمة، أو في إقامة مراكز ترجمة في أنحاء مختلفة من العالم العربي. بيد أن هذا كله لا ينفي عشوائية وفردية النشاط، ولا ينفي تعطله من هدف قومي مرسوم وفق استراتيجية تطوير حضاري؛ مما يفرغ الجهد من صفة المنظومية الهادفة، فضلا عن افتقار المجتمعات العربية للمناخ الداعم لحرية التخطيط والاختيار. ولعل الأخطر والأهم أيضا افتقار المجتمعات العربية لمراكز الإبداع العلمي الحر على مستوى حضارة العصر، وهي الشرط البنائي الذي يجعل من الترجمة استجابة مؤسسية هادفة يستوعبها المجتمع لتسري دما في نسيجه الفكري والثقافي، وتدعم حركته الارتقائية إن وجدت.
وتدني الترجمة ليس مجرد ضآلة عدد الإصدارات المترجمة؛ ذلك أن أزمة الترجمة هي في التحليل الأخير لها أزمة قارئ/كتاب/مترجم/مجتمع له تاريخه الثقافي وواقعه الراهن علميا وتعليميا وثقافيا. وغير خاف أن المجتمعات العربية تعاني - كمثال - من تفشي حالة الأمية الأبجدية وإن اختلفت درجاتها مع اختلاف المجتمعات. ولكن الأمية ذات الصلة بالترجمة ليست فقط الأمية الأبجدية، بل هناك أيضا معها الأمية الحاسوبية والأمية الثقافية والأمية العلمية، بما يتسق مع إنسان حضارة العصر. وتؤثر هذه جميعها في طبيعة البنية الذهنية للمرء، ومدى فضوله المعرفي، واتجاه هذا الفضول ومحتواه، هل للتحصيل العلمي؟ أم لتحصيل وتكرار معارف الأقدمين التي لا تقدم جديدا ولا تفيد إلا للدراسات التاريخية؟
الارتقاء بمستوى الترجمة إلى مستوى المنافسة العالمية يستلزم بالضرورة الارتقاء بالمجتمع وبالإنسان معا على مستويات عدة؛ أولا: ارتقاء بالمستوى الثقافي الاجتماعي والعلمي والتاريخي؛ أعني إعادة تنظيم البنية الذهنية للإنسان، بحيث يكون فضوله المعرفي موجها نحو تحصيل معارف لازمة لبناء المجتمع جميعا على مستوى حضارة العصر وفق صورة يصوغها المجتمع بعبقرية وإنجازات أبنائه عن الذات وعن الحاضر والمستقبل. وحري أن يتحدد هذا في ضوء دراسة اجتماعية ميدانية لبيان الموضوعات التي تحظى باهتمام المرء، ونوع القراءات، وكم هذه القراءات ومحتواها وعلاقتها بالحركة المجتمعية المنشودة، وأثرها في حفز المرء لأي نوع من المعارف. ويقترن هذا ببذل الجهد المنظم الهادف لمحو كل من الأمية الأبجدية والثقافية والحاسوبية والعلمية. ويتعين ألا ننسى ونفيد من تجارب ناجحة في كوبا واليابان والصين وغيرهم.
وأذكر هنا - إيجازا - تجربة كوبا؛ لطرافتها ودلالتها، وهي مجتمع فقير محاصر، ولكنها استطاعت محو الأمية الأبجدية في سنتين، وأصدرت منذ ست سنوات قانونا ينظم بناء الإنسان الكوبي تعليميا وعلميا. حدد النظام ما يسمى حاسب أو كومبيوتر ما قبل سن الدراسة؛ إذ يتعين على الطفل قبل الالتحاق بالمدرسة الابتدائية أن يتعامل مع الحاسوب. وتضمن النظام أيضا تدريس علوم البيولوجيا والرياضيات وكذا اللغة الإنجليزية في المدرسة الابتدائية؛ إدراكا من المسئولين والمجتمع أن هذه هي مؤهلات المرء للانتماء إلى حضارة العصر. وليس غريبا أن تضم كوبا الفقيرة عددا من مراكز البحث العلمي العالمية التي يؤمها علماء من الولايات المتحدة على الرغم من الحصار.
