بلغ سامي القاهرة، ونزل من القطار لا يعرف مقصدا ولا متجها، وإنما هو يسير على الرصيف، ويخرج به إلى الساحة، ويقف لحظات على سلم المحطة، وتتناوشه الأيدي والأكتاف وخطوات الآخرين الذي يعرف كل منهم طريقه ووجهته. ويزوغ منه البصر، ويعلو به وجيب قلبه، حتى ليطغى على السمع منه والبصر، وتتدافعه الأيدي في عنف يزداد في لحظة عن اللحظة السابقة، ويجد نفسه آخر الأمر قد نزل السلم، ويحاول الوقوف على الرصيف، ولكن حركة الركاب تجرفه، ويضطر آخر الأمر أن يفيق، وينتزع نفسه انتزاعا من مجرى الزحام، وينتحي من ساحة المحطة ناحية هادئة بعض الشيء.
ماذا أنا صانع؟ وإلى أين بي المسير في هذه القاهرة الضخمة، وكل علمي بها أن ساكنها ضائع فيها؟ فما خطبي أنا وأنا لم أرها إلا اليوم؟ وهل رأيت منها شيئا إلا دفاع أقدام ينتهبون الأرض بخطاهم كأن الإنسان منهم يجري وراء عمره، خاشيا أن يضيع منه في الزحام.
كل ما معي عشرون جنيها، ماذا أنا صانع بها؟ أتراني ضعت من الحياة؟ سبحان الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون
صدق الله العظيم.
إن معي إيماني بالله، ويقيني به يقيني، ومعي قوة الجسم، ومعي شجاعة القلب، ومعي ثقتي أن الله لا يضيع عباده المخلصين، وأي سلاح أقوى من هذه الأسلحة التي أتحصن بها؟!
وما لي لا أمشي في مناكبها، وأرى ماذا هي صانعة بي؟ وماذا أنا صانع فيها؟ هلم المسير.
ومشى وعبر الساحة، وخرج من الباب، وترك قدميه تختاران الطريق يتبعهما ولا يأمرهما، وقد أحس أن العقل لا عمل له الآن، وإنما النظرة وحدها هي التي تتحكم في كيانه .. وفي لحظة أحس أنه يتبع شيئا لا يدريه، وأن خطواته استقامت على طريق من الهدى لا يدري مأتاه. سارع في شارع إبراهيم، وكأن قوة عليا تحركه، والغريب في أمره أنه لم يحاول أن يتعرف معالم الطريق ولا الأسماء التي تحملها اللافتات على جانبي الشارع، إنما هو يمشي، وكأنما ولد بهذا الشارع، وكأنه يعرف كل خافية من خوافيه. وطال به الطريق وهو يحس طوله، ذاهل هو عن المكان والزمان، وإنما يمشي، ثم وقف.
ثم نظر.
لافتة كتب عليها شركة تعمير سيناء، صعد السلم، ودلف في شقة ذات بهو واسع عريض، يجلس في صدره على مكتب صغير رجل في أواسط العمر قصد إليه. - السلام عليكم. - وعليكم السلام يا ابني ورحمة الله وبركاته. - أليست هذه شركة تعمير سينا؟ - نعم هي. - لا شك أنكم تريدون عمالا. - هو ما قلت. - فهل أصلح؟ - ماذا تريد أن تعمل؟ - أي عمل. - نحن لا نحتاج إلى أعمال مكاتب. - وأنا لم أقل أنني أريد عملا في مكتب. - أمعقول هذا يا بني. - ماذا تقصد؟ - إن هيئتك تدل على أنك متعلم، وعلى جانب من سعة العيش. - وحدسك صادق في النظرتين. - وتقبل أن تعمل في أعمال البناء الشاقة. - وأرحب بها. - يا ابني لن أناقشك، فلكل إنسان ظروفه، هل معك بطاقة؟ - ها هي ذي. - متى تريد أن تسافر؟ - إن كان هناك عمال سيسافرون اليوم، فما أحب إلي أن أسافر اليوم! - إذن، فأنت ستسافر اليوم. - أكرمك الله! - اقعد هنا، فأنت ستسافر بعد ساعة. •••
صفحة غير معروفة