إهداء
1 - الفرق بين السعادة والسرور
2 - الحي لا يسأم الحياة
3 - اليقظة خير من النوم
4 - الاستعداد للتطور الحالي
5 - القلق الموقظ والطمأنينة المخدرة
6 - لنعش كي نربي أنفسنا
7 - يجب أن نعمل كي نعيش
8 - المسئولية فيتامين الشخصية
9 - نأكل لنعيش
10 - لا نخف الحياة
11 - الصحة والجمال
12 - ضرورة الفلسفة
13 - الطيبة هي ذكاء القلب
14 - قسوة الرحمة
15 - الشطط في الفضيلة
16 - المروءة تثقفنا وتصقلنا
17 - اجعل المجد هدفك
18 - فلنحرر رءوسنا كما حرر الصينيون أقدامهم
19 - المتمدنون المتوحشون
20 - الشرق والغرب ... أيهما المادي؟
21 - القارئ التافه والمجلة التافهة
22 - تأنق في مطالعتك
23 - كيف نستغل فراغنا؟
24 - الطبيعة تجود بجمالها
25 - الطبيعة مبعث النشاط
26 - ثراء بلا ثروة
27 - التعليم بالقدوة
28 - التثقيف الأبتر
29 - التوسع في الثقافة
30 - من التعميم إلى التخصيص
31 - الاهتمامات تمنع الغوايات
32 - الموت إكليل الحياة
33 - الضمير الاجتماعي
34 - حرية العقيدة
35 - الدين للتوفيق لا للتفريق
36 - الحب دين العالم
37 - اختيار الزوجة
38 - الزواج السعيد
39 - سعادة الزواج بالتعاون الحبي
40 - تزوج أما لأولادك
41 - متى يحسن أن يقع الطلاق
42 - نفس فنية
43 - النفاسة في النفس
44 - سيطرة النفس على الجسم
45 - الحياء والخجل
46 - كيف نقوي إرادتنا؟
47 - تربية الخيال
48 - غاندي زعيم الإنسانية
49 - فورد يذم الادخار
50 - كلمات جديدة
51 - الناقصون في الذكاء
52 - ادرسوا سيرة رجل عظيم
53 - المباراة في الاقتناء علة الشقاء
54 - البساطة في الحياة فن
55 - وقف الثروة على الأبناء
56 - وقت من ذهب ووقت من تراب
57 - الشاب الذي يثير الإعجاب
58 - لا تضرب الأعرج
59 - لا تكن فاترا
60 - العاهة لا تقعد الشجاع
61 - يجب أن نحترم كل عمل مفيد
62 - شروط الرئيس ولسن للرجل المهذب
63 - الأدب المتصل
64 - البذاء في الشوارع
65 - الدكتور القديس
66 - الأعياد والهدايا
67 - عيد شم النسيم
68 - أعظم الألم توقع الألم
69 - لك الساعة التي أنت فيها
70 - لا حياة بلا شجاعة
71 - كيف نتعلم؟
72 - ماذا نتعلم؟
73 - المرأة في الشرق
74 - الملامح مرآة النفس
75 - وجوهنا الحزينة
76 - في الرابعة والتسعين
77 - يجب أن ننسى الماضي
78 - رجل عظيم
79 - ليس عندنا موسيقى
80 - لنكن أدباء وشعراء
81 - آلة الراديو واسم الراديو
82 - الرحلات الفضائية
83 - العالم في أزمة القدر
84 - تربية أديب
85 - الشيخوخة المعذبة في مصر
86 - عرف المجتمع ومصلحة البشر
87 - لنكن اجتماعيين
88 - حياة الفطرة والفن
89 - كراهة المخالفين لنا
90 - قادة العالم
91 - ضريبة الضمير
92 - نحو المستقبل
93 - الصناعة ... الصناعة
94 - هذه الغوغاء من الصحف
95 - في الأسلوب
96 - الامتحانات الصينية
97 - في القطب الجنوبي
إهداء
1 - الفرق بين السعادة والسرور
2 - الحي لا يسأم الحياة
3 - اليقظة خير من النوم
4 - الاستعداد للتطور الحالي
5 - القلق الموقظ والطمأنينة المخدرة
6 - لنعش كي نربي أنفسنا
7 - يجب أن نعمل كي نعيش
8 - المسئولية فيتامين الشخصية
9 - نأكل لنعيش
10 - لا نخف الحياة
11 - الصحة والجمال
12 - ضرورة الفلسفة
13 - الطيبة هي ذكاء القلب
14 - قسوة الرحمة
15 - الشطط في الفضيلة
16 - المروءة تثقفنا وتصقلنا
17 - اجعل المجد هدفك
18 - فلنحرر رءوسنا كما حرر الصينيون أقدامهم
19 - المتمدنون المتوحشون
20 - الشرق والغرب ... أيهما المادي؟
21 - القارئ التافه والمجلة التافهة
22 - تأنق في مطالعتك
23 - كيف نستغل فراغنا؟
24 - الطبيعة تجود بجمالها
25 - الطبيعة مبعث النشاط
26 - ثراء بلا ثروة
27 - التعليم بالقدوة
28 - التثقيف الأبتر
29 - التوسع في الثقافة
30 - من التعميم إلى التخصيص
31 - الاهتمامات تمنع الغوايات
32 - الموت إكليل الحياة
33 - الضمير الاجتماعي
34 - حرية العقيدة
35 - الدين للتوفيق لا للتفريق
36 - الحب دين العالم
37 - اختيار الزوجة
38 - الزواج السعيد
39 - سعادة الزواج بالتعاون الحبي
40 - تزوج أما لأولادك
41 - متى يحسن أن يقع الطلاق
42 - نفس فنية
43 - النفاسة في النفس
44 - سيطرة النفس على الجسم
45 - الحياء والخجل
46 - كيف نقوي إرادتنا؟
47 - تربية الخيال
48 - غاندي زعيم الإنسانية
49 - فورد يذم الادخار
50 - كلمات جديدة
51 - الناقصون في الذكاء
52 - ادرسوا سيرة رجل عظيم
53 - المباراة في الاقتناء علة الشقاء
54 - البساطة في الحياة فن
55 - وقف الثروة على الأبناء
56 - وقت من ذهب ووقت من تراب
57 - الشاب الذي يثير الإعجاب
58 - لا تضرب الأعرج
59 - لا تكن فاترا
60 - العاهة لا تقعد الشجاع
61 - يجب أن نحترم كل عمل مفيد
62 - شروط الرئيس ولسن للرجل المهذب
63 - الأدب المتصل
64 - البذاء في الشوارع
65 - الدكتور القديس
66 - الأعياد والهدايا
67 - عيد شم النسيم
68 - أعظم الألم توقع الألم
69 - لك الساعة التي أنت فيها
70 - لا حياة بلا شجاعة
71 - كيف نتعلم؟
72 - ماذا نتعلم؟
73 - المرأة في الشرق
74 - الملامح مرآة النفس
75 - وجوهنا الحزينة
76 - في الرابعة والتسعين
77 - يجب أن ننسى الماضي
78 - رجل عظيم
79 - ليس عندنا موسيقى
80 - لنكن أدباء وشعراء
81 - آلة الراديو واسم الراديو
82 - الرحلات الفضائية
83 - العالم في أزمة القدر
84 - تربية أديب
85 - الشيخوخة المعذبة في مصر
86 - عرف المجتمع ومصلحة البشر
87 - لنكن اجتماعيين
88 - حياة الفطرة والفن
89 - كراهة المخالفين لنا
90 - قادة العالم
91 - ضريبة الضمير
92 - نحو المستقبل
93 - الصناعة ... الصناعة
94 - هذه الغوغاء من الصحف
95 - في الأسلوب
96 - الامتحانات الصينية
97 - في القطب الجنوبي
طريق المجد للشباب
طريق المجد للشباب
تأليف
سلامة موسى
إهداء
إلى الصديق الفقيد صادق سلامة أهدي هذا الكتاب لأنه هو الذي أوحى إلي تأليفة وفتح صدر جريدته «الإنذار» لكثير من موضوعاته.
سلامة موسى
الفصل الأول
الفرق بين السعادة والسرور
ليس هناك شاب إلا وهو يزعم أنه ينشد السعادة، ولكن ليست هناك كلمة يضطرب معناها، ويختلف مدلولها أكثر من هذه الكلمة، وهناك عشرات، بل مئات، من الناس ظنوا أنهم ينشدون السعادة، ولكنهم أخطئوا الهدف فجهدوا وتعبوا دون أن يصلوا إلى غايتهم؛ ذلك لأنهم كانوا يجهدون ويتعبون لتوفير المسرات والملذات ظنا بأن هذه الأشياء هي السعادة، ولكنهم بعد الحصول عليها وجدوا أنهم لا يزالون كما كانوا في البداية لم يسعدوا، بل ازدادوا جوعا وشوقا إلى الاستكثار وعطشا إلى الطمع.
ولذلك يجب أن نميز بين اللذة والسعادة، فإن الأولى مادية كالطعام أو الشراب، أو اقتناء شيء نفخر به أو نحو ذلك، فنحن نلتذ الطعام والشراب، ونسر بالأثاث الجميل والبذلة الجديدة ونحو ذلك، ولكن هذه الملذات أو المسرات المادية تنتهي إلى نهاية، فنعود إلى الجوع وطلب الزيادة.
ولكن السعادة فكرية؛ أي: أننا نسعد بالفكرة وليس بالمادة، ولذا تحفزنا الفكرة إلى جهاد نبقى معه وبه، وسعادتنا هنا مقيمة لا تزول، فقد نخدم مبدأ إنسانيا، أو ندعو إلى مذهب اجتماعي أو سياسي، أو نرى رؤية بشرية سامية نحاول أن نحققها، أو ندرس نظرية علمية نبغي من ورائها كشفا أو فهما، ففي كل هذه الحالات نحس السعادة التي لا نسأمها؛ إذ لن نشبع منها كما نشبع من الملذات المادية ... الملذات والمسرات مادية، ولكن السعادة فكرية.
هذا هو الأساس السليم للتفكير في السعادة، والسعادة لهذا السبب مجانية، أو تكاد تكون كذلك، وهي أيضا لا يحملنا الكفاح من أجلها إلى الحسد أو الغيرة، كما أنها تستنبط فينا الخير للبشر، فنحن حين نسعد بكفاح من أجل مذهب، أو لأننا نرى رؤية لا يراها غيرنا، نحاول أن يسعد الناس مثلنا، وأن يكافحوا كفاحنا، أما حين ننشد الملذات والمسرات المادية فإننا لا نحب أن يشاركنا فيها أحدا أو أن يبلغ ما بلغنا، ولذلك كثيرا ما تبعث في نفوسنا أخس الغرائز، كما أننا في النهاية لا نجد أننا قد شبعنا، وهذا هو السبب في شقاء الكثير من الأثرياء الذين قد ينتهون إلى الانتحار.
ومن هنا أيضا تلك السعادة التي يحسها الفنان والفيلسوف، ورجل العلم الذي يسعى لكشف حقيقة مجهولة، فإن كل هؤلاء سعداء؛ لأنهم ينشدون هدفا فكريا وليس لذة مادية.
فإذا شئت السعادة أيها الشاب فاخدم فكرة سامية يرتفع بها الناس أو ينتفعون، واجعل هذه الفكرة تستغرق كل اهتمامك، وعندئذ تكفل لنفسك السعادة والهناء.
الفصل الثاني
الحي لا يسأم الحياة
نسمع كثيرين يقولون، في تثاؤب واسترخاء، إنهم سئموا الحياة، ولكن الحقيقة أنهم لم يسأموا الحياة، وإنما الموت هو الذي سئموا.
ذلك أنهم قد مضت عليهم سنوات وهم في موت ولكنهم لا يدرون، وقد تسلل الموت إلى نفوسهم رويدا رويدا في غير عناء أو بطش، فلم يحسوا، فاستسلموا وماتوا، وهم لا يختلفون عن موتى القبور إلا في أنهم لم يدفنوا بعد.
فقد قضوا سنوات التثاؤب والاسترخاء وهم في فراغ؛ أي: خواء النفس والعقل، فلم يؤدوا عملا، ولم يعرقوا ويلهثوا في كفاح، ولم تكن لهم أهداف يتطلعون إليها، أو آمال ينشدون تحقيقها.
وكل هذه من علامات الحياة، ولكنهم قد خلوا منها جميعا، وعاشوا في خواء فسئموا حياتهم؛ أي: «سئموا الموت».
إننا نحيا بالكفاح والعمل والمسئوليات، ولا عبرة بأن ننتصر أو ننهزم؛ لأن الحياة الناجعة ليست ببلوغ الهدف بقدر ما تكون بمحاولة البلوغ، وأولئك الذين يسألون من وقت لآخر عن ماهية السعادة، أو طريق الوصول إليها، إنما قد فقدوا لذة الحياة؛ لأنهم يعيشون بلا كفاح أو عمل.
والرجل المكافح، أو الرجل العامل الذي ينشد هدفا، لا يقف كي يسأل هذا السؤال؛ لأنه يحس أنه في سعادة بكفاحه أو عمله، وأنه يعيش حياة هادفة، يقصد منها إلى غاية، ولذلك تستحيل حياته إلى نشاط سام، كأنه يؤدي رسالة .
أيها القارئ: لا تجعل حياتك خواء هباء، ولا تتسكع في هذه الدنيا، فتسأم الحياة أو تموت وأنت حي.
عش عن عمد، وأهدف إلى هدف، وأد رسالة، وكافح من أجل الشرف والحق والعدل، وإذا استطعت أن تحترف المجد فاحترفه، فقد تكون أهلا له.
الفصل الثالث
اليقظة خير من النوم
يقال: إن بعض الحشرات، كالنمل، لا تعرف النوم؛ إذ هي تعيش حياتها كلها في يقظة، وليس بعيدا أن يستغني الإنسان في المستقبل البعيد عن النوم، ويحيى حياته كلها.
وفي جسم الإنسان أعضاء لا تعرف النوم منذ تولد إلى أن تموت، كالقلب، وسائر الأعضاء الداخلية، ولذلك لا نستبعد أن يتطور الإنسان في المستقبل نحو يقظة المخ أيضا طوال الحياة، فنعيش ليلنا كما نعيش نهارنا، وتتضاعف بذلك أعمارنا.
والنوم هو بلا شك موت في جميع المعاني، إلا معنى التعفن، ولذلك هو خسار عند جميع الذين يكرهون أن يفقدوا وجدانهم ويحبون أن يبقوا على يقظة وفهم العالم.
ولكن الإنسان، لفرط ما قاسى من كوارث وآلام جعلت الحياة كريهة والوجدان مرهقا، قد اخترع الخمور وغيرها من المخدرات؛ كي يلغي يقظته ويعطل وجدانه، ولم يخترع المنبهات الموقظة التي تجعلنا نستغني عن النوم أو نرتقي من الذهول والنعاس إلى اليقظة البهجة.
وقليل منا من يستطيعون أن يقولوا: إنهم عاشوا أربعا وعشرين ساعة في يوم من أيام حياتهم، أو سهروا الليل كله، ورأوا القمر وهو بدر منذ بزوغه إلى الصباح، حين يسحر العالم بأشعته الشاحبة، وخاصة في الحقول حين نحس، وحين نتأمل السماء والأرض، إننا ذرة متصلة بهذا الكون، نجومه وكواكبه ومجراته.
وقليل منا من رأوا الفجر قبل أن ينبثق، حين يعم العالم ظلام أبيض، وحين يصل بيننا وبين السحاب هواء رخيم يكاد يتميع من الرطوبة، ثم لا نزال في هذا السهر إلى أن يلتهب الشرق بأنوار الشمس، وفي هذه اللحظات تنزع النفس إلى الخشوع والصلاة، وكأن القلب يقول: آمين!
أجل، إننا ما دمنا نعيش يجب أن تكون حياتنا يقظة متنبهة بعيدة عن الذهول، ويجب أن نتصل بالطبيعة اتصال بالحب، وأن تكون بيننا ومواعيد سرية في الساعة الثالثة أو الرابعة من الصباح، فنغرد معها، ونتحدث إليها في همس حديث النفس المبتهجة بالحياة ...
الفصل الرابع
الاستعداد للتطور الحالي
قد يكون عصرنا أسوأ العصور من حيث الأخطار التي تتكاثف يوما بعد يوم وتنتظر الانفجار، فقد رأيت في حياتي حربين تحطم فيهما نحو ثلاثين مليون عائلة، وأوشك أن أرى حربا ثالثة قد تؤدي بمئة مليون عائلة أخرى، وهذه الحرب الثالثة سوف تجعل كلا منا يعيش في شقاء مركز يقلق في نهاره، ويأرق في ليله، ويخشى البتر والموت لجميع من يحب، فإن القنبلة الذرية سوف تكون كابوسا لجميع من يعيشون في هذه الحرب القادمة، سواء في ذلك الجندي والمدني، والآباء، والرجال والنساء.
وليس شك في أن كل هذا يحزن، ولكن هناك ما يجب أن يبعثنا على الآمال الواسعة، حتى مع وقوع هذه الحرب الثالثة، ذلك أن العالم سوف ينتقل من المباراة والتحاسد والجشع، إلى حضارة اشتراكية جديدة تقوم على الإخاء والتعاون والقناعة.
وهذا الانتقال أو التطور الذي نمر فيه هو ظاهرة اجتماعية يجب على كل شاب أن يدرسها، وذلك بأن يكون على وجدان يقظ، وتنبه دائم للحركات السياسية والاقتصادية في العالم، بل إن كل شاب يعد مسئولا في عصرنا عن هذا التطور الذي يجري هادئا صامتا، أو صاخبا متفجرا، ويجب أن يشترك فيه، ويعمل لاستعجاله، مجاهدا بما يمليه فهمه وتعقله للحوادث، حتى يقف إلى جانب الخير ويقاوم قوات الشر.
ولذلك يجب على كل شاب أن يقرأ الجرائد التي تعنى بدراسة الشئون العالمية، وأن يوالي هذه الدراسة التي ترفعه إلى آفاق من الفهم والمعرفة والحكمة لا يصل إليها أولئك الذين يقتصرون على قراءة المجلات التي تخاطب الغرائز وتجمش الشهوات، وتكافح الذكاء، وتطارد العقل، أو أولئك الآخرون الذين يعيشون على الخبز وحده.
ويقول الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».
ويقول المثل الأوروبي: «كل فرد في أمة ديمقراطية يعد ملكا؛ لأن له رأيا في الحكم».
والأمة أو الرعية هذه الأيام هي النوع البشري كله على هذه الأرض، وأنت أيها القارئ مسئول عنه، وأنت مضطر لهذا السبب إلى دراسة السياسة والاقتصاد وهما أساس التطور الاجتماعي الذي نرجوه، أو الانفجار الذري الذي نخشاه.
الفصل الخامس
القلق الموقظ والطمأنينة المخدرة
القلق متعب والطمأنينة مريحة، ولكن قد يكون القلق في ظروف كثيرة أشرف من الطمأنينة؛ إذ هو قد يبعث على اليقظة والتفكير والاهتمام في حين تبعث الطمأنينة على الركود والنوم.
قبل أن يخرج «قاسم أمين» كتابيه عن تحرير المرأة المصرية، كنا مطمئنين على المرأة، كما كانت هي راضية بما فرضته عليها التقاليد من الحجاب، ولم يكن أحد يهتم بتعليمها أو يفكر في ضرورة مساواتها بالرجال، ولكن قاسم أمين دعا إلى سفورها وإلى تعليمها، فأثار القلق الشريف بيننا، وشرعنا نختلف في الرأي ونناقش، والآن بعد نحو خمسين سنة من هذه الحركة نجد 6 آلاف طالبة في الجامعات المصرية، فضلا عن آلاف الطالبات في المدارس الأخرى، ونجد السفور عاما والتمدن ينتشر بيننا.
ومثل هذه الحال تعم الفلاحين في أيامنا، فإن المصري البار الذي يدعو إلى رفع مستوى المعيشة في الريف، وإلى زيادة أجور الفلاحين وحقوقهم، يجابه بأن الفلاحين سعداء لا يطلبون شيئا، وأنهم مرتاحون مطمئون إلى حالتهم.
ولكن المرأة المصرية أيضا كانت مطمئنة قبل دعوة قاسم أمين، واطمئنانها لم يمنع هذا المصري العظيم من أن يقلقنا ويقلقها بدعوته الجديدة، دعوة النور والحرية، وكذلك يجب أن ندعو دعوة النور والحرية أيضا، حتى لو لم يطلبها هو؛ لأنه لا يعرف قيمتها، ويجب أن نقلق أنفسنا وأن نقلقه حتى ينشد الرقي لنفسه.
إن القلق الموقظ أشرف من الطمأنينة المخدرة.
الفصل السادس
لنعش كي نربي أنفسنا
ما هو أحسن وأعظم ما نبلغه من الحياة.
قد يقول أحدنا: إنه الصحة، أو المال، أو الجاه، أو الثقافة. ولكل واحد من هذه الأشياء قيمة، ولكن أكبرها قيمة عندي أننا نجد في الحياة تربية؛ لأننا بما يمر بنا من الحوادث والاختبارات والمتع والمحن، نزداد فهما للدنيا وتعمقا لمشكلاتها.
فنحن نتعلم في المدرسة أو نتخرج في الجامعة، ولكننا في النهاية لن نجد شيئا يعلمنا أكثر من اختباراتنا، ولن نبلغ الحكمة إلا إذا خرجتنا الحياة نفسها بما نمارسه فيها وننتفع به، ولو كان هذا من الكوارث التي حزت في أجسامنا أو في نفوسنا.
ولذلك يجب أن نعيش حياتنا بروح المتعلم الذي يبغي زيادة في الفهم، وأن نجعل هذا الفهم أعظم من الصحة، والمال، والجاه، والثقافة؛ لأن كل هذه الأشياء تحمل في طياتها ألوانا من الغش، فالصحة قد لا تكون أكثر من القوة العضلية الحيوانية، وقد يكون المال وفرة مرهقة لا تحررنا بل تقيدنا، وقد يكون الجاه عبسا وغطرسة، كما قد تكون الثقافة دجلا لا قيمة له.
ولكن الفهم الذي يستخلص الحقائق من المعارف يزيدنا إنسانية، ويرفعنا فوق كثير من الأوهام الاجتماعية، ويقرر لنا قيما وأوزانا من السعادة أو الشرف لا يمكن أن نصل إليها إلا بذكاء العقل المدرب الذي جعل من الحياة مدرسة كثيرة الاختبارات والتجارب.
والرجل الحكيم هو الذي يجعل حياته تربية له، وعلى هذا الأساس أخرجت كتابي «تربية سلامة موسى»، فإن هذا الكتاب هو تاريخ حياتي التي أنظر إليها من زاوية معينة هي؛ كيف حققت تربيتي منها، وقد يجد القارئ أخطاء كثيرة في الأسلوب أو التفاصيل، ولكني لا أظن أنه يستطيع أن يخالفني في الهدف، وهو أن الحياة تربية تزيدنا وجدانا وفهما، أو يجب أن تكون كذلك.
وما أحرى الشباب بأن يهدفوا إلى هذا الهدف، وهو أنهم يعيشون كي يربوا أنفسهم، وكي يزيدوا فهما للدنيا، وأن خريج الحياة خير من خريج الجامعات.
الفصل السابع
يجب أن نعمل كي نعيش
كتب إلي أحد الشبان يقول: إن مرتبه الشهري أقل من خمسة عشر جنيها، وأنه يعول زوجته، وأولاده، وأبويه، وبعض أقاربه المحتاجين بهذا المبلغ، ولذلك هم في قحط، وهو يطلب إلي أن أحل هذه المشكلة.
وواضح أن هذا المبلغ لا يكفي كل هؤلاء، وفي أوروبا المتمدنة يمنح المسنون الذين بلغوا الستين معاشات من الحكومة يعولون بها أنفسهم، سواء كانوا من رجال أم نساء، وكذلك الحكومات المتمدنة تعالج الغلاء الذي نعانيه في مصر ولا نجد له أي علاج.
ولكن، حتى مع هذه الاعتبارات، يبقى هناك اعتبار ضخم له أكبر الشأن فيما يعاينه هذا الشاب؛ إذ لو كان هو أوروبيا لعملت زوجته وكسبت، بل لعمل كل فرد يتجاوز سن التعليم من أولئك الذين يعولهم هو الآن في مصر، وكانوا عندئذ يكسبون، ويصونون صحتهم بالطعام الوفير، وكرامتهم باحترام المجتمع لهم.