وطبيعي أن الارتقاء بالإنسان رهن الارتقاء بالسياق؛ أعني الارتقاء بالمجتمع. نحن لا نزال نعيش تحت عباءة ثقافة مجتمعات الرعي والزراعة، ولا نزال بعيدين عن حضارة عصر الصناعة، ناهيك عن عصر المعلوماتية. وطبيعي أن الارتقاء بالإنسان وبالمجتمع هنا عملية واحدة متكاملة ومطردة التطور. ونعني بذلك أساسا الانتقال إلى حضارة العصر؛ أي تحديث المجتمع؛ ذلك أن عملية التحديث، أو الانتقال إلى حضارة الصناعة والمعلوماتية، عملية شاملة متكاملة، وليست تجزيئية أو انتقائية عمياء، ومن ثم التحديث ثورة تغيير لذهنية الإنسان وللاقتصاد وللسياسة والمؤسسات الاجتماعية ولدور الإنسان العام ... إلى آخر نشاطات المجتمع كمنظومة واحدة متكاملة. وهنا ستكون للقراءة أو لتحصيل المعارف وللمغامرة المعرفية حافزها الباطني ودور اجتماعي، وسيكون لها عائدها على الفرد والمجتمع، وسيكون المجتمع إطارا حافزا لهذه الجهود. وطبيعي أنه في مثل هذا السياق تأتي الترجمة أو الفهم في حرية لتحصيل معارف الغير، استجابة لحاجة مجتمعية، مما يهيئ اندماجها وتجسدها مجتمعيا، وتدخل في نسيج المجتمع قرينة إبداعاته المحلية، وتكون أداة دعم وتمكين وتطوير. وبدون ذلك يظل الحديث عن الترجمة رطانا، وتظل جهود الترجمة على تدنيها ومحدوديتها، بل وعشوائيتها، أشبه بماء مسكوب في صحراء قفر لا تثمر.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترى أنها أضحت في مسيس الحاجة إلى تنشيط الإبداع والبحوث العلمية ضمانا لاطراد الريادة والزعامة، وأنها بحاجة إلى مشاركة على صعيد عالمي في الإنجاز وفي الحوار والتفاعل؛ أقول: إذا كان ذلك كذلك بالنسبة للولايات المتحدة القطب والرائد؛ فإن البلدان العربية بحاجة أشد إلحاحا وضرورة لكي تثري رصيدها المعرفي بالإبداع المحلي والاستيعاب العقلاني النقدي الهادف للأجنبي، وما أكثره وما أشد تباينه وما أكثر مزلقاته!
صفحة غير معروفة
وطبيعي أن الترجمة هي سبيلنا لذلك، وأن الإنسان العربي المبدع في مناخ من الحرية، حرية الإبداع وتلقي المعلومات والمشاركة السياسية والعلمية في البناء، هو دعامة هذا التحديث؛ إذ كيف يكون للعرب نصيب في الحوار والمشاركة دون امتلاك نصيب من الإبداع، ودون استيعاب إنجازات الآخر. هذا وإلا سنقع في ما حذر منه أوباما الولايات المتحدة. أعني نقنع بمجرد البقاء دون الوجود الإرادي الفعال. وهنا يغدو لزاما أن نمايز بين البقاء الذي هو مجرد اطراد عشوائي، وبين الوجود الذي هو إرادة فعل هادف، ومشروع خلق، وإنتاج للثروة، الثروة التي هي الآن المعرفة وفائض المعرفة.
نحن لا نستطيع أن نفصل تدني حال الترجمة عن تدني الوضع العلمي والتعليمي بكل مستوياته وتخصصاته في العالم العربي، خاصة تعليم اللغات في صورة متطورة، وأعني اللغة العربية قرين اللغات الأجنبية. ونحن لا نستطيع أن نفصل تدني واقع الترجمة عن تدني الواقع الاقتصادي والاجتماعي والحضاري بعامة. ونحن لا نستطيع أن نفصل تدني الترجمة عن واقع قمع الحريات، حرية الفكر والتعبير وتلقي المعلومات، وحرية النقد والإبداع. ونحن لا نستطيع أن نفصل تدني واقع الترجمة عن تدني حقوق الإنسان، ومنها حق ومسئولية الإنسان العام في المشاركة الإيجابية في إدارة ومهمة شئون البلاد، وحق الإنسان العام في أن يختار لنفسه وبنفسه في حرية حياته وعمله ومستقبله.
