وكان ربط القدمين يؤدي إلى ضغط الشرايين والأوردة، فلا تجد القدمان غذاءهما، فتضمر كلتاهما وتسقطان، وتعيش هذه الفتاة الثرية النبيلة سائر حياتها بلا قدمين، تفخر بنبالتها في المجتمع وخبيتها في الحياة التي تحياها على قدمين هما عضوان.
وجميعنا إلى حد ما يربط قدميه بالتقاليد أو العادات، وإن كانت القدم هنا مجازا أو استعارة.
ذلك أننا نربط عقولنا كي لا نفكر التفكير الحر، أو تسن الحكومة قوانين حتى لا نفكر إلا في الحدود التي تعينها لنا، وهذه الحدود للعقل هي بمثابة الأربطة الصينية القديمة للقدم، وهناك تقاليد وعادات نفخر بأننا نتقيد بها، ونحصل بذلك على كرامة اجتماعية، ولكن عقولنا تضيق وتأسن حتى تعجز عن التفكير البكر المنتج، ونصل إلى حال يسألنا الأطفال فيها أسئلة صريحة عن هذا الكون ومنشئه وعن الحق والضلال وعن الفضيلة والرذيلة، فنجيب على أسئلتهم بالكذب أو النفاق أو الغش؛ لأن عقولنا قد ربطت منذ طفولتنا كالقدم الصينية القديمة.
وقليلون منا هم الذين فكوا هذه الأربطة عن عقولهم وانطلقوا يفكرون في حرية وابتكار، ولكن المقيدين المربوطين لا يطيقون هذه الحرية؛ لأنها نور يعشى عيونهم التي نمت في الظلام.
علينا أن ننمو النمو الطبيعي بلا أربطة صينية للعقل أو لغير العقل، وعلينا أن نكف الحكومات عن وضع الأربطة للعقول، وأن ننفض عنا التقاليد والعادات التي تربط عقولنا وتقيدها.
الفصل التاسع عشر
المتمدنون المتوحشون
من القصص التي تركت في ذهني أثرا حيا قويا لما فيها من الدلالة لحياة الكثيرين منا، قصة لمؤلف أوروبي نسيت اسمه، وموضوعها أولئك المتمدنون المتوحشون الذين يتخذون زخارف الحضارة، ولكنهم في أعماق قلوبهم وحوش تفترس ولا ترتفع إلى معنى الإنسانية.
والمؤلف يعقد فصلا، أو منظرا، يجتمع فيه طائفة من هؤلاء المتمدنين حول مائدة، وقد زها كل منهم في حلة غالية تدل على الثراء والوجاهة، كما أن السيدات تتلألأ عليهن الجواهر وتصرخ فساتينهن بالألوان، والجميع يتحدثون في لغة مهذبة، يجامل بعضهم بعضا بالابتسامات والإيماءات التي تنطق عن عناية سابقة في تدريبهم على مثل هذه الاجتماعات.
أما المائدة فكانت تكتظ بالآنية الفاخرة والأزهار النضرة والأنبذة الرحيمة، ويتوسط المائدة طبق كبير عليه اللحم الذي يمزقونه ويتناولونه فلذة بعد فلذة يأكلونها في تأنق يدل على تمدنهم.
صفحة غير معروفة