ولذلك يجب أن نعترف بأن شبابنا منكوبون بثقافة شرقية تمنع، أو تؤخر، استخدام المرأة وكسبها، في الوقت الذي يعيشون فيه في ظروف غريبة تطالب كل شاب وكل فتاة بأن يعملوا وينتجوا ويكسبوا.
وهذه الثقافة الشرقية هي التي تمنع المرأة أو الفتاة، في كثير من بلدان الشرق، من العمل والكسب، وتطالب الزوج أو الأب أو الابن بأن يعمل وحده كي يعول سبعة أو ثمانية أعضاء في عائلته، وهو بالطبع يعجز، ولذلك هم يعيشون في قحط دائم، بل أحيانا يعيشون في خلاف يؤدي إلى المحاكم حين تطلب السيدة أو الفتاة نفقة من عمها أو ابن عمها بدلا من أن تعمل وتكسب.
ولذلك علينا أن نترك ثقافتنا الشرقية القديمة، وأن نأخذ بالأوزان والقيم الأوروبية حتى نخفف عبء العيش عن الرجل، وعلى كل امرأة وفتاة في الشرق أن تعمل وتكسب كما تفعل الأوروبيات.
الفصل الثامن
المسئولية فيتامين الشخصية
تغيرت مناورات شباب اليوم لتحقيق الرجولة، ذلك أنهم قد استغنوا عن العصا، وكذلك هم حين لا يجدون ما يسعفهم من الطربوش الأعوج، فإنهم يؤكدون شخصيتهم بالتدخين، فالشاب يدخن؛ لأنه يجد في السيجارة ما يرفعه إلى مقام الرجال، بل أحيانا تفعل الفتاة أو السيدة ذلك اعتقادا بأنها قد حظيت بكرامة واحترام تحفقان عنها «مركب النقص».
ومركب النقص هذا عام في الطفل والصبي والشاب، ذلك أن الدنيا بمصاعبها العدة تخيفهم، وهم يجدون من الكبار جرأة ومعرفة واختبارات لم يصلوا إليها، فيتعمق نفوسهم إحساس الشك والخوف والعجز من حيث لا يدرون السبب لكل هذا، فينشأ في نفوسهم شوق إلى التفوق والعظمة، وجلب الاحترام بألوان من التصرف، وأنواع من السلوك، كثيرا ما تكون زائفة غير صحيحة؛ أي: لا تؤدي إلى الهدف الذي ينشدونه.
واتخاذ العصا، أو السيجارة، هو سلوك زائف لتكبير الشخصية وتحقيق التفوق وجلب الاحترام، ولكنه مع زيفه ليس كثير الأذى إلا من حيث إنه يحول بين الشاب وبين التصرف المثمر الذي يكبر شخصيته ويرفعها إلى النضج والإيناع، ولكن يحدث أحيانا أن الشاب، لإساءات سابقة مست كرامته، يعمد إلى مغامرات تقارب الجريمة؛ كي يثبت أنه عظيم، وقد تنتهي هذه المغامرات بتدميره، كما نرى مثلا في شاب يبذر أمواله الموروثة كي يثبت عظمته، أو يدخل في مشروعات خيالية تجلب عليه الإفلاس لهذا السبب نفسه.
فيجب على الشاب أن يحلل بواعثه، وأن يفهم الأسباب التي تحمله على تصرف أو سلوك معين، هل هي بواعث صبيانية لتكبير شخصيته، أم هناك أهداف حقيقية يستطيع بالجهد والمثابرة أن يصل إليها؟ وبكلمة أخرى: هل هو معاند لقوات كبرى عناد الأطفال والصبيان؛ أم هو مفكر ناضج؟ هل هو يريد تكبير شخصيته بالسيجارة والمظهر الزائف، أم بالعمل المثابر؟
إن الشخصية شيء عظيم، يجب أن ننشدها جميعا، ولكن في تعقل ووجدان، وأول مراتبها أن نخدم إخواننا، ونتحمل المسئوليات؛ لأن المسئولية هي فيتامين الشخصية، وعلى قدر المسئولية يكون قدر الشخصية.
الفصل التاسع
نأكل لنعيش
قبل شهور كنت أعيب على بعضنا قلة تقديرهم واحترامهم لعيد «شم النسيم»؛ إذ بدلا من أن يجعلوا منه مهرجانا للربيع وهو في غلوائه، وعيدا للزهور وهي في أرجها، ينتشون بجمالها، ويتنسمون نسمات الصبح المشرق في الحقول النضرة، يعمدون إلى أكل الفسيخ والبصل ويجعلون من أنفسهم سبة وقحة لهذا العيد الذي يعد في صميمه عيدا لجمال الطبيعة.
ولكني عند التأمل أجد أننا في طعامنا العادي نكاد نأكل الفسيخ ثلاث مرات كل يوم؛ إذ إننا نكثر من الملح والتوابل، فنبقى طوال النهار نشرب الماء؛ كي نخفف من الحرقة التي تحدثها هذه التوابل والمأكولات المملحة.
وعلى الرغم من أن الحضارة المصرية قد دخلت بيوتنا، فإن مائدتنا قد ظلت، من حيث الطعام، شرقية، وإن كانت من حيث النظام قد أصبحت غربية، ولذلك لا نكاد نجد طعاما يخلو من الثوم أو البصل أو الفلفل أو غيرها مما يثير المعدة إلى طلب الزيادة، فنتعود الشره، ونأكل حتى نتخم، ثم نسمن ونترهل ونستكرش، وتأخذ شهوات البطن الدنيا عندنا مكان الشهوات الذهنية العليا عند المتمدنين.
وأعظم ما يدل على الرجل المتمدن، أن يكون بطنه متمدنا، والحياة الفنية العالية يجب أن تحملنا على مقاطعة تلك التوابل التي تحثنا على الإكثار من الأكل، وليس يليق بالرجل المتمدن أن تختلط أنفاسه بروائح الثوم أو البصل، كما لا يليق به أن يأكل الأطعمة المتوبلة التي لا يشبع منها قبل أن يتخم.
يجب أن نأكل لنعيش فقط، لا لنسمن ونترهل، ويجب أن نهتم بالزهور النضرة، والأطباق الفاخرة، أكثر مما نهتم بالأطعمة الدسمة المتوبلة، ويجب أن نتذوق الطعام بعقولنا قبل أن نتذوقه بألسنتنا، فنطلب النافع الذي نصح به قبل أن نطلب اللذيذ الذي قد نلذ به، ولكن نمرض منه.
الفصل العاشر
لا نخف الحياة
من أعظم ما يدل على أن بعض شبابنا يخافون من الحياة، ويؤثرون الوقوف على شاطئ السلامة والأمن، مهما يكن في وقوفهم هذا من ضعة وجبن، أن كثيرا منهم يسألون ويبحثون عما تملكه الفتاة التي يخطبونها للزواج، بل هم أحيانا يضعون هذه المسألة في مقدمة ما يطلبون، كأنها الغاية الأولى من الزواج.
وهذا يدل على خوف من الدنيا، وعلى أنهم يبغون قضاء حياتهم على هذه الأرض بلا اقتحامات، وبلا صعوبات، وليست هذه هي الحياة المثلى للرجل الأمثل؛ لأن الحياة يجب أن تحتوي النور والظلام، والمتعة والمحنة، كي نعيشها حافلة بالاختبارات والتجارب، وكي نسبر أعماقها كما نرتفع إلى قممها.
ومع أن مجتمعنا ليس وطيدا في بنائه الاقتصادي، بل إنه كثير التزعزع، فإن الشباب الذي ينشد من الزواج أمنا اقتصاديا قبل كل شيء إنما يضحي بسعادته ومسراته العليا من أجل الوقاية من الخوف، وهو في هذه التضحية خاسر بلا شك.
إنما متعة الزواج في رفقة الحياة التي قد تبلغ نصف قرن أو تزيد وهو تكون، ثم نمو، ونضج، بل هو خلق جديد يستتبع تبعات قاسية سامية في تربية الأبناء وتنشئتهم.
وهذا المال الذي يتطلبه الشاب من خطيبته ليس سوى الهباء الذي لا قيمة له بالمقارنة إلى ما يرثه هؤلاء الأبناء من الذكاء والجمال والصحة، هذه الصفات الثلاث التي يجب أن تطلب أولا في الشاب أو الفتاة اللذين يبغيان الزواج، بل ليست هناك صفة أخرى تطلب إلى جنب هذه الصفات؛ لأنها أزلية تورث في الأعقاب.
أيها الشاب: إذا فكرت في الزواج فانشد الفتاة الذكية الجميلة التي عاشت مع أبوين كريمين فاضلين، فحصلت بذلك على ميزتي الوراثة والوسط، وتهيأت بذلك للزواج والأمومة، وحسبك هذا.
الفصل الحادي عشر
الصحة والجمال
من مساوئ مجتمعنا في الوقت الحاضر أن نعد العمل ضرورة للكسب فقط، ونتمنى لو أننا كنا قادرين على الاستغناء عنه وعلى أن نعيش في بطالة، وهناك من الأثرياء الوارثين من يعيشون في البطالة فخورين بثرائهم، حتى لينظر إليهم غيرهم من العاملين المكدورين بعين الحسد، يودون لو أنهم أيضا كانوا قد ورثوا وقد هنئوا مثلهم بالبطالة.
ولذلك تعد البطالة في بعض أوساطنا ميزة، إذا لم تكن الفرص تتيح لنا تحقيقها فلا أقل من أن يدفعنا الزهو إلى التظاهر بأننا قادرون على أن نعيش فيها، حتى لنرى المالك الوارث الذي لا يملك سوى خمسة أو ستة أفدنة يتباهى ببطالته، ويقضي وقته فراغا كاملا في حركة الجسم والذهن، ونرى كذلك سيدة البيت وهي تقعد وتتعفن في مقاعدها بلا عمل؛ اعتقادا بأن للبطالة حقها الطبيعي، وأن العمل والخدمة لم يخلقا لها، وأنه ما دام في البيت خادم فإنها هي يجب أن تقضي حياتها مرتاحة، في حين يجب على الخادم أن يعمل ويكد، وكثيرا ما أتأمل هذه الحال، وأقارن بين الخادمة وسيدتها، فأجد أن الأولى تمتاز بالقوام النحيف الجميل في حين أن الثانية تترهل وتستكرش وتلهث لأي جهد، وذلك لأن العمل ينشط الخادمة ويشيع الصحة في جميع أعضائها، فهي خفيفة متحركة نشيطة، في حين أن البطالة التي تفخر بها سيدتها تملأ أعضاءها شحما وتجعل بطنها ينبعج، حتى لتزول معالم الجمال فيها؛ إذ هي كتلة متراصة من اللحم والشحم، ونحن إذا أغفلنا القيم الاجتماعية، واعتمدنا على القيم البشرية وحدها، لقلنا: إن هذه الخادمة أفضل من سيدتها، ولو أننا كنا قد نشأنا على احترام العمل، وعلى أن سبب وجودنا في هذه الدنيا هو أن نخدم المجتمع الذي نعيش فيه، لما احتجنا إلى الألعاب الرياضية التي نعوض بها ما كان يجب أن نؤديه بالخدمة والعمل اليدوي، ولو كانت كل سيدة تمسح منزلها كل يوم، وتؤدي واجبات الخدمة لزوجها وأبنائها لما أوذيت أعيننا بمظاهر الشحم المتكتل واللحم المترهل في نسائنا اللائي فقدن معالم الجمال؛ لإيثارهن البطالة على العمل، واعتقادهن أنه ليس من واجبهن أن يجهدن ويخدمن.
ليكن لنا مذهب ندعو إليه ونمارسه: وهو أن العمل والخدمة هما الشرف، أما البطالة فهي الضعة والخسة.
الفصل الثاني عشر
ضرورة الفلسفة
يتغير معنى الحياة الصالحة أو الحياة السامية بتغير الظروف والأزمنة، ولكن الإنسان في جميع الأقطار، وفي مختلف العصور، قد وصل إلى معنى للدين تبلورت فيه فلسفته، وتجوهر فيه إلهامه، وهو الحب للبشر والارتفاع من الأهداف الأنانية إلى الأهداف البشرية والاجتماعية، وهذا المعنى الديني هو الذين يعين لنا أسلوبا للحياة الصالحة أو السامية.
ومن هنا ضرورة الفلسفة لكل شاب أو فتاة؛ أي: يجب أن ندرب عقولنا على التفكير السليم حتى نصل إلى الرأي السديد في شئون الحياة ونعيش متسائلين مستطلعين عن قيمة نشاطنا؛ أي: يجب أن نعيش المعيشة الدينية الفلسفية، ونقيس رقينا بمقدار ما نرتفع عن الأنانية المادية الوضيعة إلى الخدمة البشرية والحب للناس والرغبة في رقيهم.
والواقع أنه ليس هناك إنسان يخلو من العواطف تمام الخلو، وهو لو كان كذلك؛ أي: لو خلا من هذه العواطف تماما، لما ائتمناه على أن يجاورنا في مقعد بالترام أو القطار؛ لأننا عندئذ لا نجد أقل الضمان عندنا ألا يجرؤ على سرقتنا.
ولكننا نختلف في هذه العواطف، فهي قوية في البعض ضعيفة في الآخرين، ومن هنا حاجتنا إلى الغذاء الفلسفي بالدرس والتأمل والبحث فيما ينفع الناس حتى نشحذ شباة العاطفة الاجتماعية التي تحملنا على العمل الإيجابي للخير، فضلا عن الكف عن الشر.
علينا أن نتفلسف ونرفع مشكلتنا الخاصة الفردية إلى مقام المشكلة العامة الاجتماعية، فنجعل من فلسفتنا كفاحا للخير والرقي، وبهذا فقط نستطيع أن نمارس القداسة في معناها العصري.
الفصل الثالث عشر
الطيبة هي ذكاء القلب
في أوساطنا المختلفة أفراد لا يمتازون بالذكاء أو النجاح أو الشخصية، ولكنهم يمتازون بشيء آخر لا نكاد نحدد تعريفه، ولذلك نصف أحدهم بأنه رجل «طيب».
ونعني بهذا الوصف أنه يكره أذى الناس، وأنه يحب الخير للناس، وأنه حساس لا يجرح قلب المسكين أو المحتاج، وأنه يسارع إلى المعونة، فإذا شئنا التوسع في وصف هذا الرجل الطيب، قلنا: إنه حين يكون ثريا لا يفتخر أمام الفقراء بثرائه، وحين يكون ناجحا لا يتباهى أمام المخفقين بنجاحه، والمرأة الطيبة هي التي لا تشيد بأولادها أمام الزوجة التي حرمت الأولاد، وإذا كانت سعيدة في زواجها تحفظت في وصف سعادتها أمام الزوجة الشقية.
كان النازيون وحوشا في كثير مما دعوا إليه من مبادئ، أو مارسوه من أعمال، ولكنهم أحسنوا المروءة حين ألغوا كلمة «خادم» واستبدلوا بها عبارة «أمين البيت».
والطيبة هي ذكاء القلب الذي قد يخالف أحيانا منطق العقل، وهي التي تحملنا على أن ننسى الفروق الاجتماعية ونذكر أننا سواء في القيم البشرية، لكل منا، مهما حقرت مكانته الاجتماعية، كرامته البشرية.
وذكاء القلب هذا، أو هذه الطيبة، ما زلنا نجدها في بعض الأوساط الريفية التي لم تفسدها الفروق الاجتماعية، هذه الفروق التي تنمو نموا بغيضا في المدن، فقد رأيت بعض المالكين في الريف يأكلون مع عمالهم، وعرفت سيدة كانت تأكل مع خادمتها، والنفس المهذبة هي، بعد كل شيء، النفس الطيبة، وما ذكرناه هنا هو التهذيب الظاهر، ولكن هنا المروءة التي هي مذهب الرجل الطيب، وهو الذي يغيث المحتاج في السر والخفاء، وهو الذي يواسي بكلماته ونقوده من يحتاجون إلى المواساة.
على كل شاب أن يكون طيبا قبل أن يكون ناجحا، وقبل أن يفخر بذكائه أو مكانته أو عمله، يجب أن يفخر بطيبته؛ أي: عليه أحيانا أن يفكر بقلبه ويحس بعقله.
الفصل الرابع عشر
قسوة الرحمة
الرحمة والحنان من أجل العواطف البشرية، ولكن يجب أن يرافقها التعقل والتبصر لمصلحة هذا الشخص الذي نرحمه ونتحنن عليه، فإن في الرحمة أحيانا قسوة تفتت الصلابة وتفكك الأخلاق.
ونستطيع أن نرى «قسوة الرحمة» في الأم التي تدلل طفلها فتلبي جميع طلباته، فينشأ المسكين على أخلاق مترهلة حتى ليبلغ الخمسين أو الستين من العمر وهو لا يزال طفلا يعاند ويتدلل.
ونستطيع أن نرى قسوة الرحمة في أولئك الذين يتصدقون على الصبي أو الشاب القادرين على الخدمة، فيفقد كلاهما شهامته ويذل للاستكداء ويرضى بالتسول وسيلة للعيش، بدلا من أن يعمد إلى رجولته ويعمل ويجد، وهذه الرحمة قد تكون على أقساها وأفظعها حين نتصدق على المريض الذي يحمل في جسمه مرضا معديا كالجذام أو الدرن، فتدفعه رحمتنا إلى أن يتعلق بالترام ويتزاحم بالركاب، ويتخللهم، وينقل عدوى مرضه إليهم.
وقد كان هتلر مجنونا، وكانت النازية مذهبا تدميريا، ولكنه كان رحيما بصيرا بأسمى المعاني للرحمة، حين عمد إلى تعليم الناقصين الذين كان يخشى من انتقال نقصهم إلى نسلهم؛ لأن الرحمة لهؤلاء الناقصين كانت بلا شك تنطوي على قسوة للأبناء والأحفاد الذين ينشئون وبهم عيوب وراثية لا يمكن علاجها.
يجب أن نتبصر في رحمتنا، وأن نتعقل في حناننا، حتى لا نؤذي الشخص الذي نرحمه ونتصدق عليه فننزع منه رجولته، ونجرد منه شهامته بحناننا وتصدقنا، كما يجب ألا تؤدي رحمتنا لأحد الأشخاص إلى قسوة بالمجتمع.
الفصل الخامس عشر
الشطط في الفضيلة
عندما أتأمل بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس أجد أنها نتيجة للشطط في فضائلهم، فإن المقتصد يغالي في اقتصاده حتى يقع في البخل أو التقتير، والمتبصر يغالي في تبصره حتى يخاف المستقبل ويضحي بحاضره من أجل مستقبله، والأم التي تحنو على أطفالها تغالي في حنوها حتى تدللهم وتؤذيهم؛ لأنها لا تحملهم على الاستقلال وتكاد تلقمهم اللقمة في أفواههم.
وكلنا إلى حد ما يقع في مثل هذا الشطط، كأننا ضحايا فضائلنا ، وذلك لأن الفضيلة التي نمارسها تعود بحكم التكرار لممارستها عادة ننساق فيها، ولا نتنبه إلى أن هناك ظروفا يجب أن تحملنا على الحد من الإسراف أو المبالغة فيها، ثم يكون الزلل.
أعرف رجلا فاجرا عالجه إخوته بالرحمة اعتقادا بأنها سوف تصلحه، ثم أسرفوا في الرحمة والغفران فلم يكن من نتيجة لهذا الشطط في الفضيلة سوى إسرافه هو في الفجور والعدوان، وكانوا هم أنفسهم ضحايا هذا الفجور والعدوان؛ أي: ضحايا فضيلتهم في الرحمة به؛ إذ لم يترك واحدا منهم دون أن يسرقه أو يؤذيه، وقد استحال هو إلى لص بهذه الرحمة، ولو أن عائلته عاملته بالإنصاف لنشأ رجلا فاضلا.
ولذلك يجب أن نذكر على الدوام أن الاعتدال هو رأس الفضائل، وأن الشجاعة وسط بين التهور والجبن، والاقتصاد وسط بين التبذير والتقتير، وأن الرحمة وسط بين القسوة والتدليل.
وبكلمة أخرى يجب ألا نكون ضحايا فضائلنا، ويجب أن نزن الفضيلة إلى جنب غيرها من الفضائل، وأن نجعل نظرتنا محيطة شاملة، فلا نلتزم فضيلة تستهوينا وتعمينا عن غيرها، فإن الحياة أكبر من أن تحتويها فضيلة واحدة.
الفصل السادس عشر
المروءة تثقفنا وتصقلنا
عندما ننصح لأحد الشبان بأن ينشط إلى معاونة الغير، أو إلى إسداء المروءة إلى المحتاجين، يكاد هذا الشاب المستمع يعتقد أنه يطالب بالتضحية، وأننا نكلفه شيئا يتجاوز الفروض والواجبات.
ولكن قليلا من النظر السيكلوجي لمواقف المروءة والتعاون والبر يجعلنا نفهم، أو نوقن بأن هذا الشاب البار الذي يمارس المروءة ينتفع ببره ومروءته مثلما ينتفع ذلك الشخص الذي أسدى إليه البر أو المروءة، بل ربما أكثر منه.
ذلك أننا بهذه الممارسة تزيد الإحساس الاجتماعي في نفوسنا، ونتعود ما يلابس هذا الإحساس من مجاملات لفظية أو إيمانية تحمل كل من يصادفنا على احترامنا وحبنا، بل أكثر من هذا، وهو أننا نتجه اتجاه الخدمة والحب للمجتمع، فنتجنب الإثم والعار والجريمة، ونمارس الفضيلة الاجتماعية في غير تكلف.
ممارسة المرءوة تجعلنا اجتماعيين، بحيث ننأى عن الشذوذ والإجرام؛ لأن أبرز صفات المجرم أنه انفرادي يفكر في نفسه فقط ، فهو يتجلف في لغته، ويمدح نفسه، ويعد المروءة سخفا، ثم لا يبالي بعد ذلك أن يخدعك ويسرك؛ لأن «الغرائز» الاجتماعية لم تجد عنده ما يرويها ويصقلها من التعاون والبر والمروءة.
مارس أيها الشاب المروءة والنجدة والشهامة، واعلم أنك وأنت تسدي المعاونة إلى أحد المحتاجين، إنما تخسر مادة يسيرة ولكنك تكسب تربية نفسك وصقلها ورفعها إلى المستوى الاجتماعي الذي ينأى بك عن الشذوذ أو الإجرام، واذكر أننا نحس الحب للناس عندما نخدمهم، ونحس الشهامة عندما ننجدهم.
والنفس السوية هي في النهاية النفس الاجتماعية.
الفصل السابع عشر
اجعل المجد هدفك
يعيش كثير من الشباب سادرين يجرون مع التيار كأنهم حطامة يحملها السيل ويتجه بها أية وجهة، ويقنعون من الدنيا بما تعين لهم الحوادث، ليس لهم هدف أو برنامج.
ولو أن أحدا أسس مدرسة وأعلن أنه ليس له برنامج ولا هدف لتجنبه الناس، وعدوا مدرسته مؤسسة للفوضى؛ لأن غاية المدرسة هي التعليم، وهو يحتاج إلى درجات مرتبة من التثقيف تنتهي إلى نهاية.
وكذلك يجب أن يكون الشأن في الحياة، نهدف منها إلى تربية الشخصية، فنعمل جاهدين إلى أن نصل إلى نضجها فأيناعها، ونحن نتربى وننضج بما يقع بنا من حوادث وتجارب، فالحياة هنا مدرسة تربينا مدى سبعين أو ثمانين سنة نعيشها على الأرض، ولكن يجب علينا أن نقف من هذه التربية موقف المعلم والتلميذ معا نختار البرنامج ونعين الهدف، ولا نترك أنفسنا منفعلين مندفعين بالتيارات المحيطة بنا.
ومما تثبته السيكلوجية الحديثة أن لكل منا هدفا يتعين لنا أيام الطفولة، فنرسم لأنفسنا الصورة المثلى التي تتمنى أن تتحقق، ثم نجهد على غير دراية منا كي نصل إلى تحقيقها.
ولكن هذه الصورة طفلية، وهي ليست جديرة بأن نجهد لتحقيقها، فيجب ألا ننخدع بها.