ونحن لا نستطيع أن نفصل تدني الترجمة عن طبيعة وقيم وأساليب التنشئة الاجتماعية. التنشئة القائمة على الخوف من المجهول وليس اكتشافه، والتنشئة القائمة على القناعة بالرصيد المعرفي الموروث دون إثرائه بالبحث والتجديد والمغامرة، التنشئة الاجتماعية القائمة على ثقافة الاختزال عند السؤال عن الأسباب وردها إلى سبب واحد خارج طبيعة الظاهرة دون ثقافة تعدد الأسباب الكامنة في الظاهرة والطبيعة والتاريخ. التنشئة الاجتماعية التي تحصر الواجب المعرفي في قراءة كتب ما بعد الحياة دون الاهتمام بقراءة ومعرفة كتاب الحياة، ومن ثم التنشئة التي تكرس تغييب إرادة الفعل وتفضي إلى تغييب المسئولية وواجب الإنسان/المجتمع؛ مسئولية وواجب قبول التحدي والثقة في الاعتماد على النفس للإنجاز. تنشئة تؤكد وترسخ ثقافة قصور العقل وقصور إرادة الفعل وقصور العلم، وبالتالي إعفاء الإنسان من مشقة البحث وإعمال الفعل والفكر، وإعفاءه من بذل الجهد للقراءة والتحصيل.
ومن هنا لا نفصل تدني واقع الترجمة عن غياب الرؤية العامة المجتمعية نحو مستقبل حضاري جديد، وشيوع السلفية التي هي في جوهرها هجرة إلى الماضي وإلى الغيب ملاذا آمنا هربا من واقع قاس غير آمن وغير واعد وعاطل من الأمل المشترك جميعا. صفوة القول: النهوض بالترجمة لا يكون إلا عبر النهوض بالمجتمع والارتقاء بالإنسان وتعظيم رأس المال البشري؛ أعني التحديث الشامل للمجتمع على مستوى حضارة العصر، وعلى نحو يؤكد إرادة الإنسان العام المشارك إيجابيا، ويؤكد عمليا ودستوريا حقه وواجبه في الاعتزاز والانتماء.
ونعود لنقول ما قاله أوباما، وما قاله مفكرون عرب كثيرون على مدى التاريخ في الماضي القريب وفي الحاضر، وإن أهملهم التاريخ سواء لحساب دعاة التقليد؛ تقليد السلف، أو لحساب قوى السلطة المحافظة؛ نقول: نرفض أن يكون هدف أمتنا الوحيد هو مجرد البقاء كاطراد عشوائي، وإنما ليكن هدفنا تحقيق، أو انتزاع حق الوجود لأنفسنا؛ الوجود من حيث هو مشروع إرادة وحرية الفعل والاختيار وبناء المستقبل، مستقبل الأمة، في مواجهة تحديات هي إفراز طبيعي لصراع الوجود الذي هو قانون الحياة، وفي إطار قيم إنسانية جديدة نكون أهلا للقيام عليها وحراستها بفضل قوة العلم والعقل المبدع. ولتكن أولوية الصدارة والانحياز للعلم دون الأيديولوجيا؛ ليتأسس عن صدق المجتمع الديمقراطي المشارك بحرية على الصعيد العالمي. مجتمع حرية البناء، وبناء الحرية. وهنا تحديدا تكون الترجمة حقا آلية دعم وتمكين لا غنى عنها، وتبلغ غاية الازدهار.
القاهرة 2009م
العرب والترجمة
أزمة، أم موقف ثقافي؟
حق وحرية الانفتاح في تسامح على فكر الآخر، والتفاعل مع أطر المعاني والدلالات فيما بين الثقافات؛ أي الترجمة. قضية خلافية، وإشكالية صعبة في ظل ثقافة الكلمة التي تعبر عن ذلك بمقولة تتكرر على مستوى التقديس في عبارة «ثوابت الثقافة العربية»؛ إذ حسب هذه النظرة: الكلمة هي الوجود الذهني المثالي الحقيقي، وليس الوجود بمعنى فضاء الفعل والتغيير المولد للفكر في تفاعل جدلي مطرد ومتطور. والكلمة/الوجود امتداد وتجل لمشيئة قدسية خالدة، ومن ثم أضحى الخلود قسمة مميزة، ومن هنا يأتي الحديث عن الثوابت ورفض التفاعل الذي يؤدي إلى صدع إطار المعنى والرؤية مع كل جديد.