والشاب الناضج هو الذي يقف حوالي العشرين من عمره موقف الوجدان والاختيار، فيعين هدفه لنصف القرن الباقي من عمره ويسأل: ماذا أريد من هذه الدنيا؟ كيف يجب أن أكون بعد 30 أو أربعين سنة؟ وهل أسلوب الحياة الذي أتخذه الآن سيؤدي بي إلى المجد والصحة والمعرفة واليسر؟ أم إلى الحقارة والمرض والجهل والفقر؟
فإذا هو عين هدفه، واستقر عليه بعد المراجعة والتنقيح، فعليه أن يعين البرنامج على مراحل، كل مرحلة خمس سنوات مثلا، يرتقي بها من حال إلى حال أخرى في كل ما يمتاز به الإنسان الراقي من الصحة والمعرفة واليسر، بل أيضا من المجد، بل الحق أن الشاب الذي يتوخى المجد لا يحتاج إلى أن يفكر في غيره؛ لأن هذا الهدف وحده سيوجهه، وسيضطره إلى ممارسة كثير من الفضائل.
أجل: أيها الشاب، احترف المجد من الآن، واجعله هدفك، وعين برنامجك لتحقيقه.
الفصل الثامن عشر
فلنحرر رءوسنا كما حرر الصينيون أقدامهم
كانت الطبقة الحاكمة في الصين، وهي طبقة المانشو التي زالت عن مقاعد الحكم والسلطان بثورة سون يوت سون في 1911، تمارس عادات وتقاليد تحافظ عليها كما تحافظ على سلطانها، وكان من هذه التقاليد أن تربط قدم الطفلة بأربطة وثيقة، حتى إذ شبت وصارت آنسة مرشحة للزواج كان من ميزاتها التي تفخر بها وتفاخر بها عائلتها أن قدمها صغيرة، بل صغيرة جدا لا تسمح لها بالسعي والعمل؛ لأن السعي والعمل من صفات الفقراء والصعاليك، أما هي فمن طبقة الأثرياء أو النبلاء التي تعيش بلا عمل.
وكان ربط القدمين يؤدي إلى ضغط الشرايين والأوردة، فلا تجد القدمان غذاءهما، فتضمر كلتاهما وتسقطان، وتعيش هذه الفتاة الثرية النبيلة سائر حياتها بلا قدمين، تفخر بنبالتها في المجتمع وخبيتها في الحياة التي تحياها على قدمين هما عضوان.
وجميعنا إلى حد ما يربط قدميه بالتقاليد أو العادات، وإن كانت القدم هنا مجازا أو استعارة.
ذلك أننا نربط عقولنا كي لا نفكر التفكير الحر، أو تسن الحكومة قوانين حتى لا نفكر إلا في الحدود التي تعينها لنا، وهذه الحدود للعقل هي بمثابة الأربطة الصينية القديمة للقدم، وهناك تقاليد وعادات نفخر بأننا نتقيد بها، ونحصل بذلك على كرامة اجتماعية، ولكن عقولنا تضيق وتأسن حتى تعجز عن التفكير البكر المنتج، ونصل إلى حال يسألنا الأطفال فيها أسئلة صريحة عن هذا الكون ومنشئه وعن الحق والضلال وعن الفضيلة والرذيلة، فنجيب على أسئلتهم بالكذب أو النفاق أو الغش؛ لأن عقولنا قد ربطت منذ طفولتنا كالقدم الصينية القديمة.
وقليلون منا هم الذين فكوا هذه الأربطة عن عقولهم وانطلقوا يفكرون في حرية وابتكار، ولكن المقيدين المربوطين لا يطيقون هذه الحرية؛ لأنها نور يعشى عيونهم التي نمت في الظلام.
علينا أن ننمو النمو الطبيعي بلا أربطة صينية للعقل أو لغير العقل، وعلينا أن نكف الحكومات عن وضع الأربطة للعقول، وأن ننفض عنا التقاليد والعادات التي تربط عقولنا وتقيدها.
الفصل التاسع عشر
المتمدنون المتوحشون
من القصص التي تركت في ذهني أثرا حيا قويا لما فيها من الدلالة لحياة الكثيرين منا، قصة لمؤلف أوروبي نسيت اسمه، وموضوعها أولئك المتمدنون المتوحشون الذين يتخذون زخارف الحضارة، ولكنهم في أعماق قلوبهم وحوش تفترس ولا ترتفع إلى معنى الإنسانية.
والمؤلف يعقد فصلا، أو منظرا، يجتمع فيه طائفة من هؤلاء المتمدنين حول مائدة، وقد زها كل منهم في حلة غالية تدل على الثراء والوجاهة، كما أن السيدات تتلألأ عليهن الجواهر وتصرخ فساتينهن بالألوان، والجميع يتحدثون في لغة مهذبة، يجامل بعضهم بعضا بالابتسامات والإيماءات التي تنطق عن عناية سابقة في تدريبهم على مثل هذه الاجتماعات.
أما المائدة فكانت تكتظ بالآنية الفاخرة والأزهار النضرة والأنبذة الرحيمة، ويتوسط المائدة طبق كبير عليه اللحم الذي يمزقونه ويتناولونه فلذة بعد فلذة يأكلونها في تأنق يدل على تمدنهم.
ولكن هذا اللحم لم يكن لحم الضأن أو لحم البقر، وإنما كان لحم طفل بشري قد طبخ وهيئ بالتوابل، وأنضج بالزبد والمرق، وكان كل ما يهتم به هؤلاء المتمدنون أن يتناولوا لحمه فوق القواعد المرسومة لآداب المائدة، أما هذا الطفل البشري المبسوط أمامهم، المطبوخ على النار، فلا يسألون عنه.
وهنا المغزى الرمزي لكثير من أولئك المتمدنين المتوحشين، الذين لا يبالون أن يعيشوا في ترف، يأكلون أشهى الأطعمة، ويلبسون أجود الأقمشة، ويتأنقون في سلوكهم ولكنهم لا يبالون العائلة الفقيرة التي استخدموا أعضاءها فجمعوا منها أموالهم وحرموها من الغذاء الكافي أو المسكن الصحي أو تركوها حتى تموت جوعا وعريا.
أجل، إن هؤلاء المتمدنين المتوحشين يأكلون لحوم الأطفال على موائد مطهمة، تحمل الآنية الفاخرة والأزهار النضرة.
الفصل العشرون
الشرق والغرب ... أيهما المادي؟
من أسخف المزاعم أن يقال: إن الشرق روحي والغرب مادي، كأن الروحية هباء أو سحر لا تتصل بحاجات الحياة من طعام وكساء ومسكن، وكأن الفلاح المصري الذي تأكل ديدان البلهارسيا أحشاءه، ولا يحصل على أكثر من جنيه أو نصف جنيه في الشهر، ولا يقتات هو وأبناؤه إلا بأتفه الطعام، هذا الفلاح، أكثر روحية من الفلاح الإنجليزي أو الفرنسي الذي يتمتع بجسم سليم من الديدان، ويحصل على خمسين جنيها في الشهر يشتري بها الطعام الوافي لأولاده والكساء الواقي، ويعيش في المسكن الصحي النظيف.
وليس عجبا بعد هذا السخف والهراء أن نجد أن أعظم أمة كانت تدعو إلى الروحية، وهي الهند، قد انتهت روحيتها هذه إلى إيجاد طبقة من المنبوذين يبلغون خمسين مليون إنسان قد حرموا الحقوق البشرية البدائية، ووصموا بالنجاسة في حين نسبت القداسة إلى البقر.
وقد سئمنا جميعا هذا الهراء عن الروحية والمادية، كما سئمتها الهند التي ألغت روحيتها، وأقبلت على المادية تنشئ المصانع وتزيد الثراء وتلغي الفقر، حتى لقد قال «هوشي» أحد زعماء النهضة في الصين الجديدة «إن الواقع أن الغرب أكثر «روحية» من الشرق؛ لأنه يشتغل ويهتم بإنهاض الشعب، والشعوب الأوروبية تعمل لأجل الحرية والمساواة والعدالة، أما الشعوب الشرقية فتقعد، وتزعم أنها تصلي بتكرار كلمة «بوذا»، وهذا الشرق يرضى، وهو راكد، عن الفاقة ويسترضي السماء ويتحمل صامتا متاعب الحياة، ولكننا نجد في الغرب سخطا على الفقر، وكراهة لتحمل المظالم، وكفاحا عنيدا مثابرا لإصلاح الوسط، ويجب على الصين أن تجعل ديانتها عملية نشيطة، ويجب على شعبها أن يعالج الفاقة ويعمل للتقدم.».
هذه كلمات رجل ناهض يعده دعاة التقاليد المحنطة الذين يعيشون لينوحوا على تراثهم العتيق في الصين كافرا، وليس شك في أنه كافر بالماضي الذي ينوء بالظلم والظلام، ولكنه مؤمن بالمستقبل الذي ينبلج نوره عن حضارة جديدة.
الفصل الحادي والعشرون
القارئ التافه والمجلة التافهة
يكفيني في بعض الأحيان وأنا أنظر إلى الشاب في الترام أو القطار وهو يقرأ المجلة أو الجريدة أن أحكم على مرتبته الثقافية وأعين درجته الاجتماعية، فهناك الشاب التافه الذي يقرأ المجلة التافهة ويشغل ذهنه بالقيل والقال، وهو لا يقتل وقته بهذه القراءة بل يقتل نفسه؛ ذلك لأنه يثبت على هذه التفاهة أو هو يشبع منها ويصد عنها ثم لا يقرأ، فيعيش عاميا بليد الذهن لا يفهم ولا يهتم بالاهتمامات العالية.
لذلك يجب أن نعنى باختيار الجريدة أو المجلة كما نعنى باختيار الصديق، وكما نتجنب الصديق الذي يسيء إلى سمعتنا ويغشنا بالنصيحة أو يحملنا بالقدوة على السلوك السيئ، كذلك يجب أن نتجنب الجريدة أو المجلة التي لا تغذونا بالأخبار الصحيحة، والتي لا تبالي سوى إغرائنا على قراءة السخيف من الأخبار والآراء.
ونحن نقرأ الجرائد والمجلات نحو خمسين أو ستين سنة في حياتنا، وهي لذلك تربينا وتكون لنا مزاجنا الفني، واتجاهنا الاجتماعي، بما تزودنا به من أخبار وما تنشره من آراء، بل أيضا بما لا تنشر من أخبار أو آراء، وأثرها في أنفسنا لهذا السبب أكبر من أثر المدارس والجامعات.
وهناك امتحان واحد للجريدة أو المجلة يدلنا على أنها حسنة أو سيئة، هو أن يسأل الشاب نفسه: هل أنا أربي نفسي بقراءتها وأرتقي وأنتفع منها أم أنا لا أجد فيها غير التسلية العابرة بالنكتة السخيفة والصورة العارية؟ أو هي لا تزيد لذتها عندي على أكثر من أكل اللب أو الاستماع إلى القيل والقال.
يجب أن نقرأ كي نربي أنفسنا، ويجب أن نختار هذا المعلم الذي يرافقنا في حياتنا نحو نصف قرن، فإذا لم يكن جديرا بالتعليم فيجب أن نتركه ونبحث عن غيره؛ حتى تتسع آفاقنا بالسياسة العالمية والعلوم والآداب العصرية، وحتى نتعود منه عادات البحث، وحتى نعرف كيف نستخلص الحقائق من المعارف.
وهذا المعلم هو الجريدة أو المجلة.
الفصل الثاني والعشرون
تأنق في مطالعتك
كثير منا يقتصر تعليمهم على المدرسة، وقليل منا من يصلون إلى الجامعة، ولكننا نترك الاثنين على كل حال قبل أن نبلغ الخامسة والعشرين، ثم نقضي بعد ذلك سائر أعمارنا، أربعين أو خمسين سنة، ونحن نتعلم من الكتاب، وأكثرنا هم الذين يشترون الجريدة أو المجلة.
فالوسيلة الأصلية لتثقيفنا وتوجيهنا التي تقدم لنا غذاء الذهن والروح في عصرنا هي الجريدة أو المجلة، ولذلك يجب أن نسأل حين نشتريهما: بماذا أنتفع منهما؟ وهل هما ترقيان الذهن وترفعان النفس أم أنهما تعملان لتبليد الذهن وضعة النفس؟
يجب أن تربينا جرائدنا ومجلاتنا، فإذا لم تفعل فإننا يجب أن نتجنبها، بل نكافحها ونمنع انتشارها بين الجمهور.
إني أجد من المجلات هذه الأيام ما يمكن أن يحسب في عداد المواخير، ذلك أنها تعيش وتتفشى بالتحرش بالغريزة الجنسية وتجميش الشهوات الوضيعة؛ إذ هي مجلات يكتبها عوام كي يقرأها أعوام، تحفل بالصور التي تبرز فيها السمات الجنسية الثانوية للمرأة، كالصدر والكفلين والبطن، وتكاد بعض المجلات لا تحوي شيئا آخر.
ولا يمكن الشاب أن يرتفع أو ينتفع بقراءة هذه المجلات، بل هي أحرى بأن تبلد ذهنه وتكسب روحه جلافة، وتحيله من إنسان متعدد الاهتمامات إلى حمار ينهق وراء الأنثى، كأن جميع كفاءاته الإنسانية العليا قد ألغيت، ولم تبق فيه غير الغريزة الجنسية والشهوات الحيوانية.
وحرام عليك أيها الشاب أن تبيع نفسك رخيصة بهذا الثمن البخس، فأنت تعيش في هذه الدنيا كي ترقى وتنمو وتنضج، وأنت، حتى حين لا تقرأ ولا تشتري هذه المجلات، أرقى ذهنا وأوفر حكمة من ذلك المحرر الذي ينشر لك صور الصدور والأكفال والبطون، ويكتب لك قصص العشق والفسق.
أنت أرقى منه فتجنبه، حتى يتعلم هو كيف يكتب وماذا ينشر.
الفصل الثالث والعشرون
كيف نستغل فراغنا؟
كان «هربرت سبنسر» يقول: إنه يستطيع أن يعرف اهتمامات أي إنسان بعد ثلاث أو أربع دقائق من الاستماع لحديثه؛ وذلك لأننا كلنا في الحديث نتجه نحو الموضوعات التي تشغل قلوبنا وتحرك عقولنا.
ولكن ما نهتم به ليس في الأغلب حرفتنا ومعاشنا، بل مشاغلنا التي نملأ بها هذا الفراغ بما نحب من نشاط، ولذلك نجد أن الهواية أو الهوايات التي تلصق بقلوبنا، والتي نستغل بها فراغنا أو «نقتل» بها وقتنا، تعمر شخصيتنا وتملأ حديثنا فلا نكاد نتحدث إلا عنها، ولذلك نستطيع أن نميز الرجل الحكيم من الرجل الجاهل عندما نعرف الطريقة التي يستغل بها كل منهما فراغه.
وهذا معقول؛ لأننا في الحرفة التي نتكسب بها قد نضطر إلى عمل ليس لنا فيه اختيار، ولكننا في الفراغ نختار ونفاضل ونميز بين الأعمال، فأحدنا يقرأ والآخر يلعب، وأحدنا يتكاسل ويتثاءب ويسمر، والآخر ينشط ويتخذ بعض الألعاب الرياضية، بل إن أحدنا قد يهوى عملا فنيا لا يزال يمارسه ويتبرع فيه حتى يجد في أحد الأيام أن هوايته هي كل شيء، وأنها جديرة بأن تكون حرفة يتخذها بدلا من حرفته التي اضطر إليها اضطرارا.
وعندما نبلغ الشيخوخة أو نقاربها، نجد أن حرفتنا التي كنا نعيش بها ونتكسب منها قد نسيناها، بل نحن نسارع إلى نسيانها، ولكن الهواية التي لازمتنا أيام الشباب قد بقيت وقويت، ونحن عندئذ نجد فيها أعظم ما يبعث النشاط والبهجة والسعادة أيام الشيخوخة.
يجب أن يكون لكل شاب هواية كالقراءة أو الكتابة أو الصيد أو تربية الحمام أو النجارة أو غرس الأشجار أو الرسم أو البحث العلمي أو قرض الشعر ... إلخ إلخ.
ذلك لأن هذه الهواية تصده عن «قتل الوقت»، فلا يعود الوقت عدوه بل يستحيل إلى صديق؛ لأنه يجد فيه الفراغ الذي يرقى به وينمو به ذهنه وتنضج به شخصيته، فلا يزال في نمو ونضج ولو بلغ التسعين أو المئة من العمر، ثم مع ذلك يكون سعيدا برقيه ونموه.
ما هي هوايتك أيها الشاب؟ وهل أنت «تقتل» وقتك أم «تستغله»؟
الفصل الرابع والعشرون
الطبيعة تجود بجمالها
من أحسن ما قاله «ريتشارد لوجالين» في دعوة الناس إلى الاستمتاع بالحياة: «ماذا كنا ندفع من أموالنا كي نرى القمر لو لم تكن الطبيعة قد عرضته لنا بالمجان؟.».
والواقع أن الإنسان ليسخو بأكبر مقدار من أمواله كي يرى هذا المنظر الطبيعي الرائع، القمر وهو يدور يتوسط السماء، أو وهو بازغ يتوهج من الشرق ، وكي نعرف القمر على أكمله يجب أن نراه في الريف من الحقول المنبسطة التي يسكب عليها أشعته ويكسوها بمثل السحر، حتى لنكاد نضن بساعة للنوم تحرمنا رؤيته، ونحس أننا نود لو نقضي الليل كله وهو يغمرنا بسحره، ونحن مأخوذون بروعته.
ولكن ليس القمر وحده هو الذي يمثل جمال الطبيعة، فإن الشفق الذي ينبسط على الآفاق وقت الغروب لا يقل جمالا عن القمر، والحقول التي تزد هي بخضرة النبات وألوان الزهر، بل حتى الصحراء القاحلة، تبعث في نفوسنا من الإحساسات الفنية ما يجب على كل إنسان أن يستمتع به، وأن يسخو بالوقت والمال كي يحسه ويقتنيه اقتناء نفسيا يجعله ثريا بالحياة.
يجب أن نربط أنفسنا بهذه الدنيا، بل بهذا الكون كله، فلا نعيش حياتنا محصورين محدودين في البيت أو المتجر، بل يجب أن نخرج من وقت لآخر كي نزور هذه الدنيا، فنعرف مياهها وجبالها وريفها، يجب أن نرصد بعض ليالينا كي نتحدث إلى القمر والنجوم، وكي نحس خلوة الصحراء في الظلام، ودبيب الصبح على رمالها، ونتسمع إلى صمتها، ونحاول أن نحس إحساسها بروح ديني.
والناس في أيامنا مشغولون بالاقتناء العقاري ينفقون عليه جهودهم ويفنون أعمارهم، ولكن كلا منا يستطيع، إذا كان فهيما حكيما، أن يقتني هذه الدنيا كلها، بل كل هذا الكون اقتناء نفسيا لا يكلفه سوى التأمل والتعرف، ويجب أن نتعمق الفكرة في هندستها، وعطرها، وألوانها، وأن نتأمل الغرب في مكره، وهو يدس دسيسة للخطف والنهب، وأن نقعد الساعات على الشاطئ كي ننقل إلى أنفسنا إحساس هذا الماء الجاري أمامنا.
إننا، وهذه الطبيعة التي تحطونا، وحده لا تنقسم، فيجب أن نتعرف إليها ونتغلغل في تفاصيلها، ونستمتع بجمالها ونقتنيها اقتناء لا ينزع من نفوسنا، هو اقتناء التأمل والدرس.
الفصل الخامس والعشرون
الطبيعة مبعث النشاط
مات منذ سنوات أديب إنجليزي يدعى «ديفز» ولكن مع أن ديفز هذا كان أديبا وله مؤلفات في الشعر والنثر فإنه لم يكن محترفا للأدب؛ لأن حرفته الأصلية كانت التشرد.
وكلمة «التشرد» تحمل كثيرا من المعاني، ولكن ديفز كان متشردا من حيث إنه آثر التجوال في الريف على الإقامة، فكان يتنقل من بقعة إلى أخرى؛ كي يستمتع بمناظر الطبيعة سواء أكانت زرعا نضرا أم ماء يجري أم جبلا يشمخ أم غابة تحفل بالأشجار والطيور.
وألف ديفز كتابا عن حياته المتشردة هذه، وكتب برنارد شو مقدمته، فكان مما قاله في المقدمة: إنه يغبط ديفز على هذه الحياة التي عاشها وهو متشرد، وإنه آسف على أنه هو نفسه لم يتخذ هذا الأسلوب في حياته، ولم يستمتع بهذه الدنيا الحافلة بمباهج الطبيعة التي استمتع بها ديفز.
وظني أن برنارد شو كان مبالغا في إعجابه، ولو أنه كانت قد أتيحت له هذه الحياة لما رضيها؛ ذلك لأن إحساسه الاجتماعي عميق، وهو لذلك لا يستطيع أن يتخلص من المسئوليات التي يجد نفسه مضطرا إلى تحملها، ولا يمكنه أن يترك مكتبه ويؤثر عليه التجوال في الريف إلا بضعة أيام فقط يعود بعدها وهو مجدد متحمس للكتابة والتأليف.
وهذه هي العبرة التي يجب أن نستخلصها من حياة ديفز، وهي أن ننطلق من وقت لآخر إلى الريف وأن نجدد اتصالنا بالأرض، وأن نتشمم الربيع حين يستأنف النبات والحيوان حياتهما، وحين تنادي الأجيال القادمة من الحشرات والطيور وسائر الحيوان، فينبعث الحب ويتذبذب الهواء بأنغام الغرام، ويجب أن يكون لكل منا إحساس الأرض، نشتاق إلى رؤية الحرث حين تفوح منه نكهة الخصوبة، كما نشتاق إلى نضرة الزرع، وليس من الضروري أن نكون متشردين مثل ديفز؛ كي نستمتع بالطبيعة، ولكن حسبنا أن نتخلص من وقت لآخر من حبسة المدن؛ كي ننطلق في مرح وطرب بين الحقول نتعرف إلى العشب والشجر والطير والحيوان.
الفصل السادس والعشرون
ثراء بلا ثروة
أجل، يجب أن نكون أثرياء، ولكن أثرياء في الحياة ذلك أن كثيرين منا يظنون أن الثراء بالمال هو كل شيء.
ولكن هذا الثراء في المال كثيرا ما يعمينا عن الثراء في الحياة، بل يحرمنا إياه.
فالحياة تكون فقيرة محدودة إذا لم تكن غنية بالأصدقاء الذين نخلص لهم ويخلصون لنا، فنستمتع برفقتهم وحديثهم، ونفرح لفرحهم، ونبتئس لتعسهم.
والحياة تكون فقيرة محدودة إذا لم نكن أغنياء بالصحة، صحة الجسم من الأمراض، وصحة النفس بالضمير السليم والعواطف البشرية النبيلة.
والحياة تكون فقيرة محدودة إذا لم نكن أغنياء بالحب؛ أي: تلك المرأة التي نحبها وتحبنا، وتلك العواطف الباردة التي تجعلنا نحس أخوتنا مع سائر البشر؟
والحياة تكون فقيرة محدودة إذا لم تكن نفوسنا معمورة بالاتجاهات الفلسفية، وعقولنا مؤثثة بالثقافات القديمة والحديثة.
الحياة تكون فقيرة محدودة إذا لم نستمتع بالفن والجمال، ولكن الاستمتاع بالفن والجمال ليس صورة نشتريها أو أثاثا فاخرا نقتنيه، وإنما هو قبل كل شيء نفس فنانة قد ربيناها على التأنق، وعقل يستجيب للإيقاع في الطبيعة.
وهذا هو الثراء في الحياة، والحياة أكبر من المال، ويجب لذلك أن يرتفع معنى الثراء من جمع المال إلى اقتناء الصحة والأصدقاء، والثقافة والحب والفن، حتى نعيش العيش العريض الذي يحفل بالشرف والسعادة، أجل ونعرف فيه الألم والتعس.
الفصل السابع والعشرون
التعليم بالقدوة
يستطيع السيكلوجي أن يقول: إن الطرق التي نعامل بها الخدم في بيوتنا هي أسوأ تدريب لأبنائنا على العنف والبطش والاندفاع العاطفي، ذلك أن السيدة تضرب الخدم أكثر مما تناقشهم، وتندفع في غضب عاطفي إلى سبهم بالكلمات النابية، وإلى إيذائهم بالدفع واللكم.
وهذه السيدة نفسها تعلم أبناءها الرفق والمجاملة والتعقل، ولكن هذا التعليم بالكلمات والنصائح ينهزم أمام القدوة، حين تقف أمامهم وهي كالمتوحشة تسب وتضرب.
ولذلك ينشأ الصبيان وقد حفظوا ما تعلموه بالقدوة، ونسوا ما تعلموا بالكلمة والنصيحة.
لأن القدوة كانت أثبت في نفوسهم وأرسخ في وجدانهم، فهم يقتدون بأمهم ويعاملون الأقارب والغرباء في المجتمع بالأسلوب العاطفي، فيستسلمون للغضب الأعمى، ويبصقون السباب، ويبطشون لأقل استفزاز، وعندئذ ينفر منهم الناس أو يصدون عنهم كارهين عازفين عن سلوكهم، وما أحرى الأمهات بأن يعاملن الخدم بالرقة واللطف والرفق؛ لأنهن إنما يعلمن أبناءهن السلوك الحسن بهذه المعاملة؛ إذ ليس أفعل من القدوة في الصغار؛ لأن من شأن الصغير أن يقتدي بالكبير، وخاصة إذا كان هذا الكبير أما لها قوة الإيحاء والتوجيه، وملايين الكلمات من النصح لا تجدي أمام المثال العملي الذي يجده الصبي في سلوكها مع خدمها.
والبيت هو المدرسة الأولى، بل يكاد يكون المدرسة الوحيدة للتربية، ونعني التربية ولا نعني التعليم، وأفضل أنواع التربية هو القدوة، فنحن نأخذ عن أمهاتنا الأسلوب الذي نعامل به أفراد المجتمع، وبعض هذا الأسلوب ينغرس في نفوسنا ونحن صغار مما نرى من معاملة أمهاتنا للخدم.
ولهذا نناشد السيدات الرفق والتعقل في معاملتهن لخدمهن، وإذا لم يكن عندهن من الإنسانية والبر ما يحملهن على ذلك، فليكن لهن من الأنانية والحب لأطفالهن ما يبصرهن بمستقبل هؤلاء الأطفال.
الفصل الثامن والعشرون
التثقيف الأبتر
من المشكلات التي لم ترتفع بعد إلى وجدان المثقفين في مصر مشكلة التعليم للمتعلمين، ذلك أن هناك كثيرا من المتعلمين الذين ينقطعون عن الدراسة لأسباب مختلفة، ربما كان من أهمها أن أسلوب الدراسة الذي خضعوا له في المدرسة أو الجامعة كان مرهقا بغيضا، فما هو أن ينال الشاب شهادته ويشرع في كسب عيشه حتى ينسى أو يتناسى عاداته السابقة في اقتناء كتاب أو قراءة مجلة جديدة، وعندئذ يغدو تعليمه أبتر، وهناك آلاف من أمثال هؤلاء «المتعلمين» الذي قد يمضي على أحدهم عشرون سنة لا يقرأ فيها كتابا حسنا، وليس لهم مصدر ثقافي يصدرون عنه ويعتمدون عليه في معارفهم وآرائهم سوى ما سبق أن تعلموه في المدرسة أو الجامعة، وتبقى عقولهم فارغة غير مؤثثة بثقافة عصرية تنير تفكيرهم في المشكلات المتجددة.
وهذا التعليم الأبتر شر من الجهل؛ لأنه يبعث على الزهو السخيف، ولأن المتعلم الناقص يدلي بآراء قديمة لا تتفق والتطورات الجديدة، ويرفض الجهد الذي تتطلبه الدراسة؛ لأنه كف عن الدراسة بل طلقها، في حين أن الجاهل يتواضع ويقبل النصيحة ويرضى ببذل الجهد كي يتعلم.
وقد كنت أعجب وأنا في إنجلترا حين كنت أدخل غرفة الخادمة فأجد بها رفا يحمل خمسين أو ستين كتابا، وحبذا عادة الخدم هذه في إنجلترا تنتقل إلى بعض السادة في مصر حتى يقرءوا ويستنيروا، فإن أشرف ما في الإنسان هو عقله، فيجب أن ننفق على تغذيته مثل ما ننفق على تغذية البطن، ويجب ألا تقتصر هذه التغذية على القراءة للكتب؛ لأن هناك وسائل أخرى كالسياحة، والمحادثة مع المستنيرين الراشدين، وبحث المشكلات الاجتماعية، وزيارة المتاحف، وقراءة الجريدة اليومية ونحو ذلك.
ولكن اقتناء الكتب ودراستها أهم هذه الأشياء.
ويجب أن يسأل الشاب نفسه من وقت لآخر: هل تعليمي أبتر؟ وهل أنا من أبناء 1956 أو 1920؟
الفصل التاسع والعشرون
التوسع في الثقافة
من الأخبار الصغيرة الخطيرة التي يجب أن نوجه النظر إليها؛ ما ذكرته إحدى الصحف الأوروبية من أن شركة شل للبترول في هولندا قد منحت كلا من موظفيها المتخصصين للأبحاث العلمية في مادة البترول مئتي جنيه كل عام فوق رواتبهم، ولكنها شرطت على الموظف أن ينفق هذا المبلغ في أية دراسة أخرى بحيث لا تتصل بموضوع التخصص الذي يقوم به؛ أي: أنه يستطيع أن ينفق هذا المبلغ على دراسة التاريخ أو الفلسفة أو البيولوجية أو الفلك أو غير ذلك.
وقد انتهت الشركة إلى هذا القرار؛ لأنها وجدت أن التفكير الذي يثمر الابتكار والكشف لا يأتي عادة إلا من أولئك الذين يخرجون من المحيط الضيق الذي يقتضيه التخصص إلى الآفاق الواسعة في العلوم الأخرى التي لا تمت بأية علاقة إلى مادة تخصصهم، ذلك أن المتخصص الذي يدرس نقطة معينة يجد في الدراسات الأخرى من الاتجاهات ما يتفاعل مع موضوع بحثه، فتختمر عنده الأفكار وتنضج وتثمر تصورا جديدا لم يكن يصل إليه لولا هذه الدراسات الأخرى.
وما أجدرنا أن نفهم العبرة من هذا الخبر الصغير، فإنه يجب على الطبيب أن يدرس الطب والتاريخ، ولو أن المهندسين الذين أقاموا الخزانات للري في بلادنا وشقوا القنوات، ووفروا الماء للزراعة عرفوا الطب لما تفشت الانكلستوما والبلهارسيا.
يجب أن نتوسع في آفاقنا الفكرية كي نزيد فهما للبؤرة الدراسة التي نتخصص فيها، وأيضا كي نستمتع بالاتزان النفسي والذهني الذي يحد التخصص منه.
وكثيرا ما تحدنا الحرفة كما تحد القضبان الحديدية القطار الذي يسير عليها، حتى تعود حرفة الكسب كأنها سيرة الحياة، فلا نعرف من الدنيا غير حرفتنا، فهي مادة تفكيرنا، ومنتهى آمالنا، وطريقة معيشتنا، وعندئذ يؤدي ضيق الحرفة إلى ضيق الحياة.
أي يجب أن نكون موسوعيين نحاول أن نعرف كل شيء، ونتطلع إلى كل أفق، نتعلم للحياة وليس للحرفة فقط.
الفصل الثلاثون
من التعميم إلى التخصيص
نحن البشر في حياتنا المدنية، نولد وننشأ في وسط المدينة أو الريف، فإذا كنا أطفالا تشابهت تقاسيمنا وملامح وجوهنا كما تشابه سلوكنا، إلا القليل النادر جدا الذي تبرره فروق الوراثة، فنحن في الطفولة مواد بشرية خامة لم تتبلور ولم تتجوهر.
ثم ندخل المدارس، ونحترف الحرف، ويؤثر الوسط الخاص أثره في كل منا، فنختلف، هذا تاجر، وهذا محام، وهذا حوذي، وذاك مزارع، وهذا كاتب موظف، وذاك مهندس حر.
وكل من هذه الحرف يطبع طابعه في تقاسيم النفس والجسم، ثم تمضي السنوات، عشرون أو ثلاثون سنة، ونحن نلتزم حرفة بسلوكها وأخلاقها التي تقتضيها، وبمرور هذه السنين، تنكشف كالزهرة، من التعميم إلى التخصيص، ومن الحال الخامة العامة إلى حال التبلور والتجوهر.
وكأن هذه الاختبارات التي تمر بنا تصهرنا وتخرج منا الجوهر الخاص، أجل هو الجوهر، ولكنه جوهر الحرفة، وليس جوهر الشخصية.
لذلك عندما نتأمل أحد الناس الذين التزموا حرفة ما ثلاثين أو أربعين سنة لا نكاد نخطئ في تعيين حرفته دون أن نحتاج إلى سؤاله عنها؛ إذ هي تخبرنا، وهو يتحدث؛ لأن لهجة الحرفة عالية عليه، كما نجد من إيماءاته واختيار كلماته جميع الأمارات التي تعلن عن حرفته.
وعندما نتقدم في السن، ونكون قد عنينا بتربية أنفسنا وتنمية شخصياتنا نجد أننا أيضا نتبلور ونتجوهر، ولكن ليس من حيث الحرفة فقط بل من حيث الشخصية، وصحيح أن الحرفة هي بعض المؤثرات في الشخصية، ولكنها ليست بالطبع كل المؤثرات.
اعتبر شابا فجا خاما، واعتبره أيضا رجلا في الخمسين قد نضجت أخلاقه وأينعت شخصيته، وقارن بين الاثنين، تجد الأول لا يزال في التعميم، فهو «أحد الشبان»، أما الثاني فقد تخصص، وله مغزى، وهو يرمز إلى أشياء عدة لها قيمتها الاجتماعية أو الثقافية.
وهذه الرمزية، وهذا المغزى، هما ثمرة الحياة الحيوية، الحياة الفنية التي قضيناها ونحن نقصد إلى غاية ونتبع نهجا ونكسب الاختبارات وننمو بها، وهي جميعا تصهرنا، وتحيل التبر الخام إلى الذهب الخالص.
الفصل الحادي والثلاثون
الاهتمامات تمنع الغوايات
الاهتمامات تمنع الغوايات؛ لأن الشاب الذي يهتم بالأدب أو السياسة، أو الذي ينعم بهواية تشغل ذهنه وتملأ فراغه، لا يستطيع أن يفكر في الغوايات التي يقع فيها غيره الذي يجد في بطالته سأما يبعثه على التخلص منه بالعادات السيئة.
ذلك أنه ليس شيء أسوأ من البطالة: بطالة الجسم التي تؤدي إلى الترهل، وبطالة الذهن التي تؤدي إلى اسأم، وكثيرا ما أتأمل إحدى سيداتنا حين تنغمس في القيل والقال، وتجرح بلسانها إحدى السيدات أو الآنسات، فأجد في النهاية أن الذي أوقعها في هذه العادة بطالتها وسأمها، ولو أنها كانت تشغل فراغها بهواية ما، كالقراءة أو التطريز أو نحو ذلك، لما وقعت في القيل والقال.
وأحيانا أجد شابا لم يبلغ الخامسة والعشرين، وهو مع ذلك يدخن ويسرف في شرب القهوة أو الشاي، لا لشيء إلا لأنه قد سئم حياته الفارغة، ولم يعرف بم يهتم.
وقد بلغت أنا السبعين ولم أعرف التدخين، ولا أكاد أعرف سببا لذلك إلا أني اهتممت بالقراءة منذ المراهقة، فصارت هوايتي التي تشغل فراغي.
وفي هذه الدنيا آلاف الأشياء التي يجب أن يهتم بها الشاب، بل يستطيع أن يجد فيها هوايته التي تملك قلبه وعقله، والتي تهيئه بمهارة تجلب له الاحترام من أقرانه وتنيله السعادة، وتحول بينه وبين العادات السيئة.
علينا جميعا أن نشتغل كي نملأ فراغنا، ونكسب عيشنا، ولكنا حتى إذا لم نكسب عيشنا فإننا يجب أيضا أن نشتغل حتى لا تترهل أجسامنا وعقولنا، وحتى لا ننحدر إلى الغوايات المؤذية.
وخير لسيدة البيت التي يتوافر لها الخدم أن تؤدي بنفسها بعض الواجبات المنزلية، من مسح وغسل حتى لا يترهل جسمها بتراكم الشحم، فإني كثيرا ما أجد أن قوام الخادمة أجمل من قوام سيدتها؛ لأن الأولى كانت تعمل وتجهد، فلم تترهل، في حين أن الثانية قد قنعت ببطالتها والتزمت القعود والركود فسمنت وترهلت.
ثم يجب أن تشغل عقلها بالمفيد من القراءة بدلا من التفكير العقيم والتسلية بالقيل والقال.
الفصل الثاني والثلاثون
الموت إكليل الحياة
كان جورج هربرت يقول: «يجب أن نعيش كما نحب أن نموت».
وذلك أن أيام الموت التي تطول أو تقصر هي أيام التأمل والمراجعة، فإن كلا منا يقلب صفحات حياته الماضية فيقف عند الصفحة المضيئة بالشرف والشهامة، وهو فرح بما أنجز من عمل، راض عما أتم من خير، كما يقف عند الصفحة القاتمة وهو ساخط نادم، حين لا يجدي سخط أو ندم، وساعة الموت هي الساعة التي يحكم فيها الناس لنا أو علينا، فكأننا نسمع من وراء الغيب كلمة الثناء أو كلمات اللعنة.
والموت هو بهذا المعنى «إكليل الحياة»، فإذا عشنا ونحن نحسب للموت فإننا نعيش ولنا آمال من الشرف وأهداف من المجد، فنسير سيرة الصلاح بين الناس، وسيرة الشهامة التي تربأ بنا عن الدنس والخسة، فلا نرضى بأن نعيش تلك الحياة التافهة، حياة الزبد الذي يذهب جفاء ولا يمكث في الأرض بعد وفاتنا.
إننا نعيش سبعين أو ثمانين سنة على الأرض، ولنا ساعة أخيرة يقال لنا فيها: أحسنتم أو أخطأتم، بل نحن نقول هذه الكلمة؛ لأنفسنا، ونحن نجيب عليها في فرح وغبطة، أو في حزن وأسى، فيجب أن نعيش حياتنا بحيث نجيب في هذه الساعة الأخيرة إجابة الفرح والغبطة.
وإنما نفرح ونغتبط إذا كنا قد بنينا شخصيتنا، وأنتجنا للمجتمع الذي عشنا فيه أكثر مما استهلكنا منه، إنتاج المال أو الثقافة أو الأخلاق، ثم سرنا السيرة الصالحة التي اقتدى بها غيرنا فصلح، ووقفنا مواقف الشهامة أمام الأنذال والظالمين، ونصبنا؛ لأنفسنا أهدافا من المجد والشرف، إذا لم نكن قد بلغناها فلا أقل من أننا قد جهدنا لبلوغها.
لمثل هذا يجب أن نعيش ويجب أن نموت ... نعيش حياة كأنها قصيدة مليئة بالمعاني، حافلة بالبلاغة نترنم بأبياتها ساعة الموت.
الفصل الثالث والثلاثون
الضمير الاجتماعي
من التعابير المألوفة أن يقول أحدنا : إنه ليس لهذا الرجل ضمير، وإنه بذلك لا يبالي أن يقترف أية جريمة، ولكن الصحيح أن لكل منا مهما بلغ فساد ضميره، ضميرا، حتى المجرم له ضمير شخصي؛ أي: أنه يقتصر على مصالح شخصه، ولكن الضمير العام بين الناس هو الضمير العائلي؛ إذ إننا جميعا نتجاوز مصالحنا الشخصية إلى مصالح زوجاتنا وأولادنا وإخوتنا.
وليس لنا فضل في هذا الضمير العائلي؛ لأننا ننتظر من أعضاء عائلتنا مثله، أو نحن نستمتع بما يشبه الاقتناء والامتلاك حين نرعى مصالح أبنائنا وبناتنا وزوجاتنا.
وقليل منا من يمتازون بالضمير الاجتماعي، أولئك الذين يفكرون في الأغراب والبعداء ممن لا تربطنا بهم قرابة أو صداقة، وهذا الضمير يحتاج إلى تربية وثقافة، ولذلك نراه على يقظة وحيوية في الأمم المتمدنة، وعلى سبات وتخدر في الأمم التي رزحت قرونا تحت الطغيان والاستبداد، وعاشت قرونا في الفاقة والذلة حتى صار هم كل فرد أن يقول: أنا وحدي أو على الأكثر أنا وأولادي.
وقد أثمر الضمير الاجتماعي في أوروبا إصلاحات سامية؛ مثل: منح المسنين الذين يبلغون الستين معاشات، ومثل: منح المتعطلين أجورا وقت تعطلهم، ومثل: منح الحوامل أجورا وهن مرتاحات بالبيت نحو شهر قبل الوضع وشهر بعده، ومثل تعويض المعتوهين من عاهاتهم، ومثل: التعليم بجميع مراحله بالمجان، ومثل: المعالجة المجانية بالمستشفيات؛ هذا هو بعض مظاهر الضمير الاجتماعي في أوروبا.
الفصل الرابع والثلاثون
حرية العقيدة
كانت الحكومات الأوروبية في القرون الوسطى تقيد التفكير وتمنع حرية الرأي أو العقيدة، بل كانت أحيانا تعاقب المخالفين الذين يصرحون أو يلمحون بآرائهم أو عقائدهم، وكانت تحرق الكتب التي كانت تزعم أنها تخالف العقائد العامة.
ولكن أوروبا انتهت إلى حرية الرأي والعقيدة، بل إن معظم حكوماتها قد فصل الدين عن الدولة؛ حتى لا يتحيز ساستها لإحدى العقائد.
وقد أخذت بعض الأمم الشرقية بهذا النظام وجعلت الرأي مباحا والعقيدة حرة، كما فصلت الدين عن الدولة، ففتحت الطريق لأبنائها إلى المستقبل.
وربما كانت الهند أعظم هذه الدول الشرقية في الإكبار من حرية العقل في العصر الحديث؛ إذ إن دستورها الجديد ينص على عقوبة من يؤمن بالنجاسة أو يمنع المنبوذين من الدخول في المطاعم أو المدارس أو المسارح.
ولكن حرية العقل لا تحتاج إلى نصوص القوانين التي تصدرها الدولة فقط؛ ذلك لأننا جميعا نرث من التقاليد الفكرية والمركبات العقيدية ما يشبه العقد النفسية التي تحول بيننا وبين النظر الحر والتفكير السليم، فإذا لم نتنبه إلى هذه العوائق وننفضها من عقولنا فإنها ترسخ في نفوسنا، وتقفل أبوابا من التفكير الحر كنا نستطيع أن نفتحها، ونتطلع منها إلى آفاق جديدة في الابتكار والتغيير والتطور، وأيضا في زيادة الروابط للأخاء البشري، وهو الإخاء الذي تفصمه، مع الأسف، العقائد والأديان.
ولذلك مع أن حكومة الهند قد كفلت حرية الرأي والعقيدة لرعاياها، فإن الملايين من الهنود لا يزالون مقيدين بالعقائد الموروثة التي تحبس عقولهم وضمائرهم في سياج.
وكلنا مثل هؤلاء الهنود إلى حد ما، وقد ورثنا عادات ذهنية وعقائد خرافية تتصل بالمجتمع أو الغيبيات، وهي بمثابة الجدران الكثيفة التي تمنعنا من التفكير الحر.
ولذلك يجب أن نفحص عن أنفسنا ونتخلص من هذه القيود الموروثة.
الفصل الخامس والثلاثون
الدين للتوفيق لا للتفريق
ننشأ على تراث من التقاليد والاستعراضات التي تحملنا على أن نكره غيرنا ممن يخالفوننا في الدين أو المذهب أو اللون، أو حتى أحيانا في اللباس، ونتعلم ونحن في الطفولة أو الصبا كلمات شوهاء، ليست للخير أو الصلاح، ولكنها للشر والفساد، فينبز أحدنا بها الآخر؛ لأنه يختلف عنه في هذه الأشياء التي ذكرنا، وقد بلغ هذا الاختلاف ذروته في الهند حين انقسمت الهندوكية طبقات لا يتزوج أحد فيهما إلا من طبقته، بل بلغ التعصب والاستعراض أن فرزت هناك طبقة سميت طبقة «الأنجاس أو المنبوذين» لا يجوز أن يمس أحد أفرادها أو أن يقع ظله على شيء؛ لأن نجاسته تنتقل إليه.
وقد كان هذا التعصب الطبقي في الهند صداع المصلحين، حتى إن «طاغور» الأديب الهندي الكبير قال ذات مرة: إنه يود لو أن زلزالا يهدم جميع المعابد ويحطم جميع الآلهة الهندية حتى ينسى الهندوكيون ديانتهم التي فرقت بينهم؛ فيعودوا إلى ديانة جديدة تعمل للتوفيق لا للتفريق.
والمتأمل لحال فلسطين هذه الأيام يحس كأن الأديان قد جاءت للتفريق لا للتوفيق؛ لأن فلسطين قد «تهندت» بفضل الاستعمار الإنجليزي.
إن لكل أمة تقاليدها الحسنة، ولكن لها أيضا تقاليدها السيئة في التعصب والاستعراض، والعالم في حاجة إلى دعاية بشرية جديدة؛ كي يعرف سكان هذا الكوكب أنهم بشر قبل أن يكونوا هندوكيين أو منبوذين أو مسيحيين أو مسلمين أو يهودا أو زنوجا أو بيضا، وأنهم يستوون في الحقوق.
لقد كان غاندي يكافح عدوين: العدو الأول هو تقاليد بلاده التي حرمت على المنبوذين الحقوق البشرية، ولذلك فتح لهم المعابد، ثم جاء «نهرو» فعين واحدا منهم وزيرا، أما العدو الثاني فهو بالطبع هؤلاء المستعمرون الإنجليز.
وعلى كل شاب أن يتخلص من هذه الاستعراضات، وأن يعرف ويعلن أن وطنه ليس فوق الأوطان، وأن البشر سواء مهما اختلفوا في الدين أو المذهب أو اللون أو اللغة، وأن الإخاء هو ديانتهم الأولى.
الفصل السادس والثلاثون
الحب دين العالم
من أغرب الظواهر الاجتماعية في تاريخ البشر أن الأديان جميعها دعت إلى الخير والبر والإخاء والحب، ولكن البشر لم يعرفوا مع ذلك من الحقد والغضب ومن القتال والانتقام، مثلما عرفوا من الفوارق الدينية، فإن تاريخ أوروبا حافل بالحروب الدينية التي فتكت بالرجال والنساء والأطفال ودمرت البيوت وحطمت الدول، وكذلك الحال في الشرق حتى ليقف القارئ لتاريخ هذه الحروب والخلافات المذهبية الدموية متسائلا: كيف انقلبت دعوة الحب التي تدعوها جميع الأديان إلى دعوة الحقد التي تصطبغ بالدماء؟
ليس شك في أنها انقلبت هذا الانقلاب المشئوم؛ لأن الأديان قد أسيء فهمها حتى صار المؤمن بأحدها يعتقد أن له حق الامتياز على غيره من الذين لم يؤمنوا إيمانه، ولم ينطقوا بدعائه ولم يسجدوا بصلاته.
ولكن مع هذا الفهم السيئ الذي يتفشى بين كثير من الناس نجد أفرادا لهم عقول كالمصابيح، قد استضاءت وأضاءت.
قال الفيلسوف الأندلسي محيي الدين بن عربي:
قد كنت اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
فقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان، وكعبة طائف،
وألواح توراة، ومصحف قرآن
أدين بدين الحب، أنى توجهت
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
ولو أن جميع الأمم فهمت ما فهمه ابن عربي من الدين، ومارست الحب في معاملة كل فرد للآخر، وعملت بما يقتضيه هذا الحب من العدالة والمساواة والشرف، لما انتهى الدين إلى أداة أو وسيلة للكراهية والحقد والقتال.