ونجد في التاريخ العربي والإسلامي، أو لنقل: تاريخ الشرق الأوسط بعامة؛ خطين متوازيين متضادين فيما يتعلق بهذه المسألة التي تمثل فضاء الترجمة من حيث الموقف منها وحدودها واستثمارها مجتمعيا، ومن ثم منتجها الثقافي. هناك تاريخيا من يرفضون بحجة الحفاظ على «ثوابت الثقافة العربية»، على الرغم من عدم توافق الآراء بشأن تاريخية نشوء وتطور ومدلول هذه الثقافة وثوابتها، وكذلك بحجة الحفاظ على الهوية الاجتماعية على الرغم أيضا من أن هذا موضوع مستحدث جديد، وليس لدينا رؤية علمية لمدلول الهوية عربية كانت أم إسلامية، من حيث النشوء التكويني والتطور التاريخي الاجتماعي
صفحة غير معروفة
sociogenesis ، وهل هي هوية متخيلة أم هوية حية دينامية رهن الزمان والمكان.
وإذا عدنا إلى التاريخ العربي والإسلامي التماسا لفهم الترجمة ودورها في المجتمع، نرى بوضوح مظاهر هذا الصراع ونتائجه، ثم هزيمة طرف لحساب طرف آخر ظل له الفوز والولاية على الفكر العام حتى الآن، وله تجلياته المادية المؤثرة ومسئوليته عما آل إليه حالنا.
البداية هنا - بحكم الخطاب العربي المنحاز عقديا - مع فترة اتساع الرقعة الجغرافية الحضارية الموصوفة بالحضارة العربية حينا، والإسلامية حينا آخر؛ إذ إنه مع خروج موجة جديدة من موجات الهجرة لسكان شبه الجزيرة العربية على امتداد الحقبة التاريخية الأركيولوجية الحديثة من نطاق أو حصار صحراء شبه الجزيرة، انطلق المهاجرون العرب هذه المرة يحملون عقيدة بمسمى جديد هو الإسلام.
وتحققت لهم الهيمنة في مناطق ذات تواريخ حضارية عريقة أوشكت شعلة الحضارة - أي الإبداع والتجديد - على الانطفاء فيها، أو لنقل: ذوت جذوة الفعل الإبداعي الحضاري لأسباب عديدة؛ ثقافية وتاريخية واقتصادية وسياسية وعسكرية ... إلخ. أنهكتها الصراعات فيما بينها، وفي داخلها، ولكنها تملك تراثا غنيا من الإنجازات وقضايا الفكر والعقيدة ذات الخصوصيات المميزة. وعرف التاريخ مدارس أو منارات للفكر في هذه البلدان، مثلما شهد صراعات وغزوات متبادلة.
ونذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، أكاديمية جنديسابور في خوزستان في فارس، وجهود علمائها في مجالات الفكر والفلك والترجمة وغيرها. ونذكر مدرسة الإسكندرية لتنوع الاتجاهات العقدية والفكرية فيها، سواء في العصر الهيليني أو ما قبله؛ حيث كانت مدرسة أو معبد «برعنخ» راقودة المصري الفرعوني، الذي أنشئت مدرسة الإسكندرية البطلمية على غراره، ناهيك عن معابد مصر الفرعونية. ونذكر بلاد الإغريق ومدارس الفكر الفلسفي والرياضيات والإلهيات فيها. وكانت للإغريق تعاملاتهم وغزواتهم مع المنطقة حتى حدود الهند. ونذكر كذلك شرق المتوسط وآسيا الوسطى التي توهجت فيها مدارس فكرية وصراعات عقدية حول المسيحية في تنوع خصب، حيث مدارس النساطرة. ونذكر تاريخ بابل وآشور والسريان ومراكز الفكر في أنطاكيا وحران والرها ونصيبين وأوغاريت. وكانت جميعها قلاعا فكرية وعقائدية أثرت بإشعاعاتها في الإقليم على اتساعه، مثلما كانت لها جميعها تفاعلاتها خارج حدود هذه الأقاليم. وكان لبعضها حضور ثقافي، بل ومادي، مثل الفرس والرومان داخل شبه الجزيرة.