ولذلك فإن هذه الأبيات التي نطق بها ابن عربي جديرة بأن يعيها كل شاب في قلبه، وأن يجعلها هدفا لتربيته القومية والبشرية، وفي العالم الآن نحو 2600 مليون إنسان: منهم ألف مليون بوذي، و700 مليون مسيحي و400 مليون مسلم و350 مليون هندوكي، وهم لن يستطيعوا أن يعيشوا في سلام وحب إلا إذا استرشدوا بأولئك المفكرين الذين تجلى لهم الحق؛ مثل: ابن عربي وغيره.
الفصل السابع والثلاثون
اختيار الزوجة
مهما تعددت الغايات التي نهدف إليها في حياتنا فإنه لا شك في أن أولى هذه الغايات أن نحيا ونستمتع بما في هذه الدنيا من متع ذهنية أو عاطفية، وليس معنى هذا الاستمتاع أن نسترسل في الملذات الحيوانية الوضيعة، ولكن معناه أن نسعد بأطيب ما في الدنيا من نعم الوجود.
وأطيب هذه النعم هو الزواج الحسن؛ لأن الزواج هو أدوم مسراتنا؛ إذ هو يحسب بعشرات السنين، ولذلك يجب أن نعنى أكبر العناية ونتأنق أكبر التأنق في اختيار الزوجة التي قد نعيش معها أربعين أو خمسين سنة في معاشرة يومية واتصال حميم، يجب أن نختار الزوجة بحيث تكون صفات الجمال فيها على أوفرها: جسم جميل، وعقل ذكي، والذكاء هو جمال العقل، ويجب ألا ننخدع بالقيم الاجتماعية التي يحيطنا بها المجتمع الاقتنائي الذي نعيش فيه، فإن هذا المجتمع يكبر من شأن المال ويخيفنا، بل يرعبنا، من الفاقة والحرمان بحيث ننحرف إلى الناحية الأخرى انحراف الجنون، فنضحي بكل شيء تقريبا من أجل المال، ونختار الزوجة الثرية بحيث نتغاضى عن جمال جسمها وجمال عقلها، ثم نعقب منها أولادا دميمين ينقصهم جمال الجسم وجمال العقل، وعندئذ قد ننجح في المجتمع ولكننا نخفق في الحياة.
والحياة أكبر من المجتمع، وهي الخالدة وهو الزائل، وذلك الشاب الذي يختار الفتاة لثرائها لا يخون نفسه فقط بل يخون البشرية نفسها، يخون مستقبل الإنسان.
يجب على كل شاب حين يرى فتاة ويفكر في خطبتها أن يسأل: كيف يكون أبنائي منها؟ هل يكونون مصابيح تتلألأ بالصحة والجمال والذكاء أم يكونون غير ذلك؛ لأني آثرت المال والاقتناء على هذه الميزات؟
إن قيم الحياة أسمى وأدوم من قيم المجتمع، ويجب أن نتزوج كي نسمو بالحياة، حتى يكون أبناؤنا أجمل منا وأذكى.
الفصل الثامن والثلاثون
الزواج السعيد
يعد الزواج من أعظم المشكلات التي يواجهها الشاب، فهو يقلق ويأرق كثيرا قبل الزواج بشأن الفتاة التي يختارها كي تشاركه في حياته وتكون أم أولاده، وكذلك الشأن في الفتاة عندما تفكر في مستقبلها وحياتها الزوجية.
والشاب والفتاة كلاهما يجد أنه حائر لا يعرف كيف يقيس سعادته المستقبلة، وكيف يتعرف أماراتها وبشائرها في أخلاق هذا الشريك المنتظر؟ وقد حاول الأستاذ تيرمان أن يستقرئ السعادة الزوجية بإحصاء عن المتزوجين، مع الرجوع إلى طراز الحياة التي كان يحياها الأزواج قبل الزواج، وقد خرج بنتائج منيرة يجدر بكل شاب وفتاة أن يدرسوها أيام الخطبة، وهو يرى أن السعادة الزوجية مرجحة كثيرا إذا كانت الأحوال السائدة للشاب أو الفتاة قبل الزواج كما يلي: (1)
أن يكون الأبوان، للشاب والفتاة، قد عاشا في سعادة ووفاق. (2)
أن يكون الشاب والفتاة قد عاشا في طفولة سعيدة. (3)
ألا يكون قد اصطدم الشاب أو الفتاة بأبويهما. (4)
أن يكون البيت الذي عاش فيه كل منهما على نظام في تأدية الواجبات والحقوق، ولكن بلا قسوة. (5)
أن يكون كل منهما قد تعلق بأبويه وأحبهما. (6)
أن يكون الأبوان قد صارحا الشاب أو الفتاة مدة الطفولة عن الشئون الجنسية. (7)
أن تكون العقوبات التي أنزلت بكل منهما خفيفة في وقتها قليلة في حدوثها. (8)
أن يكون اتجاهما نحو الشئون الجنسية سويا ليس فيه كراهة أو اشمئزاز. •••
هذه هي الشروط الثمانية التي وجد تيرمان بالاستقراء أنها تتوافر في جميع الذين هنئوا بالزواج، وخلاصتها عندما نتأملها جميعها أن الشاب والفتاة يسعدان إذا كانا قد عاشا قبل الزواج في عائلة حسنة، قد وجدا فيها الحب بين أبويهما والحب لهما، في بيت قد خلا من القسوة والمشاجرة، وذلك لأن هذا الوسط يبعث الطمأنينة في نفس الطفل أو الطفلة، فإذا شب كلاهما نظر إلى الدنيا نظرة التفاؤل والجرأة وليس نظرة التشاؤم والخوف، ثم هما قد تعودا المسالمة ومعالجة الصعوبات بالوفاق والتعاون في بيت الأبوة، وهذا الأسلوب ينتقل معهما إلى بيت الزوجية فلا يكون شقاق أو خلاف.
ونحن نعيش حياتنا وفق الأسلوب الذي تعلمناه من أبوينا مدة الطفولة، ولكن القدوة هنا أهم من التعليم؛ لأن الطفل الذي يرى أبويه في شجار تزول عنه الطمأنينة، فينشأ وهو يخاف الزواج، ويعامل زوجته بالتوجس كما يخاف كل شيء آخر.
فالسعادة الزوجية عادة، أو بالأحرى عادات، في المعيشة نتعلمها في الطفولة من أبوينا، ولكن يجب ألا يرعبنا هذا، إذا كان حظنا قد ساء وقضى بأن نعيش ونحن أطفال في عائلة يعمها الشقاق؛ لأننا نستطيع بالتعقل الوجداني أن نغير الأسلوب الذي تعلمناه من أبوينا، وإن كان هذا التغيير شاقا؛ أي: عندما نجد أن حياتنا الزوجية في شقاق دائم يجب أن نسأل: هل هذا الشقاق يعود إلى أسلوب في المعاملة وعادات في المعيشة تعلمناها من أبوينا اللذين لم يسعدا بزواجهما؟
وإذا صح هذا لدينا فإننا جديرون بأن نصحح من أسلوبنا وعاداتنا بما يتفق وسعادتنا.
الفصل التاسع والثلاثون
سعادة الزواج بالتعاون الحبي
عندنا نقرأ قصة، أو نشاهد أحد الأفلام السينمائية، نجد أن المؤلف يبدأ بجهاد عاشقين مع ما يتخلله من غدر أو شهامة، ومن آلام أو ملذات، حتى ينتهي آخر الكتاب أو آخر الفيلم بالنهاية السعيدة وهي الزواج.
وهذا وضع سيئ؛ لأن الزواج يجب أن يكون بداية وليس نهاية، حتى يفهم كل من الشبان والفتيات أنهم عندما يتزوجون سيجدون دنيا جديدة من الصداقة والتعاون، وتربية الأبناء، والاشتراك في الهدف، والمعاشرة الجميلة التي قد تبلغ خمسين سنة، ومثل هذه السنين هي التي تحقق السعادة والخير للزوجين وأولادهما، وهي الجديرة بأن تؤلف عنها الكتب حتى يهتدي بها المتزوجون.
وأسوأ شيء يضر بالحياة الزوجية أن تفهم الفتاة، أو يفهم الشاب، أنه قد «وصل» بالزواج؛ لأن هذا الفهم يجعله يهمل ويتهاون، فلا يبالي تربية نفسه أو زوجته.
ولا يبالي أن يراعي تلك الحقوق والواجبات التي تصون الزواج من العبث والمجانة والاستهتار.
وإني أود أن أجد مؤلفا قصصيا يشرح في كتاب، أو في فيلم، حياة زوجين مدى أربعين أو خمسين سنة كيف بدأ زواجهما، ثم كيف نمت العائلة في الثقافة والوجاهة والخدمة والكفاح للخير البشري؛ لأن مثل هذه القصة أو هذا الفيلم يرشد الحياة إلى السعادة الزوجية التي كثيرا ما تتحطم للجهل بأساليبها وأهدافها.
الفصل الأربعون
تزوج أما لأولادك
الحكمة في الزواج أن نتزوج بتلك الفتاة التي نعرف أننا نستطيع أن نعيش معها أربعين أو خمسين سنة، ولن نستطيع ذلك إلا إذا كانت على مستوانا الثقافي، أو لم تكن بعيدة عنه بحيث ينتفي بيننا التفاهم ويعود البيت وهو مثار للمشاكل التي لا تنقطع، ولهذا يجب أن نتزوج الفتاة المتعلمة.
والحكمة في الزواج أن نتزوج تلك الفتاة التي نعتقد أنها جديرة بأن تكون أما لأولادنا، ولا نعني هنا أن تكون قادرة على تربيتهم فقط، بل نعني أن تكون حائزة على الصفات الوراثية الممتازة التي سوف يمتاز بها أبناؤها، ولذلك يجب أن نختار الفتاة الذكية الجميلة التي تتسم بصحة العقل وسلامة الجسم.
والحكمة في الزواج أيضا أن تؤثر الحب على الشهوة، وكي نميز بين الاثنين يجب أن نفهم أن الشهوة هي ثمرة اللحظة القائمة والإعجاب في الوقت الحاضر.
ولكن الحب هو ثمرة العقل والتفكير في المستقبل، والشهوة في صميمها عدوانية، وهي أقرب إلى إحساس الجوع منها إلى إحساس الرفق والبر، ولكن الحب حناني تعاوني، كله رفق وبر، فالشهوة تأخذ وتنهب وتخطف، والحب يعطي ويمنح ويسخو.
والحكمة في الزواج ألا نسأل: هل أحب هذه الفتاة الآن؟ بل يجب أن نسأل: هل أستطيع أن أحب هذه الفتاة بعد عشر سنوات أو عشرين سنة.
إننا نتزوج كي نعيش العيش الطيب، وكي ننسل النسل السليم، فيجب أن يكون نظرنا بعيدا بصيرا، ويجب أن نختار الفتاة التي نسعد بأن نعيش معها نصف قرن وأن نفرح بأبنائها ونعدهم كسبا، ليس لنا فقط بل للمجتمع كله، لما سوف يكون فيهم من ذكاء وجمال وأخلاق.
الفصل الحادي والأربعون
متى يحسن أن يقع الطلاق
من الكلمات التي تؤثر فتذكر؛ لأنها تدل وتنير، كلمة قالها كاتب إنجليزي هي: إن خير الأوقات للطلاق هو وقت الخطبة، والمعنى واضح، وهو أن الفتيات والشبان يجب ألا يتزوجوا إلا بعد أن يختبر كل منهم الآخر في أيام الخطبة، حتى إذا وجدوا أن هناك خلافات أصيلة تحول دون الوفاق الزوجي، قطعوا هذه الخطبة، وعمد كل منهم إلى البحث عن نصفه الآخر في تعقل وتبصر.
ولذلك يجب أن تطول مدة الخطبة حتى تتسع الفرصة للتعارف الصحيح بين الخطيبين، وحتى ينكشف المستور من أخلاقهما، وصحيح أن الخطيبين يبديان أحسن ما عندهما من أخلاق قبل الزواج، ولكن إذا طالت المدة وزادت الألفة فإن الحقائق تتضح، فإما وفاق فزواج، وإما خلاف فطلاق.
وهو طلاق بالاسم؛ إذ ليست هناك تبعات من أطفال أو غير ذلك.
وإذا جاء ميعاد الزواج بعد خطبة طويلة قد بلغت عاما أو أكثر، فإن هذا الزواج الذي يبنى على النور والمعرفة يدوم؛ لأنه لم يجئ مطارئا، ولم يكن ثمرة الطلاء السطحي والهوى الوقتي.
إن أسوأ ما ينكب به إنسان هو الطلاق؛ لأن النكبة هنا تشمل المسيء والمحسن من الزوجين، وتشمل الأطفال، وهؤلاء الأطفال «المطلقون» لا يختلفون عن اليتامى إلا في إحساسهم الدائم بأنهم قد ظلموا، ولم يستمتعوا بحب الوالدين، ولو أن مدة الخطبة كانت طويلة، والاختلاط بين الخطيبين كان كبيرا، لقل الطلاق بين الأزواج إلى حد الندرة والعدم.
وعلى كل شاب أن يتوقى الطلاق وقت زواجه بألا يتزوج إلا بعد أن تطول الخطبة، وبعد أن يعرف أخلاق خطيبته المعرفة الصحيحة.
الفصل الثاني والأربعون
نفس فنية
قعدت ذات مرة مصادفة، وأنا على الباخرة في عرض البحر المتوسط، إلى جانب سيدة كانت مسافرة إلى إنجلترا قادمة من أستراليا، وتحدثنا كثيرا عن السياسة، ولكنها لم تكن تفهم السياسة على أنها التنظيم في العلاقات بين الدول، وإنما هي تلك المجموعة العصرية من الإصلاحات الاجتماعية التي أحالت بعض الحكومات في أوروبا إلى جمعيات خيرية، فالسياسة هي منح طقوم الأسنان والسماعات للدرد والصم، وهي المعالجة بالمجان، وهي منح هذه المعاشات للعميان إذا بلغوا الأربعين، وهي منح الإعانات السخية للحامل قبل وضعها وبعد الوضع بشهر، وهي التعليم في المدارس الثانوية بالمجان، وهي بناء المنازل بمئات الألوف ... إلخ.
وكانت تقارن بين تأخر أستراليا وتقدم بريطانيا في هذه الإصلاحات، ثم بعد ذلك أفاضت في مدح الإنجليز وذم الأستراليين، ثم فاجأتني بسؤال: هل عندكم زهور؟
فلما أجبت بنعم، شرعت تسأل وتستوضح عن كل زهرة تنبتها بلادنا، وذكرت لها نحو عشرين زهرة بأسمائها الإنجليزية، واستوقفتني كثيرا وأنا أصف لها زهرة الأفيون، وزهرة الفتنة، فإنها لم ترهما من قبل.
ثم تحدثت إلي عن الورد، وذكرت لي بيتا لإحدى الشاعرات الأمريكيات تقول فيه: «الوردة هي الوردة هي الوردة هي الوردة».
وذكرت لها بعض الأبيات الفلسفية من رباعيات الخيام عن الورد.
وأخيرا ذكرت لها أن عندنا أديبة فرنسية تقيم في حلوان، وأنها مغرمة مثلها بالزهور، وتختص الورد بأكبر غرامها، وأنها تحتفل بموت الورد فتجمعه حين يذبل وتحمله إلى زاوية في الحديقة وتدفنه؛ إذ هي لا ترضى لهذه الزهرة السامية أن تهان وتلقى على الأرض وتدوسها الأقدام.
وأعجبتها قصة هذه السيدة، وندمت على أن عمرها الماضي قد فات دون أن تتنبه إلى هذا الواجب في رثاء الورد ودفنه ... ووعدت بأن تقوم بهذا الواجب في المستقبل.
واستغرق الحديث بيننا عن الورد نحو ساعة، قمت بعدها إلى قمرتي وشرعت أتأمل هذه النفس الفنية التي تشتغل بالورد، وتتحدث عنه كما لو كان الاهتمام الأكبر في الحياة، وقلت، وكأني أعلق على حديثنا: إن هذا الاهتمام بالورد إنما هو بعض الاهتمام بالجمال، وإني لواثق أن هذه السيدة لا تستطيع أن تتناول غذاءها إلا إذا كانت طاقة الورد تزين مائدتها، ولا تستطيع أن تؤدي عملا إلا إذا كانت تهدف منه إلى مأرب فني، فهي تتوخى الجمال في تزيين وجهها وهندامها وفي لغتها وإيماءتها، بل في حياتها كلها.
إنها تحيا الحياة الفنية؛ أي: الحياة النافعة؛ لأن كل نافع جميل ... وليس عندنا من امتحان نعرف به النافع من الضار سوى الجمال، وما ليس نافعا ليس جميلا، والتمييز بين الحال والنفع هو تمييز يدل على جهل، قد أورثناه هذا الجري، هذه الهرولة، وراء الاقتناء والادخار، ونحن في هذا الاقتناء والادخار لا نختلف من حشرة الجعل التي تدخر روث البهائم.
الفصل الثالث والأربعون
النفاسة في النفس
العصامية من الكلمات التي تبعث في الذهن معنى النجاح، فالعصامي هو الناجح، ولكن كثيرا ما يشتبه علينا معنى النجاح فنعتقد أنه الثراء.
فالحرب الكبرى الأولى، ثم الحرب الكبرى الثانية، كلتاهما قد علمتنا أن النجاح المالي ليس هو ما تنشده النفس النفيسة، وليس هو ما تطلبه الحياة العالية، فقد نجح في هاتين الحربين مئات، نشئوا في الفاقة، وجمعوا المال، وصاروا من الأثرياء، وكانوا في كل ذلك عصاميين، يتباهون بأنهم لم يرثوا، بل لم يتعلموا.
ولكن دلنا الاحتكاك بهم على أن عصاميتهم هذه، وبلوغهم هذا الثراء العظيم، لم يحققا لهم نجاحا؛ إذ بقوا في جهلهم السابق وعاداتهم الوضيعة، والتزامهم للخرافات في العيش والعقيدة، فكانوا من حيث المادة في ثراء ومن حيث الروح في الصحراء.
إنما النجاح هو قبل كل شيء نجاح الشخصية؛ أي: يجب أن ترتقي النفس بالتدريب الثقافي، بل بالتدريب الفلسفي، وأن نتعود العادات الرفيعة التي تجعلنا نحس الإحساسات الإنسانية أكثر مما نحس الإحساسات الحيوانية، وأن نفهم أن النفاسة في النفس قبل أن تكون في المال أو سائر الممتلكات.
والسبيل إلى أن نحصل على نفس نفيسة شاق متعب، ولكنه يؤدي في النهاية إلى أعظم المكافآت، وأية مكافأة أفضل من أن نجد في سني الشيخوخة أننا قد وصلنا إلى بصيرة فلسفية لهذا الكون، وإلى إحساس فني للحياة، وإلى آفاق اجتماعية وبشرية تحملنا جميعها على زيادة الفهم والوجدان؟
كان «ه. ج. ولز» الكاتب الإنجليزي، حين يشرع في كتابة إحدى قصصه يعمد إلى الفصل الأخير فيكتبه أولا، وذلك كي لا ينحرف، فيختلط عليه موضوع القصة ويتشتت، وحياة كل فرد منا هي قصة يجب أن يعين من الآن فصلها الأخير، ثم يسدد نحوه مجهوداته حتى لا ينحرف بنشاط فرعي، وهذا الفصل الأخير هو شخصيتنا، شخصية فذة تحوي عقلا يحس وقلبا يفكر؛ أي: يجمع بين الفهم العلمي الدقيق والإحساس الفني الأنيق، شخصية الجمال النفسي.
الفصل الرابع والأربعون
سيطرة النفس على الجسم
ذكرت إحدى المجلات حادثا فذا يدل على قوة النفس في السيطرة على الجسم، ذلك أن إحدى المريضات في مستشفى للأمراض النفسية دخلت هذا المستشفى وهي في السادسة عشرة من عمرها، وبقيت به إلى أن بلغت الخامسة والستين، ولكن من كان ينظر إليها كان يحسب أنها فتاة لا تزال في العشرين، لم يتجمد وجهها، ولم ينحن ظهرها، ولم يترهل لها بطن.
وكان أعظم سمة يتسم به مرضها هو اعتقادها أنها آنسة جميلة لا تزال في الشباب، وتغلغل هذا الاعتقاد في نفسها حتى صار عاطفة يتجه بها الجسم، وتعمل بها وظائفه، وكانت النتيجة أن جعل هذا الإيحاء جسمها في صحة الشباب.
ونحن نعبس بإيحاءات تصور لنا أنفسنا في صور مختلفة، وبعض هذه الإيحاءات سلبي، حين يتوهم أحدنا أنه مظلوم أو مريض أو سيئ الحظ، أو عاجز عن التخلص من عادة سيئة أو حين يأسف على الماضي أو يحزن على فرصة فاتته فيتوتر جسمه ونفسه، وهذا الإيحاء السلبي يعين لنا صورة أو خيالا حافلا بالتعس والانحطاط تنتهي إلى إيذاء الجسم والنفس معا، ونبلغ الشيخوخة ونحن في الأربعين، وتتسلط علينا الأمراض الوهمية التي تعود حقيقة بقوة العاطفة.
ولكن هناك إيحاءات إيجابية توحي الصحة والطمأنينة والابتهاج، تغلغل عواطف في نفوسنا فنعيش كتلك الفتاة في طرب الابتهاج ونشوة الفوز، وقد لا نبلغ ما بلغته؛ لأن الجنون قد أقام بينها وبين الواقع سدا كثيفا فاستسلمت لخيالها، ولكن إذا نحن لم نبلغ ما بلغته فإننا على الأقل نستطيع بالإيحاء أن نجعل خيالاتنا عن أنفسنا حسنة، فنوحي أحسن الإيحاءات التي تتسلط على جسمنا وتوجهه التوجه السديد.
لقد دلت الإحصاءات في إنجلترا على أن هناك علاقة بين التعمير وبين الحرفة، وأعظم المعمرين في إنجلترا هم القسيسون، وذلك للطمأنينة التي يكتسبونها من العقيدة.
ونحن في ظروفنا الحاضرة نعمل بأعصابنا أكثر مما نعمل بعضلاتنا، حتى لقد قيل: إننا نسير مهمومين ونتحدث محمومين ونناقش غاضبين، ولذلك ينهار الجسم أمام أعباء النفس.
الفصل الخامس والأربعون
الحياء والخجل
الحياء من الفضائل الأنيقة السامية التي لا نعرف قيمتها إلا حين نفتقدها، ولا نجدها في أولئك الواغلين والوقحين والصاخبين والمستهترين، الذين يؤذوننا بوجودهم، ويخنقون جونا بأصواتهم وحركاتهم، الذين إذا ضحكوا قهقهوا، وإذا مرحوا أسرفوا وعربدوا.
ويجب لذلك أن يكون كل منا على شيء كبير من الحياء الذي يجعلنا نتحفظ في حديثنا، ونتصون في سلوكنا، فلا نفتات على الحقوق الصغيرة التي يتمتع بها غيرنا، ولا نتجرأ على التماس الألفة في غير موضعها.
ولكن هذا الحياء يستحيل إلى رذيلة، حين يكون خجلا ملازما، يجعلنا على الدوام محجمين عن التعرف والحديث، نعتزل المجتمع بالصمت، حتى حين نكون بين أعضائه، ونكره الزيارة والاختلاط مع ما فيها من أنسة ورقي اجتماعيين.
وكم من شاب فاتته الفرص العظيمة؛ لأنه كان خجولا لا ينطق ولا يتقدم إلا في مشقة وتكلف.
بل هناك من الشبان من يأسف على فرصة ذهبية ضاعت منه؛ لأن الفتاة التي طلب يدها وجدته خجلا جامدا فنفرت منه، أو لأن الرئيس الذي كان يزمع استخدامه قد وجده يرتبك ويتلعثم لفرط الخجل فرفض استخدامه.
والخجل يعد لذلك من أعظم أمراض الشخصية، ويجب على كل شاب أن يكافحه ويتخلص منه، بل كذلك يجب على كل فتاة؛ لأن الخجل يجمد شخصيتها فلا تعرف كيف تتلطف وتتظرف، وكثيرا ما يحتبس اللسان لفرط الخجل، وقد يرتعش الشاب أو الفتاة الخجولان ويتصبب العرق منهما، وهذه حال تحتاج إلى العلاج بالمرانة على الحديث، بل بالمرانة على الخطابة في المجتمعات الصغيرة في الأندية مثلا، وبعيد جدا أن يخجل شاب أو فتاة قد تعود الخطابة، ولذلك تعد الخطابة من أنجع الوسائل لتكوين الشخصية.
الفصل السادس والأربعون
كيف نقوي إرادتنا؟
كثيرا ما يسألني بعض الشبان عن السبيل إلى تقوية الإرادة؛ لأن إرادتهم كما يزعمون ضعيفة، وأن ضعفها يؤخرهم.
ولكن الواقع أنه ليس هناك إرادة مطلقة؛ لأننا إنما نريد شيئا معينا، كأن نطلب الثراء أو الوجاهة أو النجاح في الأدب أو في العلم، أو ننشد السعادة بصورة معينة، أو ننجح في الزراعة أو التجارة ... إلخ، وهذه كلها إرادات، وليست إرادة واحدة، وليس هناك إنسان يطلب كل هذه الأشياء معا، وإنما هو يطلب شيئا واحدا منها.
والسبيل إلى تقوية الإرادة في هذا الشيء الواحد هو إيجاد الإيحاء الدائم بالتخيل؛ أي: بأحلام اليقظة، فإننا كلنا وقت الراحة والاسترخاء نتخيل خيالات سارة لذيذة كأنها الأحلام، فإذا كنا نرغب في الثراء مثلا، ولا نجد الإرادة للعمل والكد لتحقيقه، فإن السبيل لإيجاد هذه الإرادة هو أن نتخيل الثراء بتفاصيله، كأن يضع الشاب نفسه في المركز الذي ينشده ويهواه، ويستسلم للخيالات المحيطة بهذا المركز، وهو، عندما يداوم على هذه الخيالات، يجد يوما ما أن الإيحاء منها قد استقر وتغلغل في نفسه حتى صار عواطف لها قوة التوجيه للشخصية.
وعندئذ يتجه كل نشاطه إلى هذا الخيال الذي دأب في تخيله فيعمل لتحقيقه؛ لأن الخيال قد أحدث الإيحاء، فالإرادة هي التي توجه الشخصية من حيث لا ندري إلى الأخذ بكل ما يعمل للثراء، وتجنب كل ما يؤخر هذا الثراء.
هذا هو السبيل إلى إيجاد الإرادة وتقويتها: خيال، ثم إيحاء، ثم إرادة، وهذا المثل الذي ضربناه ليس خير الأمثلة، ولكنه أوضحها؛ لأن الشاب الذكي لا ينشد الثراء فقط، وإنما هو ينشد الصحة، والمكانة الاجتماعية، والثقافة، والسعادة العائلية ... إلخ، بل أحيانا قد يطلب أحدنا إبطال التدخين أو الشراب، أو أية عادة سيئة أخرى، والسبيل هنا أيضا هو أن يتخيل نفسه سليما نظيفا بعيدا عن عادة التدخين مثلا، يجني ثمرة تركها والإقلاع عنها صحة وجمالا وشبابا، بل أيضا ما لا يتوافر له، كي يؤدي به عملا نافعا، فإذا تغلغل الخيال في نفسه، كان الإيحاء، ثم الإرادة.
الفصل السابع والأربعون
تربية الخيال
عندما أتأمل في الجرائم التي يرتكبها المجرمون، من سرقة أو اغتيال، أو تزوير، أو نصب، لا أتمالك الإحساس بأن هذه الجريمة التي وقع فيها أحدهم ليست الأولى إلا من حيث الاقتراف.
أي أن هذا المجرم، قبل أن يرتكب جريمته هذه الأخيرة التي قادته إلى السجن أو إلى المشنقة، قد فكر كثيرا فيها وارتكبها بخياله، وحلم بها في نومه وفي يقظته، واجتر الفكرة، حتى انتهى إلى الاقتراف.
وكثير منا على هذه الحال؛ أي: أنه يرتكب الجريمة بالفكر والخيال والاتجاه؛ لأنه يترك عواطفه تطغى على عقله، ويستسلم للخواطر الإجرامية؛ اعتقادا بأن هذه الخواطر لن تؤذيه؛ إذ هو بعيد عن الاقتراف.
ولكن هذا خطأ؛ لأن الخطوة قصيرة بين الفكر والعمل، ويجب لهذا ألا نترك خيالنا مسيبا، تسوقه وتوجهه عواطفنا الغشيمة؛ أي: يجب أن نربي عواطفنا ونوجه خيالنا حتى لا نرتكب الجرائم بالفكرة، ثم ننساق بعد ذلك إلى ارتكابها بالفعل.
ولذلك يجب أن نراقب خيالنا، ونوجهه نحو الخير والبر، ونحلم بالخدمة، ونستورد إلى عقولنا الخواطر التي تثير في نفوسنا الشهامة والشرف والحب، ونستبعد عنها الخواطر التي تثير الحسد والحقد والانتقام والأنانية، وبهذا نبتعد عن الجريمة، ليس بالفعل فقط، بل بالفكرة أيضا.
لقد كان أفلاطون يقول: إن ما يحلم به العقلاء يفعله المجانين، ولكن هؤلاء العقلاء قد يعودون مجانين إذا أدمنوا الفكرة وحلموا بها كثيرا.
إن لنا تراثا من العواطف الوحشية التي كانت تخدمنا في حياة الغابة القديمة، حين كان البطش يسعفنا أكثر من العقل، ولكن هذا التراث يؤذينا في حياة المدنية، ويجب لذلك أن نربي عواطفنا على المعيشة الاجتماعية البارة، وخدمة البشر، بأن نجعل أخيلتنا بارة كريمة.
الفصل الثامن والأربعون
غاندي زعيم الإنسانية
مات رجل في العام الماضي استطاع أن يكسبنا معنى جديدا للإنسانية، ذلك هو غاندي.
فقد تعلمنا منه أن المجد أو العظمة أو السمو، أو ما يتبع هذه المعاني من الكلمات ، ليست في القائد العظيم الذي يهزم الجيوش ويدمر المدن، وليست في ذلك السياسي الداهية الذي يستولي على ثروات الأمم الصغيرة لمصلحة وطنه، وليست للثري الذي يقتني الثابت والمنقول من العقارات، وإنما هي لذلك الإنسان الذي يستطيع أن يعيش وهو يعرف كيف يستغني وليس كيف يقتني.
لقد عاش غاندي مستغنيا لم يتقن سوى العنزة التي كان يشرب لبنها، والشملة التي كان يستتر بها، فلم يكن يكلف الأمة الهندية التي عاش لها، وحقق لها الاستقلال أكثر من جنيهين أو ثلاثة جنيهات في العام كله؛ أي: مقدار ما ينفقه رجل شبه ثري في اليوم في مصر أو غير مصر.
ونحن نقرن الحقارة إلى الفقر، ولكن غاندي كان عظيما مع فقره، وقد أغنى أمته وبقي هو فقيرا.
وبذلك تعلمنا منه أن الرجل المهذب الذي يفكر في الآفاق، ويهتم بالمشكلات الإنسانية الكبيرة، ليس هو ذلك الذي يزحم نفسه بالمقتنيات التي تستهلك وقته والتفاته، وإنما هو الذي يتخلص من هذه المقتنيات حتى يتفرغ لما هو أعظم منها شأنا، مما يرقى به شخصيته وأمته ويزيد الخير في الدنيا وينقص الشرور.
وهناك مقاييس كثيرة نستطيع أن نقيس بها فضل الرجال، ومن أحسن هذه المقاييس ما اعتمد عليه «برنارد شو» حين قال: إن الرجل الفاضل هو ذلك الذي يعطي الدنيا أكثر مما أخذ منها، بحيث تزيد الدنيا ثروة أو علما أو حكمة يوم وفاته على ما كانت يوم ميلاده.
وقد زادنا غاندي حكمة، وتعلمنا منه أننا نستطيع أن نقاوم الشر بالخير، وأن نعيش بأقل الحاجات، فنحصل على الكرامة والعزة التي لا يحصل عليها أقوى الأقوياء.
وعلى كل شاب طموح، يسرف في الطمع والاقتناء، أن يذكر أن زعيم الهند، بل زعيم الشرف والخير، زعيم الإنسانية، لم يكن ينفق في العام على نفسه سوى جنيهين أو ثلاثة جنيهات، وأنه ترك لنا قدوته السامية كي نتأسى بها في القناعة.
الفصل التاسع والأربعون
فورد يذم الادخار
كان هنري فورد رجلا فذا، وهو في التعبير الإنجليزي «قد صنع نفسه»؛ أي: أنه ربى نفسه، وجمع ثروة تعد بالملايين، وأنشأ مصانع غيرت بنظامها وإنتاجها المجتمع الأمريكي؛ أي: أنه كان عصاميا في تربيته، وثقافته، وثروته، وجاهه، ولذلك يجب أن نسترشد بحياته وندرس أقواله؛ لأنها ثمرة الخبرة والمعرفة.
ومن أحسن ما قاله بشأن النقود وادخارها قوله: «كان يقال للشبان فيما مضى: ادخروا كي لا تفتقروا في شيخوختكم، ولكن الواقع أن الذين يحسنون صرف النقود لا يفتقرون، ولذلك أقول للشبان: أنفقوا نقودكم، ولكن يجب أن تتأكدوا بأنكم تنفقون على الأشياء التي تعمل لرقيكم، وتتقدم بكم إلى الأمام من المكان الذي كنتم فيه في الأمس.».
وهذه كلمات الحكمة ينطق بها حكيم مجرب، ذلك أننا لا ننتفع بالنقود إلا عندما ننفقها، أما حين تبقى مدخرة فإن انتفاعنا بها من حيث ترقية شخصيتنا، أو الاستمتاع بالرفاهية أو الصحة أو السعادة، هذا الانتفاع يبقى معطلا، وإنما يبدأ الانتفاع حين يبدأ الإنفاق، وبكلمة أخرى نقول: إننا لا نبدأ في امتلاك النقد واستخدامه إلا في وقت الابتداء في إنفاقه.
والشاب الذي يحسن الإنفاق، ويوجه نقوده إلى الأهداف التي تزيد سعادته وكفاءته لن يخشى الفقر؛ لأنه وهو ينفقها إنما يربي نفسه، حتى حين يخسر بعض ما ينفق؛ لأن أقل ما يقال هنا أنه كسب الخبرة، أما ذلك الذي يشن على نفسه، ويكنز ما جمع من المال، فإنه يبقى فقيرا في شخصيته وثقافته واستمتاعه وسعادته، حتى ولو بلغ ما يكنزه الألوف من الجنيهات.
أيها الشاب: أنفق كثيرا واشتر بنقودك الاختبارات والاستمتاعات التي تكبر شخصيتك وتربي عقلك وعواطفك وتزيدك حكمة وشبعا من الدنيا.
الفصل الخمسون
كلمات جديدة
هناك كلمات تؤدي كل منها دلالة ترفعها إلى مقام الشعار الذي يعين السياسة أو الأخلاق أو السلوك، بل إنها لتعين برنامجا تحيا به الدولة أو ينهج عليه الفرد في حياته ويستهدف به نبلا وكرامة وسعادة.
ومن أحسن الكلمات التي شاعت في أوروبا هذه الأيام هذا الوصف الذي توصف به الدولة حين نقول: «دولة إيجابية»، فإن دلالة هذه الكلمة تزيد على المعنى المألوف من الكلمات؛ إذ هي شعار للدولة ، ذلك أننا تعودنا على أن نطالب الحكومة بألا تتدخل في شئون الفرد أو المجتمع إلا بأقل مقدار، وكنا نقنع منها بتعميم الأمن، كأننا نؤثر أن تكون سلبية، فيما عدا الأمن، لا تعنى بالصحة أو التعليم أو نحو ذلك.
ولكن وصف الحكومات المصرية بأنها إيجابية هو تبدل كبير في معنى خصائص الدولة ومهمتها، فالدولة العصرية هي التي لا تقف سلبية مكتوفة، وتترك الحبل على الغارب للمباراة الاقتصادية حتى يأخذ الثراء والفقر مجراهما بلا عائق، وإنما هي التي تتقدم وتعمل وتفتح الميادين الجديدة لألوان كثيرة من النشاط، وليس التأميم الذي شاع في أوروبا إلا بعض هذه السياسة الإيجابية.
وهناك كلمة أخرى هي ما توصف به الحكومات الديمقراطية في أوروبا الغربية الشمالية حين نقول إنها «دولة خيرية»، فإن دلالة هذه الكلمة كبيرة جدا.
ذلك أننا كنا نصف الجمعية بأنها «خيرية» حين تؤسس المدارس وتعلم أبناء الفقراء بالمجان، أو حين تفتقد الفقراء وتتصدق عليهم، أو حين تنشئ المستشفيات، ولكن الدولة الخيرية تفعل كل ذلك، وأكثر منه هذه الأيام، فإن الحكومة الإنجليزية مثلا تعلم الشعب كله بالمجان، كما أنها تعالجه بما يشبه المجان، وفي العام الأسبق أنفقت واحدا وعشرين مليون جنيه اشترت بها طقوم الأسنان والسماعات والنظارات، ووزعتها كلها بالمجان على ضعفاء الأسنان والسمع والنظر.
هذا عمل خيري كانت تضطلع به الجمعيات قديما، أما الآن فإن الدولة الخيرية تضطلع به.
ولذلك يجب أن نستورد هذه الكلمات من أوروبا، وأن نحفظها ونستذكرها، حتى تلد الكلمة الفكرة وتلد الفكرة العمل.
يجب أن نستذكر الدولة الإيجابية، والتأميم، والدولة الخيرية، فإن هذه ليست كلمات فقط؛ إذ هي شعارات أيضا، هي برامج تنادينا بالعمل والكفاح لتعميم السعادة ومحو الشقاء من بلادنا.
الفصل الحادي والخمسون
الناقصون في الذكاء
لا يمكن أن نصف رجلا بالذكاء؛ لأنه أمضى حياته في احتيالات ومراوغات ومناروات لجمع مقدار باهظ من المال.
وإني أصف هذا المال الكثير بكلمة باهظ؛ لأنه يبهظ مقتنيه، فيشغله بأعبائه عن الكثير مما يجب أن يحيا له، والمعقول أننا نعيش، أقصى ما نعيش في المتوسط، نحو ثمانين أو تسعين سنة، وهذا العمر لا يحتاج إلى ربع مليون جنيه، والرجل الذي يرصد حياته لاقتناء هذا المبلغ، لا يختلف عن الرجل الذي يشتهي أن يأكل أرنبا فيقتني خمسين ألف أرنب، أو هو يحتاج إلى السكر للشاي فيجمع ألف قنطار من السكر ثم يخزنها، أو هو يحتاج إلى سرير فيشتري مئة سرير.
ذلك أن حاجتنا في هذه الدنيا لا يمكن أن تحملنا على أن ننام في سريرين فضلا عن مئة سرير، ولا أن نأكل خمس وجبات في اليوم فضلا عن خمسين وجبة، ولا أن نتزوج عشر نساء فضلا عن مئة، ثم أعمارنا لا يمكن أن تمتد إلى مئتي سنة فضلا عن ألف سنة، وحتى عندما نفكر في تزويد الأطفال بشيء من المال، فإن ما يرثونه يجب أن يكون مقدارا معتدلا حتى لا يستنيموا إليه ويحجموا عن العمل والإنتاج اللذين يجعلانهم يحسون بأنهم أعضاء نافعون في المجتمع.
وإذن يجب أن نقول: الإسراف في جمع الثروة هو غباوة وليس ذكاء، أو بكلمة أخرى، هو اندفاع أو انسياق في القيم الاجتماعية السائدة دون الفحص الذكي عن حدودها.
وميزة الذكاء هي النظرة الشاملة لأي موضوع، هذه النظرة التي نقيس بها الأبعاد والأمداء في حياتنا. •••
ويجب ألا ننسى هذه النقطة، وهي أن سمة الغبي هي النظرة الجزئية لأي موضوع، وأيضا للحياة، وميزة الذكي هي النظرة الكلية لأي موضوع، وأيضا للحياة.
النظرة الكلية، النظرة الشاملة، النظرة الاستيعابية، التي تستوعب الموقف كله، الحياة كلها هي نظرة الذكاء.
ما هي النظرة الشاملة للحياة؟
هي أننا نعيش نحو ثمانين سنة على هذا الكوكب، فيجب أن نختار أحسن ما فيه من القيم فنأخذ بها ونعنى باستكمالها.
وأكبر القيم في حياتنا هي الصحة، فيجب ألا نبخل بأي شيء لصيانة صحتنا؛ إذ هي الثروة الأولى التي لا يمكن الاستمتاع بأي ثروة أخرى بدونها.
أما الثروة الثانية فهي ذكاؤنا الذي يجب أن نغذوه بالثقافة المتوالية.
ومعنى هذا أن أهم ما نعنى به لأشخاصنا هو صحة الجسم وترقية الذهن.
ثم تأتي بعد ذلك القيم الأخرى؛ أي: الثروات التي يجب أن نقتنيها.
وفي نظامنا الحاضر نحتاج إلى المال، ولكن ثروة المال، التي نتعب في جمعها، يجب ألا تبهظنا سواء في التحصيل أو في الاقتناء، وقصارى ما نطلبه منها أن تكفينا نحو سبعين أو ثمانين سنة، ومن البلاهة أن نتعب ونلهث حتى نجمع ما يكفينا سبع مئة أو ثمان مئة سنة.
وهذا بالطبع مع التفكير المتزن فيما نتركه للأطفال.
ثم هناك الثروات الأخرى التي يجب أن نحصل عليها؛ العائلة، الأصدقاء، المجتمع، الإنسانية، الطبيعة، السياحة.
إن كل هذه ثروات لا يمكن أن يهملها الرجل الذكي.
ومما يجب أن نتنبه إليه أن الأخلاق جزء من الذكاء.
وثق أنه على قدر النقص في الذكاء يكون أيضا النقص في الأخلاق؛ لأن الرجل الذكي يتناول حياته، فيما بين سن العشرين وسن الثلاثين، كما لو كانت أكبر وأخطر وأعظم الموضوعات التي يجب أن يدرسها، فهو يعين هدفه في هذه الدنيا ويعين أيضا برنامجه للوصول إلى هذا الهدف.
وأنا أشك في ذكاء الشاب الذي لا يفعل هذا قبل أن يبلغ الثلاثين.
الفصل الثاني والخمسون
ادرسوا سيرة رجل عظيم
كان باستور من رجال العلم الفرنسيين الذين غيروا الاتجاه الطبي، ووضعوا أسسا جديدة للمعالجة، وقد ألقى ذات مرة في جمع من الشبان كلمات من النصح والإرشاد، فكان مما قال لهم: «ادرسوا سيرة رجل عظيم.».
وهذه نصيحة يجب أن تقال وتكرر لجميع الشبان في كل وقت؛ لأن هناك من الخفايا في سير العظماء ما يدهش الشاب العادي الذي يطلب الطمأنينة والراحة، ويقصر حياته على نشاط تكراري ليس فيه استقلال أو ابتكار، ففي سيرة كل عظيم تقريبا تجد ألوانا من التضحية والنشاط ووحدة الهدف، ومقاطعة الملذات الرخيصة، فهذا عظيم نعرف من سيرته أنه كان يستيقظ في الساعة الرابعة من الصباح، وهذا آخر نعرف أنه لم يدخن قط، وهذا ثالث، مثل سعد زغلول، نعرف أنه شرع يتعلم لغة أجنبية وهو في الثانية والستين من عمره ... إلخ.
ومثل هذه الدراسة جديرة بأن تشكك الشاب في القيم والأوزان التي يؤخذ بها، وجديرة بأن تلهمه حتى يتغير، فيهدف إلى العظمة، فيتغير في أسلوب حياته، ويهدف إلى هدف جديد.
وقد رأيت في الأسبوع الماضي عظيما، وهأنذا أبوح ببعض الخفايا عنه لعل في ذلك ما يلهم ويوجه، فهو الآن في الخامسة والخمسين, وقد وصل إلى قمة المجتمع مالا ووجاهة وكفاءة، ولكنه وجد هذا العام نقصا في بعض معارفه، فسارع إلى استخدام معلم يدرسه، ورأيت كرامته وكناشته كأنه قد عاد تلميذا يستعد للامتحان، وتأملته مليا، وعرضت حياته الماضية منذ كان موظفا صغيرا لا يزيد مرتبه على عشرة جنيهات في الشهر إلى أن أصبح دخله السنوي يقدر بالألوف من الجنيهات، وتساءلت: ما الذي رفعه إلى هذه القمة؟
تساءلت وفكرت، ثم قلت: هي عادة تعودها منذ كان شابا «عادة الارتقاء».
ذلك أنه اتخذ أسلوبا في حياته هو أن يرتقي، فالارتقاء عنده عادة وعاطفة يمارسها في غير وجدان؛ أي: من حيث لا يدري، فهو يرتقي اجتماعيا وماليا وصحيا وثقافيا، وقد أشرت إلى أنه يثقف ذهنه على يد معلم، ويجب أن أشير أيضا إلى أنه يثقف جسمه بتمارين رياضية قاسية.
والارتقاء يمكن أن يكون عادة يتعودها الشاب، وهو إذا فعل فإنه لن يرضى بقضاء ساعة من عمره على المقهى، ولن يرضى بأن يبلد ذهنه بقراءة السخف في المجلات الجنسية، ولن يرضى بقتل الوقت بأكل اللب أو التدخين.
يجب أن نجعل الارتقاء عادتنا وعاطفتنا، وأن نرقي أذهاننا بالدراسة كما فعل هذا الباشا العظيم باستخدامه معلما يدرسه وهو في منتصف العقد السادس من عمره، وكما فعل سعد، وهو في الثانية والستين.
وعادات الارتقاء، كالتزام القناعة في الطعام، وممارسة الألعاب الرياضية، واقتناء الكتب والدراسة، ومصادقة الشخصيات السامية التي تربأ عن الهذر والسخف، هذه العادات ليست أشق علينا من عادات الانحطاط التي يقع فيها كثير من الشبان ثم يعجزون عن الإقلاع عنها، فتؤخرهم في ميدان الحياة وتجعلهم يندمون بعد أن تكون قد فاتتهم الفرصة.
الفصل الثالث والخمسون
المباراة في الاقتناء علة الشقاء
نحن نعيش في عصر اقتنائي نتبارى فيه لاقتناء العقارات والمنقولات وجمع الأموال، ونفاخر فيه بالتكاثر، وفي أحيان كثيرة لا نبالي الطرق التي نقتني بها أو نجمع بها المال، وذلك لأن شهوة الجمع والاقتناء تتسلط على عواطفنا، وتتغلب على إحساسنا، بل إننا في حالات كثيرة ننكر على أنفسنا الراحة فضلا عن الاستمتاع كي نقتني ونجمع.
وأحيانا نعمى عن الحقائق وننساق ذاهلين كأننا لا ندري ما نفعل، فتحملنا شهوة الاقتناء على التقتير الجنوني، فقد قص علي طبيب كان يمارس مهنته في قرية قريبة من طنطا، أن رجلا قدم إليه ومعه ابنه المريض وهو شاب دون العشرين، فلما فحص عنه وجد أن مرضه هو «البلاجرة» وهذا المرض برهان على سوء الغذاء، ثم فحص عن أخيه فوجد أنه أيضا مريض بهذا المرض الذي لا يفشو إلا حيث يكون الجوع، ونعني هنا الجوع الكيماوي حين يكون المقدار كافيا، ولكن عناصر الطعام ناقصة.
ولما سأل الطبيب عن الحال الاقتصادية التي تعيش فيها عائلة هذين الشابين، وجد أن الأب يملك خمسة عشر فدانا يزرعها بنفسه ولا يؤجرها؛ أي: أن إيراد الفدان لا ينقص عنده عن عشرين أو ثلاثين جنيها.
ومع هذا الإيراد كان ابناه يشكوان قلة الغذاء؛ لأن روح الاقتناء قد تغلب عليه حتى صار يقتر في غذاء أولاده، وأدى التقتير إلى مرضهم.
وليس منا من ينكر قيمة المال في مجتمعنا وظروفنا، ولكن يجب ألا ننساق في القيم الاجتماعية ونضحي بالصحة من أجلها؛ لأن هناك قيما بشرية يجب أن تحتل المكانة الأولى في نفوسنا، وأولى هذه القيم بالطبع هي الصحة، وهناك الثقافة، والارتفاع بحاجات الحياة إلى التأنق الفني وضروب الاستمتاع العديدة.