ضم العرب قطاعات واسعة من هذه البلدان المنهكة حضاريا، والشديدة التنوع فكريا وعقديا تحت راية سلطة سياسية واحدة تحمل اسم عقيدة الإسلام. وخلق الواقع الجديد فرصة جديدة لتفاعل جديد على نطاق إقليمي واسع بين هذه الإنجازات الحضارية السابقة. تفاعل في سياق جديد مغاير؛ سياق يمتد مكانيا من حدود الصين عبر الهند وفارس، إلى شرق المتوسط ومصر والإغريق. وكان الوضع الجديد أشبه بحقنة أدرينالين منشطة لجسد واه ضعيف، فبثت الروح والحمية فيه من جديد، وأفاق الجسد إلى حين.
وتجلت ثمار التفاعل في ظل السياق الجديد وقضاياه الجديدة، وكانت مرحلة لاستيعاب فكر وافد، وإيقاظ فكر موروث، وتفاعل من منطلق خصوصيات سابقة متنوعة مع رؤى وفكر إسلامي جديد، وليس بالغريب، وإنما يمثل نقلة على امتداد متصل الأديان في تطورها الإقليمي.
وحقق المأمون حلمه الذي استهل به فترة لم تدم طويلا، هي فترة أو عصر تأكيد سلطان العقل على الفكر والفعل الدنيويين. وهذا هو الإنجاز الذي أثمر إبداعات في الفكر الفلسفي وفي العلوم والرياضيات وفي الفلك، واستحق المأمون من أجله أن يطلق علماء الفلك المعاصرين لنا اسمه على إحدى فوهات القمر. وحلم المأمون وصياغته، الذي جاء تجليا لنشأته وبيئته، له دلالة ذات مغزى، سواء أكان تعبيرا عن وعي باطن، أم رواية عن وعي ظاهر. ويروى أنه رأى في منامه أرسطو، المعلم الأول، وسأله: «أيها الحكيم، ما الحسن؟» أجابه الحكيم: «ما حسن في العقل.»
وهذه هي العبارة ذاتها التي ظلت مقولة فلسفية موضوع جدال وسجال بين المعتزلة وخصومهم، والتي قالها الفيلسوف العربي الكندي، إلى أن بلغت ذروتها في فكر فيلسوف العقل ابن رشد، الذي حرر الحسن والعقل والحق من أي انحيازات عقدية أو مرجعيات دينية. وكان نموذج المأمون إقامة مركز يعنى بتعلم المذهب العقلي على غرار الأكاديمية الفارسية في جنديسابور التي عنيت بترجمة المعارف الإغريقية والرومانية والبيزنطية وعلوم الشرق الأقصى إلى اللغة الفارسية. وانفتحت الأكاديمية على مذاهب المفكرين والفلاسفة في تنوعهم، بمن في ذلك من كانوا يسمون الهراطقة.
وأنشأ المأمون نموذجا محاكيا في بغداد هو بيت الحكمة. ولا غرابة في ذلك؛ إذ إن المأمون أمه فارسية، وعاش حينا واليا على بلدة مرو الخاضعة للسلطان الفارسي. وأصبح بيت الحكمة في بغداد مؤسسة علمانية لمجتمع قائم على العقل والإبداع. وأقام المأمون مرصدين ومكتبة. واشتمل بيت الحكمة على برامج بحثية في علوم اللغة والطبيعة وما وراءها والرياضيات والطب والفلك. وعني بيت الحكمة عناية فائقة بالترجمة عن العديد من اللغات، وفي جميع المعارف، في نهم لا يعرف حدودا أو قيودا، وعرف التاريخ أسماء أعلام مشهود لهم دون اعتبار لفوارق عقدية، ويمثل إنتاجهم الخصب المتنوع جهدا مؤسسيا لفريق عمل بكل معنى الكلمة.
صفحة غير معروفة
ولكن الفكر الأصولي السلفي المتشدد ناصب المأمون وبيت الحكمة العداء، وخاض معارك باسم الدين والتفسير الحرفي ضد مشروعات المأمون العلمانية، التي كان مقدرا لها - لو استمرت - أن تنقل الشرق الأوسط إلى آفاق حضارية رحبة . وكان رائد هذه الحركة السلفية المناهضة للعقل في أيام المأمون هو الإمام أحمد بن حنبل في مجال العقيدة، والثاني الإمام أبو حامد الغزالي ، الذي كان بفكره معولا لهدم العقل الفلسفي، وانعقدت للفكر السلفي السيادة منذ ذلك التاريخ. ونلاحظ أن هذه المعارك لا تلبث أن تظهر نشطة دوما، معارضة لكل دعوة للعقل والعقلانية والنهضة العلمية والتطور.