والشاب الذي يهمل صحته أو ثقافته، ويضحي بحاضره لأجل المستقبل، ويحمله كل ذلك على التقتير، إنما ينكر على نفسه السعادة التي هي من حقه وواجبة، ولو كنا نعيش في مجتمع سليم لكان يجب أن نحجز على المزارع الذي أحدث لابنيه مرض البلاجرا بتقتيره وتمنعه من الصرف؛ لأنه بدلا من أن يجعل المال خادما جعله سيدا.
الفصل الرابع والخمسون
البساطة في الحياة فن
عندما نقول: إننا يجب أن نعيش المعيشة الفطرية، ونتوخى السذاجة البساطة؛ نجد أننا نقع في التباسات واشتباهات كثيرة، فإن الحيوان يعيش المعيشة الفطرية؛ أي: أنه يقنع بما تزوده به الطبيعة من طعام ومأوى، سواء أكان مخبأ في ديسه أو جحرا في كهف، وليس هذا ما يقنع به إنسان، ولكن هناك المعيشة الفطرية التي يطلبها الفيلسوف أو الرجل الحكيم حين يستغني عن عشرات أو مئات الأشياء التي يقتنيها غيره فتببظه بعبئها وتكاليفها دون أن يقتنع بها.
ولذلك يجب أن نترك عبارة المعيشة الفطرية ونقول: إننا يجب أن نحيا الحياة الفنية ففي الفن البساطة، ولكنها بساطة تشبه «السهل الممتنع»؛ إذ هي ثمرة الثقافة العميقة التي استخلصنا منها أسلوبا وهدفا للحياة حتى استطعنا أن ننحي عنا كثيرا من الزوائد والنوافل.
ونحن حين نقرأ قصيدة، ونعجب بأبياتها، أو حين نقرأ قصة ونفكر في الأسلوب الذي اتخذه المؤلف، وفي الهدف الذي رسمه، نجد أنه إذا كان من الممتازين، قد ارتفع ببطله إلى صورة أو طراز هو في صميمه من فن الحياة.
فلم لا نمارس فن الحياة؟ ولم لا يرتفع الشاب إلى أن يكون كذلك البطل الذي يقرأ عنه، ويعجب به في القصص العالية.
هناك فنون كثيرة، كالرسم والبناء والنحت والموسيقى والغناء، وكلها فنون جميلة لا يعد الإنسان إنسانا إلا إذا كان قد أحس بجمالها أو مارس بعضها، ولكن هناك فنا هو فوق هذه الفنون جميعها وهو «فن الحياة»؛ أي: ماذا أنت صانع بحياتك؟ ما هو الهدف الذي ترمي إليه من هذا العمر الذي قد يبلغ 80 أو 100 سنة؟ ما هو بيت القصيد في هذا العمر؟ ثم أيضا ماهو الأسلوب الفني الذي تتخذه كي تحقق هذا الهدف؟
قد يقال: إن الأسلوب هو الفن، و'ن الهدف هو الفلسفة ولكن عند الرجل الحكيم الذي أينعت شخصيته يندمج الاثنان، بل ينعدم الثلاثة: الفن والفلسفة والحياة، جميعها شيء واحد والرجل الحكيم يصل إلى نوع من الحياة الفطرية، ليست حياة الضرورة الحيوانية، ولكنها حياة «لزوم ما لا يلزم» كما يقول المعري ، حياة الفن العالي الذي نستغني به عن عشرات الأشياء، ولكنا نطلب أشياء لا يطلبها العاميون غير الفنيين.
الفصل الخامس والخمسون
وقف الثروة على الأبناء
من الحوادث الصغيرة التي تحمل في معناها الدلالة الكبيرة أن أحد الأثرياء في الولايات المتحدة قصد إلى محام، وطلب إليه أن يحرر له وصية تكفل بقاء ثروته لأبنائه، ثم لأبنائهم وأحفادهم من بعدهم، خشية أن يبددها هؤلاء الأبناء والأحفاد، ثم يعيشون فقراء.
فسأل المحامي هذا الثري، ما هو عدد الأجيال التي تطمع في بقاء الثروة فيها؟ فأجاب الثري بأنه يرجو بقاءها في عشرة أجيال، فحسب المحامي عدد الجدود الذين يعد هذا الثري واحدا منهم إلى الجيل العاشر، فوجد أنهم يقاربون خمس مئة جد فقال له: ماذا يهمك أن تكون واحدا من خمس مئة جد حتى تعنى هذه العناية بالجيل العاشر؟
ونحن المصريين نعرف من وقف الثروة على الأبناء والأحفاد ماذا جره علينا هذا من المتاعب والأحقاد في العائلات، وأيضا ضياع الثروة لإهمال العناية بها.
والعبرة الأولى:
لهذه القصة أن العناية بمستقبل الأبناء يجب أن تقف عند حدود لا تتجاوزها إلى السخف، بحسبان أن المستقبل يمكن أن يرتهن للأبناء والأحفاد.
والعبرة الثانية:
أن الإخاء البشري ليس من الفكرات الفلسفية التي يتسلى بها المؤلفون والكتاب، وإنما هو حقيقة بيولوجية، فليس في مصر الآن رجل أو امرأة لا ينتسب إلى ملوكها قبل ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف سنة، وليس في مصر الآن رجل أو امرأة لن يكون جدا أو جدة لجميع الملايين التي سوف تعيش بعد خمس مئة عام، إلا إذا أضرب عن التناسل، وتستطيع أيها القارئ أن تحسب هذا الحساب في بضع دقائق، وتستطيع أن تستنتج وتتحقق أن الأمة المصرية كلها عائلة واحدة، بل ماذا أقول؟ إن النوع البشري كله عائلة واحدة.
إن الإخاء البشري في الأخلاق ينهض على أخوة بشرية في البيولوجية.
الفصل السادس والخمسون
وقت من ذهب ووقت من تراب
ليس شيء أدعى إلى الحسرة والألم من رؤية الشاب وهو قاعد في المقهى يتثاءب أو يتطلع إلى المارة من رجال ونساء كأن عقله خواء لا يجد مما يشغله شيئا من مهام هذه الحياة، وتزيد الحسرة والألم عندما نجد أنه قد استعان بشاب آخر، وقد قعد كلاهما يلعبان أحد ألعاب الحظ، فيقضيان وقتهما في قتل الوقت.
وتزيد الحسرة أكثر وأكثر عندما أسأل أحدهما عن قيمة هذه اللعبة مستنكرا، فيجيبني بأنه لا يلعب للنقود وإنما يلعب للتسلية، كأن ضياع قرش من نقوده أغلى عليه من ضياع ساعة من حياته، مع أن القرش يمكن أن يسترد، أما الساعة فلن تسترد.
وهؤلاء الشبان يعيشون في سأم قد أحدثته لهم الحياة الخاوية، ولذلك يفرون من هذا السأم إلى أنواع من التسلية ترفه عنهم.
وليس بعيدا أن يقعوا بعد ذلك في المنكرات المدمرة من باب الترفيه أيضا.
والمرض الأصلي الذي يشكوه هذا الشاب الأجوف، من حيث لا يدري، هو أنه لم يعن في الماضي بتثقيف عقله، ورأسه لذلك كالغرفة العارية، ليس بها أثاث يشغل فراغها، ولذلك لا يهتم بقراءة الجريدة، ولا يقتني كتابا، ولا يسأل عن المشاكل السياسية والاجتماعية، رأس خلو يتعلق بما يسليه كي ينفض عنه السأم فقط، ولو كان ذلك بأكل اللب أو لعب النرد أو الورق أو التطلع إلى المارة أو التحدث بالقيل والقال، وعندما يصل هذا الشاب إلى الشيخوخة لا يجد أمامه غير اليأس، فهو يتعفن في وحدته النفسية والذهنية إلى أن يبلى فيموت.
لهذا يجب على كل شاب أن يثقف عقله، ويهتم بالجريدة والكتاب، كما يجب عليه أن يرتفع بلغته إلى المعاني الدقيقة السامية التي تحول بينه وبين التبذل الرخيص من الكلمات التي كثيرا ما تجره إلى أخلاق مبتذلة رخيصة.
يجب أيها الشاب أن تثقف عقلك وتصقله حتى تجعله غاليا عزيزا، وليس رخيصا مبتذلا.
الفصل السابع والخمسون
الشاب الذي يثير الإعجاب
مما يثير الاشمئزاز في نفسي منظر ذلك الشاب التافه الذي يعيش حياة تافهة بلا جذور ولا هدف، ولا تربطه بالدنيا هموم أو اهتمامات، يقرأ المجلة التافهة، ويغذو ذهنه منها بالغذاء الرخيص، ويجهل خطورة القنبلة الذرية، فلا يدري شيئا عن منظمة الأمم المتحدة، أو الحركة الصهيونية، أو الاستعمار من أجل البترول، إذا حدثته عن الفلاح قال: إنه أسعد منك، وإذا ناقشته عن قيمة الصناعة لمصر سئم المناقشة وأبدل بها حديثا عن الممثلة الأمريكية التي تزوجت للمرة العاشرة ممثلا سينمائيا أو لوردا إنجليزيا أو بهلوانا إسبانيا.
وهو إذا لم يحدثك عما يقرأ فإنه قادر على أن يسهب في صفات الخياطين، وامتياز كل منهم على الآخر، بل لعله يحدثك عن أحسن الحلاقين.
فإذا لم يجد الفرصة للحديث فإنه يلعب لعب الحظ، فيقضي الساعتين وهو مهموم متفزز يبغي الانتصار ويخشى الهزيمة.
هذا هو الشاب التافه الذي لا يهدف في الحياة، ولا يرتبط بحياته أو بحياة عائلته أو وطنه.
ونقيض هذا الشاب التافه ذلك الشاب النابه الذي يميز بين الخطير والحقير، ويحس أن وطنه هو هذا العالم كله، يهتم بشئونه ويرتبط بمشكلاته، ويرفع هذه المشكلات إلى المستوى الفلسفي العالي، فيرتفع هو بارتفاعها ويجل بجلالها، وبذلك تمثل له أهداف في الشرف والسعادة والشهامة، فيعرف أن وقته أغلى من الذهب، وأنه يشترك في قيادة هذا العالم نحو النور، ومثل هذا الشاب يثير الاعجاب.
تأمل في حياتك أيها الشاب واسأل نفسك هل تثير حياتك الاشمئزاز أم الاعجاب ... هل أنت خاو أم مليء؟
الفصل الثامن والخمسون
لا تضرب الأعرج
تدل الأمثال الجارية في الأمة على اتجاهها النفسي وذكائها الشعبي، وعلى أنها راشدة أو قاصرة، حسيسة أم بليدة.
ومن أجمل الأمثال التي عثرت عليها مثل هندي يقول: «لا تضرب الأعرج» ويقابله مثل صيني يقول: «احترم العبء».
وهذان المثلان يدلان على النفس الطيبة، تلك النفس التي لا تمتاز بالمهارة أو الذكاء، ولكنها تمتاز بالعقل الحساس الذي ينزع بصاحبه إلى المروءة والشهامة في غير قصد إلى مصلحة ذاتية أو مأرب خاص، وفي عصرنا هذا حيث يحيط بنا جميعا جو من المباراة، ويغشانا روح من النهب والخطف، نحتاج أشد الحاجة إلى الرجل الطيب الذي يذكرنا بالمروءة والشهامة.
يقول المثل الهندي: «لا تضرب الأعرج»؛ أي: لا تستغل عجزه كي تنتفع بقوتك، فتقهره وتستعلي عليه، ويدعونا المثل الصيني إلى أن نحترم العبء، فيجب أن نقف كي تقعد المرأة الحامل أو التي تحمل رضيعها، بل يجب أن نخفف عن الحيوان بعض أعبائه ولا نثقل عليه بحملنا فوق عبئه.
ويجب أن تكون لنا نفس حساسة، فلا نقول للفقير إنه عاجز، ولا للعانس إنها دميمة، ولا نسب الخادم، ولا نحتقر المسن الواهن، وهذه كلها عادات نعزوها إلى المروءة والشهامة، وهي لا تحتاج إلا إلى أن نكون طيبين.
إن الشبان هذه الأيام يطلبون النجاح أو ينشدون السعادة، وهذا خير، ولكن بشرط ألا ينسوا الطيبة، حتى ولو اعترضت النجاح أو السعادة وعاقته بعض الشيء، فقد ننجح، ولكنا نبقى مع ذلك أوباشا أخساء، وقد نتوهم السعادة، مع أننا لا نتمتع إلا بما يتمتع به الحيوان من ملذات مادية، ولكن الطيبة هي صفة النفس الإنسانية؛ أي: النفس النفسية التي تعلو على النجاح والسعادة، بل هي في آخر الأمر أسمى أنواع النجاح والسعادة.
ونحن قد نستغش الذكي الناجح، ولكننا نأتمن الرجل الطب في أي مكان؛ لأن الأول قد يكون أنانيا أو صل إلى غايته بالعدوان والخطف، أما الثاني فقد مارس المروءة والشهامة واستضاء بالحب، وربى نفسه على الإحساس بآلام الآخرين.
الفصل التاسع والخمسون
لا تكن فاترا
ندخل هذا الأسبوع في عام جديد يطوي منا تاريخا لن يعود ويفتح أمامنا أبوابا للأمل والنشاط والعمل.
والشاب عندما يعرض لحياته في العام الماضي يجد بلا شك محاسن ومساوئ، أو بالأحرى يجد الإصابة والخطأ، وهو لذلك يجدد عزيمته على أن يسلك السلوك السوي الذي يرقى به في العام الجديد.
فليعقد كل شاب عزيمته للعام الجديد على أن يقلع عن عادة سيئة لسيتبدل بها عادة حسنة، سواء أكانت هذه العادة في لغته في الحديث المهمل الذي يحفل بالكلمات العوراء أو النابية، أو في الهندام الذي تنقصه الأناقة، أو في قضاء الفراغ الذي يمتلئ بالعبث واللهو، أو في التصرف الاجتماعي الذي تأخذ فيه الخصومة مكان المصالحة.
وليعين الشاب، كتابة، هذه العزائم، واحدة بعد أخرى كأنها دين عليه يجب أن يفي به شهرا بعد شهر.
يجب أن يقرأ الكتب الرصينة، وأن يختار الكاتب الذي له دلالة ومغزى، دون الكاتب الذي يتسكع ولا يهدف إلى غاية، ويجب أن يقاطع هذه الغوغاء من المجلات التي تخاطب غريزته الجنسية، ويجب أن يسأل ويتعلم علما جديدا، أو يتعرف إلى المشكلات العالمية، ويجب أن يثقف جسمه وذهنه حتى تنضج شخصيته، فيجد في هذا النضج السعادة لنفسه والاحترام والحب من غيره.
ويجب أن يعيش في حماسة وغلواء، حتى تتوهج شخصيته، وتدفأ، وتبعث النشاط في جميع من يتصل بهم، ولن يكون هذا إلا بالاهتمامات التي تحتاج إلى دوام اليقظة، والاشتغال بالمشاكل الاجتماعية والسياسية والعالمية.
أيها الشاب، لا تكن كذلك الجامد الفاتر الذي وصفه الإنجيل بقوله: «ليتك كنت حارا أو باردا، ولكن؛ لأنك فاتر، فأنا مزمع أن أتقيأك».
يجب أن تكون حارا، تعيش في حماسة وغلواء تهتم، فتفكر، فتنشط، وليكن هذا برنامجك للعام الجديد.
الفصل الستون
العاهة لا تقعد الشجاع
من النوادر التي ذكرها أدلر، السيكلوجي النمسوي، أنه عرف في الحرب الكبرى الأولى جنديين أصابت كلا منهما قذيفة أطاحت بذراعه، وبرئ كلاهما من الجراحة.
فلما انتهت الحرب ومضت سنوات لقيهما أدلر مصادفة، كلا على حدة، ولكن في وقت متقارب، فقال أحدهما عندما رآه: «إني يا دكتور عاجز عن العيش، أجر جسمي كما لو كان عبئا؛ لأن بتر ذراعي قد حال بيني وبين أي عمل نافع، وليتني كنت مت بدلا من أن أعيش على هذه الحال.».
وكان هذا الجندي شابا، ولكنه استنام إلى كارثته وارتضى العجز والاستسلام، فصار يعيش كما لو كان شيخا هرما محطما.
وفي الأسبوع نفسه زاره ذلك الجندي الآخر الذي بترت ذراعه أيضا عقب الإصابة في القتال، فقال له: «أنا يا دكتور في أحسن حال، فقد وجدت عملا أرتزق منه أكثر مما كنت أرتزق بعملي قبل الحرب، حين كانت لي ذراعان، وقد تزوجت، وأنا سعيد بزوجتي وأولادي، وأكاد أتساءل لماذا خلق الله لنا ذراعين مع أن ذراعا واحدة تكفي.».
ويقارن أدلر بين هذين الشابين، ويبرر قيمة الشجاعة في مجابهة الحياة وما تحمل من كوارث ومحن، فإن أحدنا يلقى هذه الكوارث والمحن بقلب حي جريء ووجه ضاحك ساخر من تقلبات الدنيا، وما أن يفيق من الصدمة حتى يشرع في تجديد حياته ويكافح في تفاؤل وكبرياء لا يهين ولا يتضعضع، فلا تمضي السنوات حتى يكون قد وصل إلى القمة، ونحس حين نتأمل حياته أن الصدمة قد زادته عنادا وتشبثا بالنجاح، في حين أن الآخر قد هان وتضعضع ونام إلى الكارثة راضيا بها مستسلما وكأنه قد فرح بها؛ لأنها زودته آلامهما بالعذر الذي يتيح له النوم والكسل وتجنب المسئوليات، والرضا بأن يعوله غيره.
ويعزو أدلر هذا الفرق العظيم بين هذين الشابين إلى أن أحدهما قد تعود منذ الطفولة، في السنوات الثلاثة أو الأربع الأولى من عمره، أن يكون شجاعا يتحدى ويتصدى، في حين تعود الآخر أن يجبن ويفر ويستكين، ويرى أدلر هنا تبعة الأمهات وضرورة تعليمهن الشجاعة لأطفالهن.
وهذا الذي يقوله أدلر حق، ولكن يجب ألا تكون تربيتنا السيئة في الطفولة عذرا لأن نجبن ونستكين للكوارث متى تقع بنا، فإذا لم نكن قد تعودنا الشجاعة فيجب أن نشرع في تعودها، نجابه الدنيا بوجه ضاحك وقلب جريء، ونغالب الكارثة، ولا نعترف بالهزيمة، ويجب أن نذكر ذلك القائد العظيم الذي قال: «إن الجيش لن يهزم ما دام لا يعترف بالهزيمة.».
وكذلك الشاب، مهما حل به من المحن والكوارث، سيبقى منتصرا ما دام لم يستسلم.
ومن الكلمات الذهبية التي تؤثر عن أدلر أيضا قوله: «الشجاعة هي صحة النفس.».
ذلك أن جميع الأمراض النفسية تقريبا تعود إلى الخوف هذا الخوف الذي ليس له ما يبرره من العوامل الخارجية، وإنما هو حال نفسية تعسة تجعل صاحبها يخاف كل شيء، فهو ينبع من الداخل، لتزعزع نفسي أو لتربية سيئة وليس لعرض من الخارج، والبرهان على ذلك أن الحادث الفادح قد يقع باثنين فيتصدى له أحدهما ويستكين الآخر فيفشل، كما رأينا في المثال الذي ذكره أدلر.
الفصل الحادي والستون
يجب أن نحترم كل عمل مفيد
حدث عندما كان هتلر في أوج جنونه وذروة فحشه، أن دخل الألمان مدينة فينا عاصمة النمسا، ثم عمدوا إلى خصومهم وصاروا يبتكرون الأساليب لاحتقارهم وإذلالهم، وكان ممن ألقوا القبض عليهم قائد يكره النازية قد سبق له أن قاتل في الجيش الالماني نفسه في الحرب الكبرى الأولى، فسلموه مكنسة وطلبوا منه أن يكنس الشوارع.
وأراد هذا القائد أن يخجل هؤلاء الجنود، فعمد إلى شكته؛ أي: سترته الرسمية، فلبسها وتناول المكنسة وصار يكنس، وخجل الألمان من هذا المنظر؛ لأن هذه الشكة كانت ألمانية تحمل السيف والأوسمة، فعفوا عنه.
وقد أذكرني هذا الحادث حادثا آخر، ذلك أنه في السنة المشئومة 1882 حين انهزم العرابيون، صار خصومهم يبحثون عمن أيدوهم أو عاونوهم على الثورة، ثم كانوا يجعلونهم يكنسون الشوارع، وكان من هؤلاء المؤيدين للثورة رجل رأيته في شيخوخته هو أمين الشمسي (باشا) في الزقازيق، وكان جميل الوجه تزينه لحية بيضاء، وكنت في صباي أهرع إليه كي أقبل يده.
وقد حمل أمين الشمسي (بك وقتئذ) المكنسة وكنس الشوارع في الزقازيق، وإني أوقن بأنه حين كان يكنس كان يجد الاحترام والإكبار من أولئك الذين رأوه في هذه الحال، وأمين الشمسي هذا هو والد علي الشمسي (باشا).
وقد ذكرت هذين الحادثين كي أنبه القارئ إلى تلك التقاليد والرواسب الاجتماعية التي تحملنا على احتقار بعض الأعمال، حتى إننا لنعاقب من نكرههم بممارستها، مع أننا نعرف أن هذه الأعمال ضرورية لنا، وإذا كان هناك مجال أو هدف للاحتقار، فيجب أن يكون في أولئك الذين يحدثون القذر والشعث في الشوارع، وليس في أولئك الذين يجملونها بالنظافة والترتيب.
وجميع الصناعات يجب أن تحترم، ما دامت تخدم المجتمع، ولذلك يجب أن نحترم الكناس، وأن نحتقر أولئك السفهاء الذين ظنوا في كنس الشوارع هوانا وحاولوا إهانة خصومهم بممارسته.
الفصل الثاني والستون
شروط الرئيس ولسن للرجل المهذب
كان الرئيس ولسن من أعظم الرجال المثقفين في العالم، وهو مخترع «عصبة الأمم» وصاحب عبارة «تقرير المصير» التي أشعلت وطنيتنا في سنة 1919، ومؤلفاته وخطبه تعد نماذج للتفكير الخصب المثمر.
وقد وضع أربعة شروط يجب أن يستوفيها الرجل المهذب المثقف هي: (1)
أن يعرف تاريخ العالم منذ بداية الكون إلى الحضارة العصرية. (2)
أن يعرف تاريخ الأفكار السائدة، كالدستور والحرية والاشتراكية والنقابة وحرية المرأة والديمقراطية والفاشية ... إلخ. (3)
أن يعرف علما من العلوم التجريبية. (4)
أن يعرف لغته المعرفة التامة.
وهو بالطبع لا يذكر هنا المهارة الفنية التي يرتزق بها الشاب، فقد تكون هذه المهارة هندسة، أو طبا أو تجارة أو زراعة، وقد تتصل بالثقافة العامة أو هي تنحصر في ناحية منها لا يدري بها الجمهور، ولا يكون لها وقت في التطور الذهني للأمة، والصناعات تختلف هنا وتتفاوت في قيمتها الثقافية، فإن صناعة الصحفي أو المحامي تتصل بالعقل العام في الأمة وتؤثر فيه وتتأثر به، ولكن صناعة الساعاتي أو الطرزي ليست كذلك.
وغاية الثقافة أن تجعل الإنسان إنسانيا ... أي: مشتبكا في المشكلات البشرية: يدرس الهند وينشد استقلالها، ويفكر في الطاقة الذرية، هل هي وعد أم وعيد؟ ويتأمل في حياة لنكولن محرر الزنوج، أو قصة الثورة الفرنسية أو تاريخ الكفاح الدستوري في إنجلترا، ويقرأ الجريدة أو المجلة عن فهم وتبصر بالعوامل التي تنشر الأخبار أو تخفيها وتمنعها.