وعلى الرغم من هذا الصراع باسم المقدس، فقد أعطى التفاعل ثمارا فكرية متنوعة وإبداعات علمية توجزها عبارة الحضارة الإسلامية أو العربية. ومن عجب أننا نجد من يشيد بهذا العصر، على قصره، في زهو باعتباره عصر ازدهار، ونجد من هم على طرف نقيض، ويرون أن هذه الفترة هي سر وبداية النكبة. وهاتان رؤيتان متوازيتان على امتداد التاريخ حتى اليوم. والأمر الجدير بالبحث والتفسير هو لماذا تنعقد الغلبة في النهاية دائما لأصحاب التوجه السلفي؟
والذي يعنينا هنا أن وقائع هذه المرحلة تؤكد لنا أن الترجمة كانت إحدى آليات هذه النهضة في تزاوج مع واقع ينبض بحياة فكر وفعل اجتماعيين جديدين، واقع تربطه علاقة رحم بالسابق على تنوعه، وعلاقة نسب بقضايا الحاضر الجديد آنذاك.
واستسلم العقل العربي بعدها لحالة انكفاء ووهن حضاري؛ أعني انطفأت جذوة الإبداع في ظل سيادة نظم حكم عاطلة من ثقافة الفعل الاجتماعي والعقل الإبداعي والانتماء والتطوير الحضاري، وسادت مقولة: «كل مستحدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.»
وامتد عصر الوهن الحضاري إلى أن تيسرت ظروف تفاعل جديدة مع ما اصطلح على تسميته الحضارة الحديثة؛ أي الغرب. وبعيدا عن اختلافات التفسير أقول: بدأت الترجمة في العصر الحديث من موقعين، ولكل أسبابه الخاصة للنشأة والتطور؛ في مصر، وفي متصرفية لبنان، أو جبل لبنان أثناء الحكم العثماني.
ارتبطت الترجمة في لبنان بموقف مناهض لسياسة التتريك، ومن ثم محاولة الحفاظ على اللغة العربية ضمانا لفصل المنطقة ثقافيا عن تركيا، وهو الموقف الذي دعمه الغرب. وقدمت لبنان أعلاما في الفكر العربي والترجمة، نذكر منهم: أمين المعلوف صاحب معجم الحيوان، والمعجم الفلكي، ومعجم النبات. وكذلك فارس نمر، ويعقوب صروف، اللذان أصدرا مجلة المقتطف، وتضمنت الكثير من الدراسات المترجمة في سياق سياسة التنوير.
ولكن حركة الترجمة كنشاط اجتماعي تنويري واستقلالي داعم للنهضة والتحديث، بدأت في مصر في عهد محمد علي. ويعتبر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إمام التنوير والعلمانية؛ إذ جعل الترجمة، وبدعم من السلطة، مؤسسة اجتماعية هدفها إنجاز مشروع قومي اجتماعي شامل لجميع أنشطة الحياة، وتحقيق نهضة في العلوم والصناعات.
بدأ تاريخ الترجمة في العصر الحديث للعالم العربي انطلاقا من هذين المركزين. وتعثر نشاط الترجمة أو انحسر بعدما أصابت جهود النهضة انتكاسة بسبب الدور الاستعماري الغربي، والنظم الحاكمة الاستبدادية المحلية التي حالت دائما دون أن تكون قضية الوطن أمانة بين يدي شعب واع ومشارك في إدارة شئون مجتمعه بحرية. وبدأت صحوة جديدة للترجمة مع مطلع القرن العشرين قرينة صحوة اجتماعية وسياسية للمطالبة بالاستقلال. وبرز أعلام للفكر العربي، كما نشأت مؤسسات للترجمة والتنوير في إطار رؤية قومية لتحصيل علوم الحداثة التي هي أساس نهضة وازدهار الغرب.
ومع بداية ما يمكن أن نسميه عصر استقلال الكيانات العربية ونشوء دول جديدة في منتصف القرن العشرين، ظهرت مراكز ومؤسسات للترجمة في غير المركزين السابقين؛ في الكويت وسوريا والعراق والسعودية، وأخيرا في دبي وأبوظبي وقطر.
وأبدت الجامعة العربية اهتماما بدور الترجمة، ودعت، بناء على مبادرة من عميد الأدب الراحل طه حسين، إلى إنشاء مؤسسة عربية للترجمة لإعداد المترجمين. ولكن لم يتحقق من هذا كله سوى إقامة المعهد العالي العربي للترجمة الذي أقيم منذ بضع سنوات فقط في الجزائر، ولا يزال في دور التجربة، وشرع في تخريج مترجمين يؤرقهم سؤال: ماذا عسانا أن نترجم؟ ولماذا نترجم؟ ولمن نترجم؟ أعني أن جهدهم التعليمي غير مقترن بمشروع قومي محلي أو عربي، وأمامهم العالم العربي عاطل من هدف نهضوي.
صفحة غير معروفة
معنى هذا أن هناك إدراكا عربيا رسميا لدور الترجمة وتدني وضعها، ولكن في حدود الإدراك النظري للموقف دون أن يصدقه سلوك عملي ووعي قومي. ولهذا نرى نشاط الترجمة بؤرا متناثرة على صعيد الأرض العربية، ولا يخرج عن كونه جهودا شكلية لمراكز أو منظمات أو مؤسسات هي في حقيقتها مجرد دور نشر.
ويمكن أن نلخص حقيقة الوضع العربي الراهن للترجمة فيما يلي: (1)
أكثر البلدان العربية حديثة العهد بنشاط إصدار الكتب تأليفا وترجمة، بل إن هناك بلدانا ليس لها اسم على خريطة صناعة الكتب. (2)
الترجمة من حيث الكم متدنية أشد التدني قياسا إلى البلدان الأخرى، وقياسا إلى مقتضيات حضارة العصر والنهوض بالإنسان وبالوطن. (3)
الترجمة على الرغم من تدنيها ومحدوديتها هي نشاط فردي، حتى وإن صدرت باسم مؤسسة ما هنا أو هناك؛ إذ هي جهد متباين التوجهات، مما يعكس غياب رؤية وخطة عربية عامة أو محلية تعي مقومات العصر وتحدياته، وتمثل استجابة لها. (4)
نسبة الكتاب المترجم أقل من ٪10 من إجمالي الإصدارات على المستوى العربي، وهي أربعة في الألف بالنسبة للإصدارات المترجمة عالميا سنويا، بينما نسبة عدد العرب إلى العالم واحد على أربعة وعشرين. وسبق أن أشرنا في كتابنا «الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي»، ما سبق أن نشرته منظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية في كتابها الصادر عام 1996م، من أن إجمالي عدد الكتب المترجمة إلى العربية منذ عهد خالد بن يزيد حتى عام إصدار الكتاب، لا يتجاوز عشرة آلاف عنوان، وهو ذات عدد إصدارات إسبانيا في عام واحد من الكتب المترجمة. (5)
الغالبية العظمى من الكتب المترجمة لا تربطنا بما يسمى العلوم الأساسية
Basic Sciences ، التي هي دعامة البناء الحضاري، وحصاد جهود البحث والتطوير والمنافسة. ولكن غالبية ما يوصف بالكتب العلمية هي علوم تطبيقية، مثل إصلاح الحاسوب مثلا. ولا يكشف الكتاب المترجم عن توجه مجتمعي ماكرو... أي توجه كلي وشامل لحركة مجتمعية ناهضة في اتجاه العصر. والقليل النادر الذي يهدف إلى صوغ ذهنية علمية إبداعية نقدية. (6)
ثمة حاجز فاصل كثيف بين بلدان ومثقفي العالم العربي وبين إصدارات العالم المتقدم؛ لأسباب ثقافية، فضلا عن أن استيراد الكتاب جهد فردي. هذا علاوة على أن المجتمعات العربية موزعة كل تحت سيادة لغة أجنبية هي لغة المستعمر السابق، مما يجعل كلا منها خاضعة لرؤية ثقافية منحازة. وتعاني مشكلة توحيد المصطلحات العلمية عربيا على الرغم من وجود «مكتب تنسيق التعريب» في الرباط التابع لجامعة الدول العربية. (7)
قدر كبير من الترجمات صادر عن دور نشر لحساب هيئات ومراكز دبلوماسية أجنبية؛ ولذلك فإنها تعكس رؤاها ومصلحتها. ومن هنا جاءت دعوتنا إلى «تعريب الترجمة»، بمعنى أن تصدر انطلاقا من رؤية عربية نهضوية خالصة. (8)
صفحة غير معروفة