والحق أن الشروط الأربعة التي ذكرها ولسون جديرة بأن تجعل الإنسان مثقفا، والشاب المصري العادي قادر على أن يستوفي هذه الشروط حتى ولو لم يلتحق بجامعة، فإن المؤلفات العربية الشائعة تكفيه إذا هو أحسن الاختيار، وتحري الثقافة التي ينتفع ويرتفع بها دون كتب اللهو والتسلية التي لا يزيد مقامها على مقام اللب أو الفول السوداني الذي يقصد منه إلى قتل الوقت، بل كذلك يجب عليه أن يعنى باختيار المجلة أو الجريدة، بحيث يتوخى منها المعرفة المنيرة التي يرتقي بها.
وأول شرط وضعه ولسون للشاب المثقف هو أن يعرف تاريخ البشر منذ بداية التطور؛ أي: تاريخ الإنسان، وهذا الكوكب، منذ ألف مليون سنة، وهو جدير هنا بأن يحس، من هذا التاريخ، إحساسا دينيا رفيعا.
ثم عليه أن يدرس الافكار السائدة التي يسير بها العالم المتمدن ؛ لأنه بذلك يصير هو متمدنا، يدري القيم والأوزان للعوامل التي تقوم عليها الحضارة.
ثم عليه أن يعرف علما تجريبيا، مثل الكيمياء أو السيكلوجية أو الطبيعيات؛ لأن التقدم العلمي هو الذي يهيئ السيادة للأمم السائدة، وهو الذي يجعل الرقي ممكنا ويوفر الرفاهية، وليست الصناعات العصرية التي عممت الرخاء أو الثراء سوى ثمرة العلوم.
وأخيرا يحتاج الشاب المثقف إلى أن يعرف لغته المعرفة الدقيقة؛ لأن التفكير لا يستطاع إلا بالكلمات الحسنة التي تتيح التعبير الدقيق، فإذا كانت اللغة ناقصة، فالتفكير ناقص أيضا.
فأين أنت أيها القارئ من هذه الشروط الأربعة؟
إن القراءة قد بسطت أمامنا آفاقا جديدة، ولكن هذه الآفاق تحوي الربوات العالية التي نرتفع إليها والوهدات المنخفضة التي نهوي إليها، وهناك من الكتب والصحف ما يجرنا إلى أسفل ويشغل أذهاننا بالتافه الخسيس، ولذلك يجب أن نختار ثقافتنا، وأن نتأنق في الاختيار، وننشد ما يرفعنا.
الفصل الثالث والستون
الأدب المتصل
من التعابير الجديدة التي تحمل معنى موقظا هذا التعبير الذي شاع في فرنسا حديثا، وهو قولهم: «الأدب المتصل» أو «الأدب المرتبط».
والمعنى المقصود أن الأدب يجب أن يتصل بالمجتمع، يعالج مشكلاته بل ينغمس فيها، وأن الأديب يجب أن يكون مكافحا يدوس المجتمع ويعرض لعيوبه ويدعو إلى التغيير والتطور، فليس الأديب هو الذي يؤلف كي يسلي ويسري عن قرائه همومهم بالخيال الرائع والكلمات العذبة، وإنما هو ذلك الذي يحملهم على الاهتمام، ويخز ضمائرهم، بل يعذبهم، حتى يثير وجدانهم إلى المساوئ الفاشية وحتى يحسوا تبعاتهم فيهبوا إلى العمل للإصلاح.
وهذا المعنى هو الذي فهمه أدباء فرنسا حين رحلوا إلى إسبانيا مقاتلين للدفاع عن الحرية ضد الدكتاتورية قبل اثنتي عشرة سنة، وحين أصبحوا يكافحون في الجبهات السياسية داخل بلادهم.
وقد أدرك الكتاب الفلسفيون ضرورة الارتباط بين الفلسفة وبين المجتمع، بل كذلك فعل رجال الدين، كما نرى مثلا في أوروبا وأمريكا، فإن الدين هناك هو إصلاحات اجتماعية يراد بها ترقية المجتمع، وقد نجح الدينيون في الولايات المتحدة فيما بين 1922 و1932 في منع الخمور، ومع أن التجربة أخفقت، ومع أن الحكومة قد عادت فأذنت بصنع الخمور وبيعها، فإن هذا المنع قد دل على أن رجال الدين يحسون الارتباط بين الكنيسة والمجتمع، أو هم يؤمنون بالدين المتصل أو بالدين المرتبط.
وخلاصة القول أن الأدب والفلسفة والدين، جميعها، تتجه في الأقطار المتمدنة إلى وجهة الارتباط بالمجتمع، وتعد إصلاح هذا المجتمع غايتها، ولهذا فإن الأديب والسياسي ورجل الدين يعدون مكافحين للإصلاح، على استعداد لأن يشتركوا وينغمسوا في جميع الحركات الشعبية التي تهدف إلى الخير والرقي.
وهذا تقدم يسجل لأبناء القرن العشرين، فإن الأدب لم يعد لهوا كما لم تعد الفلسفة والدين يتيهان في الغيبيات والطلسمات.
الفصل الرابع والستون
البذاء في الشوارع
قبل شهور قليلة كنت على الترام، وكانت العربة مزدحمة بالركاب، وكثير منهم من السيدات والآنسات، فلما بلغنا أحد المواقف، سمعنا السباب القذر يتبادله أحد الباعة الجائلين مع آخر، وكان كثير من هذا السباب يتألف من الأسماء الفجة للأعضاء التناسلية، يصرح بها كل منهما في صوت عال ولذة حارة.
والتفت عندئذ إلى واحد من هذين المازحين المتسابين وأشرت عليه بأن هذه الكلمات فاضحة، وأن بالعربة سيدات وآنسات، فنظر إلي في استهزاء وقال: «إحنا بنقول أكثر من كدا يا أفندي.».
ولم أستغرب منه هذا الرد، ولكني أسفت لجمود القاعدين؛ إذ لم ينهض واحد كي يؤيدني في وقف هذا السباب، بل تركوني أقوم بمجهود منفرد لم يؤثر في هذا البائع الجائل الذي سيعود ويعود إلى كلماته هذه في ظروف مماثلة في المستقبل.
إن على الشباب أن يغيروا هذا الجو الاجتماعي البذيء، وأن يبادروا إلى إسكات هؤلاء الذين يبصقون السباب من أفواههم، ولست أنكر أن الميدان الأول للتربية هنا هو ميدان الطفولة؛ لأن هذه الكلمات لا يمكن أن يجري بها لسان إلا إذا كان قد تعلمنا في السنوات الأولى من العمر، ثم تبقى بعد ذلك إلى آخر العمر.
ولكن ليس في مقدورنا أن ندخل إلى البيوت ونعلم الآباء حتى يعلموا الأبناء، ولذلك يجب ان يقتصر جهدنا على الكف والزجر كلما لقينا هذا الغبار القذر في الشوارع.
ولن يستطيع الشباب أن يعيشوا في جو نظيف طاهر إلا إذا ساهموا هم في نظافته وطهارته.
والشارع هو ملك الجمهور الذي يحب أن يحرص على حقوقه فيه بأن يصونه من القذر، وقذر اللسان هو شر الأقذار.
الفصل الخامس والستون
الدكتور القديس
مات من مدة قريبة في الإسكندرية طبيب يوناني يدعى سقراط لاجوزاكي، وقد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، وقضى من هذا العمر السنين الخمس عشرة الأخيرة وهو يعاني مرض الجذام، ويرى بعينيه سريان هذا السم في جسمه يمزق أعضاءه ويبتر أطرافه ويهدده بالعمى التام والشلل العام.
وهذا بالطبع خبر عادي مألوف، ولكن ما يستغرب فيه، وما يرفع هذا الرجل إلى مقام القديسين، أن سقراط لاجوزاكي هو نفسه الذي سعى وحقن جسمه بهذا المرض حتى سرت العدوى فيه وشرعت تأكل جسمه.
وليس بين الأمراض ما هو أبشع من هذا المرض، وهو، قبل كل شيء، مرض الفقراء الذين يعيشون في القذر ولا يجدون كفايتهم من العناصر الغذائية، لذلك ليس في أوروبا كلها، وهي أكثر من ثلاث مئة مليون، مجذوم واحد، ولكن في القاهرة وبكين وبومباي، الفقيرة، عشرات بل مئات.
وكان هذا القديس لاجوزاكي ينشد، عندما حقن جسمه، دراسة هذا المرض كما يحسه وكما يجد تطوراته أنه في تفتيت أعضائه وقيمة الأدوية والعلاجات المختلفة في التخفيف أو الشفاء منه، حتى يستطيع أن يهدي غيره من المجذومين إلى الوسائل الناجعة للتخلص منه.
وقد جرب جميع الأدوية فلم تنجع، ثم جرب دواء من الذهب واليود فوجد فيه التخفيف من المرض وإن لم يجد فيه الشفاء، واستطاع بهذا الدواء أن يقف سير المرض، ثم بعد ذلك صار ينفق أمواله على المجذومين المساكين في الإسكندرية؛ إذ كان يشتري لهم الدواء ويحقنهم به بالمجان.
ومات هذا القديس من مدة قريبة، ولكن صورته لم تعلق إلى الآن على جدران بيوتنا وكنائسنا، نستوحي منها الصلاح والشهامة والشجاعة؛ أي: القداسة، كما يجب أن نفهم معنى هذه الكلمة في عصرنا.
الفصل السادس والستون
الأعياد والهدايا
يحتفل الغربيون بأعيادهم فيخرج الصبيان يوم 25 من ديسمبر مثلا وهم في عربدة من الألوان، يحملون معهم هداياهم التي أهديت إليهم من آبائهم أو من الأصدقاء ... ويقضون ذلك اليوم وهم في مهرجان من المرح والزئيط.
ولكن هذه الهدايا لا تقتصر على الصبيان والأطفال، فإن عيد الميلاد فرصة للتهادي أيضا بين الزوجين وبين الأصدقاء والأقرباء.
ونحن الشرقيين كرماء، ولكن كرمنا لا يزال يسير على أساليبه البدائية القديمة، من حيث إننا نثقل الضيف بأثقال من الطعام، كأننا نتفاخر بعدد السعرات التي نقدمها له، ولكننا لا نكاد نعرف التهادي، مع أن الإهداء هو خير ألوان الكرم، وهو وسيلة الذكرى واستدامة الصداقة.
ولنا أعياد يحتشد فيها الاستهتار، وينفرج الكظم العام، بالشراب والطعام، ولكننا لا نهدي إلى أطفالنا وأصدقائنا من الهدايا النافعة في هذه الفرص ما يستديم صداقتهم وحبهم وينبه فيهم الغرائز الاجتماعية.
والهدية التي نهديها إلى صديق، أو إلى صبي، تحمل في ثناياها إحساسا اجتماعيا يزيد كثيرا على قيمتها المادية، ومن الحسن أن نحرك هذا الإحساس من وقت لآخر في أنفسنا، وفي غيرنا؛ لأننا لا نكون على تربية حسنة ما لم نكن اجتماعيين، والتهادي هو تدريب اجتماعي للمتهادين.
وقد تكون الهدية عربونا للصداقة، كما تكون تأييدا أو تجديدا لها، وعلى كل شاب لهذا السبب أن يخص جزءا من دخله لشراء الهدايا لأصدقائه أو لأبنائه الصغار، وما ينفقه من مال في هذه الهدايا سيعتاض بأكثر من قيمته حبا ومكانة في وسطه الاجتماعي.
وهذا اللون من الكرم هو خير من إيلام الولائم الشرقية القديمة التي كثيرا ما تؤدي إلى التخمة، والتي لا تزيد لذتها على أن تكون لذة حيوانية.
الفصل السابع والستون
عيد شم النسيم
في كل عام تحتفل مصر بعيد من أعيادنا القومية هو عيد شم النسيم.
وما أعظم المعنى والدلالة في هذا العيد، فهو أول شيء عيد الجميع، بلا اختلاف في الأديان، وهو بعد ذلك عيد الربيع الذي تنهض فيه الحيوانات والنباتات من سبات الشتاء، ولذلك تحفل الحقول بالزرع النضر والزهر المتألق، كما يحفل الجو بنشاط الطيور.
ولهذا العيد اتصال بآلهتنا القديمة وكهنتها ، الذين كانت مهمتهم الأولى أن يباركوا على الزرع ويعملوا لأنضاجه، وتعميم الخيرات على سكان وادي النيل بالقمح والشعير اللذين يحصدان بعد شهر أو نحو ذلك.
يجب أن نحافظ على تقاليدنا المصرية في هذا العيد؛ إذ هي تقاليد حسنة، تنبهنا إلى قيمة الهواء النقي في فسحة الحقول الزاهية؛ أي: يجب أن نبكر في الصباح، ونخرج إلى أنأى مكان، بعيدين عن جو المدينة وصخبها، فنقعد تحت ظل شجرة إلى مجرى الماء يحيط بنا الريف في سذاجته وجماله، وهناك نرقد قانعين بالتأمل في العام الجديد إزاء الأعوام الماضية، أو نهب ونمرح، كما لو كانت سني الطفولة قد عادت إلينا.
ولكن يجب أن نحترم هذا العيد الجميل، ونجعل منه عيدا للورد والزهر، والنضرة والانتعاش، فلا ندنسه بأكل البصل والفسيخ كما تفعل الغوغاء من الأثرياء والفقراء، ولا نتخم فيه بغذاء ثقيل يضطرنا إلى النوم؛ لأن هذا اليوم هو يوم اليقظة للطبيعة، يجب أن نعيش فيه أحياء يقظين من ساعاته المبكرة إلى ساعاته المتأخرة.
وفي أول شهر مايو من كل سنة تحتفل أوروبا أيضا بعيد الطبيعة الذي يقابل شم النسيم عندنا، بل لعله هو نفسه شم النسيم قد انتقل إلى أوروبا في عصور غابرة، وقد أصبح هذا العيد عيدا للعمال، ولكنه في الأصل عيد الطبيعة.
وفي هذا اليوم سننسى أحقادنا التي غرسها فينا المجتمع، وسنذكر شيئا واحدا، هو أننا بشر، نتحد في الفرح بالربيع، ونشم نسيمه، ويقول الناس بعضهم لبعض، مهما اختلفت مذاهبهم الدينية: هنيئا هذا العام الجديد.
الفصل الثامن والستون
أعظم الألم توقع الألم
تقدم ثمانية من أعضاء البرلمان الإنجليزي بمشروعات كي يبحثها المجلس ويجعلها قوانين، وكل من هؤلاء الأعضاء ينفرد بمشروع خاص، ولكنها جميعا تهدف إلى الرحمة بالحيوان.
فواحد منها يراد منه النص على أن يمنع وضع شرك؛ أي: فخ، إذا كان يؤذي الحيوان الذي يقع فيه بجرح أو يؤلمه بأية صورة أخرى، وآخر ينص على طريقة «إنسانية» لذبح الحيوان في المجزر، وآخر ينص على منع الصيد بالطراد، حين يخرج الصائدون وكلابهم، ويعدون وراء الوعل أو الأرنب أو الثعلب، ولا يزالون في العدو حتى تقع الطريدة إعياء وإغماء، وآخر ينص على منع البتر للذنب، كما يفعل بعض الذين يقتنون الكلاب أو القطط.
وهذا الاهتمام بالحيوان، والرغبة في حمايته من الآلام أو تخفيفها، هما برهان على رقي نفسي، وعلى إحساس قد أرهف بالتأمل، والأغلب أننا نبالغ في تصورنا لآلام الحيوان؛ لأننا نجد في حياتنا البشرية أن أعظم ما يؤلمنا ليس هو الألم، وإنما هو توقع الألم، والحيوان سعيد من هذه الناحية؛ لأنه يجهل المستقبل.
ولكن هؤلاء الأعضاء قد نقلوا إحساسهم البشري الذاتي إلى الحيوان، وهم لم يفعلوا ذلك، ولم تنشأ فيهم هذه العواطف الرحيمة، إلا بعد تفكير طويل في الحب والرحمة، وهم؛ أي: هؤلاء الأعضاء أنفسهم، قد ارتقوا بهذه العواطف التي أضفوها على الحيوان، فزادوا إنسانية.
ونحن والحيوانات أسرة واحدة، وبيننا وبين كل منها قرابة تطورية، فإن كلا منا يعرف من أعماق نفسه ونخاع عظمه أنه حيوان، كما أن كل حيوان ينطوي على النفس البشرية، ولذا فإن القسوة بالحيوان هي فظاظة وغلظة وجهالة يجب أن يترفع عنها الإنسان المثقف.
الفصل التاسع والستون
لك الساعة التي أنت فيها
ستفن ليكوك أديب أمريكي، يمزج الحكمة بالفكاهة والفلسفة بالعيش، ومن أحسن ما قرأت له قوله: «ما أغرب هذه الحياة، فإن الطفل يقول: عندما أصير صبيا ... والصبي يقول: عندما أصير شابا ... والشاب يقول: عندما أتزوج ...»
ولكن ماذا بعد الزواج؟ إن هذا الزوج يقول: عندما أترك العمل وأرتاح ... فإذا جاء هذا الوقت المؤمل وترك العمل وارتاح، نظر خلفه فإذا به يرى هذا الفضاء الذي قطعه وكأن ريحا عاتية قد اكتسحته، وكأن هذا العمر قد ولى وفات، ثم يعرف بعد ذلك؛ أي: بعد فوات الفرصة، أننا إنما نحيا بأن نعيش في فسيح اليوم والساعة اللذان يمران بنا.» أو كما يقول الشاعر العربي:
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
وحكمة هذا القول تتضح عندما نتأمل الكثيرين وهم يجترون المحن الماضية، ويخشون الكوارث القادمة، وكأن هذا اليوم الذي يقف بين الماضي والمستقبل ليس له قيمة عندهم، مع أنه يجب أن تكون له أكبر القيمة.
يجب أن نعيش في يومنا وننسى الماضي، ونؤدي عملنا، وحسبنا ذلك، أما المستقبل فإنه يكون مكفولا لنا إذا أحسنا نحن عمل هذا اليوم، وليس هناك ما يمنع من أن نفكر فيه تفكير السكينة والاتزان، ولكن يجب ألا نقلق بشأنه؛ لأن هذا القلق لن يغير ما سوف يحدث فيه، ولكنه سيمنعنا من أن نؤدي عمل اليوم، واليوم هو فرصة استمتاعنا بالحياة، وأخيب الناس هم أولئك الذين يرتهنون شبابهم لشيخوختهم، فيعملون جاهدين لهذا المستقبل البعيد، ويحرمون أنفسهم عيش الشباب، فإذا جاءت الشيخوخة عدموا القدرة على الاستماع، فلم يبق لهم سوى الندم فكأنهم لم يعيشوا.
الفصل السبعون
لا حياة بلا شجاعة
من قصص الحياة التي تحمل عبرة كبيرة لكل شاب، قصة المستر هاني، وهو رجل أمريكي كان يشكو قرحة معوية استعصى علاجها، وقد عالجه ثلاثة من الأطباء يئسوا من شفائه حتى طلب أحدهم منه أن يكتب وصيته وأن يترك عمله؛ لأن الموت قريب.
ولكن هذا المستر هاني كان يمتاز بالشجاعة، وهي فضيلة تعلو على جميع الفضائل البشرية، فإنه تساءل: «مادام لم يبق لي غير القليل من الأيام كي أعيش، فإني يجب على الأقل أن أستمتع بهذا القليل، وقد كنت أشتهي السياحة حول العالم قبل أن أموت، وها هي ذي الفرصة تسنح لي الآن فيجب أن أنتهزها.».
ولكن أطباءه أنذروه بأنه إذا غادر البلاد فإنه سيموت ويدفن في البحر، وكذلك أنذرته عائلته، وحاولت أن تكفه، ولكنه أبى أن ينصاع.
وعمد، في حنين وتعقل معا، إلى أحد اللحادين فاشترى منه نعشا من المعدن الذي يمكن أن تحكم منافذه حتى لا يتسرب منه أو إليه الهواء، وطلب من ربان الباخرة أن يوضع في هذا النعش عندما يموت، وأن يبقى في الثلج حتى يرد إلى أسرته ويدفن في الجبانة إلى جوار أقربائه.
وكان قد ساءت حالته حتى لصق الجلد بالعظم، ولكنه تحامل إلى الباخرة، وما هو أن استقبل الاقيانوس وهبت العواصف حتى انتعش وانبعث فيه روح الاقتحام، ثم رأى الهنود في عريهم، والصينيين في بؤسهم، فذكر همومه التي جلبت إليه هذه القرحة، وتعجب كيف أجاز لنفسه أن يتحمل هذه الهموم مع أنه لم ير جزءا من ألف مما يراه هؤلاء الهنود أو الصينيون.
وعاد إلى أمريكا وقد زاد وزنه تسعين رطلا، وباع النعش واكتسب فوق الصحة تربية وفلسفة للحياة، ولباب هذه الفلسفة أو الشجاعة هي خير ما نواجه به المصاعب ونقتحم به المستقبل، وهي العلاج السامي لجميع همومنا وأمراضنا الجسيمة والنفسية.
الفصل الحادي والسبعون
كيف نتعلم؟
كثيرا ما يأسف بعض الشبان؛ لأن الظروف لم تتح لهم أن يحصلوا على تعليم جامعي، اعتقادا بأن هذا التعليم كان يمكن أن يرفعهم إلى مستوى من الثقافة، وإلى قدرة على الكسب، لا يستطيعون الحصول عليهما؛ لأن تعليمهم قد بتر أو قطع قبل الشهادة الثانوية أو بعدها.
ولكن المتأمل يجد أن هذا القول لا ينبني على أساس، فإن القدرة على الكسب في مجتمعنا الحاضر لا تكاد تحتاج إلى تعليم؛ لأن المتجرين باللحوم أو الخضروات أو المنسوجات أو الطوب أو الخمور أو غير ذلك، يزيد كسب أحدهم على مرتب وكيل وزارة، بل أحيانا على مرتب وزير، وهم في الأغلب غير متعلمين، ثم إن الثقافة ليست مقصورة على التعليم النظامي، ذلك أن التعليم الحقيقي، الذي يرفعنا إلى مستوى عال من الثقافة، هو تعليم العمر كله، وليس تعليم المدرسة أو الجامعة، وتدل اختبارات جميع المثقفين البارزين على أن ما يعلمه لنا غيرنا صغير القيمة إلى جنب ما نعلمه نحن لأنفسنا.
وهناك أسباب سيكلوجية لذلك، أهمها أننا حين نعلم أنفسنا إنما نطلب من المعارف ما نحتاج إليه، كما يطلب الجائع الطعام، فهو يحس حاجة فسيولوجية يعبر عنها اشتهاؤه لغذاء معين، ولا يستطيع أحد أن يختار له هنا مثلما يختار هو لنفسه، ومعنى ذلك أن المتعلم الذي يختار بباعث من نفسه يمتاز على ذلك الآخر، الذي يعلمه غيره؛ لأن الأول يحس حاجة ذهنية لا يحسها الثاني.
ثم هو لهذا الإحساس يشتهي، فيقبل في حماسة، ويدرس، ويتعب، ولذلك ينبغ، أو أن النبوغ لا يكون بعيدا عنه، ومن هنا يجب ألا يبتئس شاب قضت ظروفه الخاصة ألا يحصل على تعليم جامعي.
ولذلك أيضا نجد أن المعلم الحسن ليس هو الذي يزودنا بالمعرفة، وإنما هو الذي يزودنا بالمنهج كي نعرف كيف نبحث ونعلم أنفسنا، أو هو الذي يقدم لنا من المعارف تلك التي تثير استطلاعنا، وتبعثنا على البحث والدرس طوال أعمارنا.
الفصل الثاني والسبعون
ماذا نتعلم؟
يسألني بعض الشبان عن الموضوعات التي يجب أن يدرسها كي يكونوا مثقفين، على اطلاع بالحركات الذهنية، وجوابي على الدوام هو: ادرس ما تحتاج إليه؛ لأن الحاجة تثير الاستطلاع، وتجذب الشوق، وكلاهما ضروري للدراسة، وبكلمة أخرى يجب أن تعلم نفسك ولا تنتظر من أحد أن يعلمك.
ولكني إذا تجرأت وأشرت هنا بما تجب دراسته، فإنما افعل ذلك كنتيجة لاختباراتي الشخصية، وليس للإملاء على أي شاب كي يسير في خطاي، فإن لكل إنسان مصباحه الذي يستضيء به في هذه الدنيا، وهو يخطئ حين يطرحه ويتخذ مصباحا آخر، وقد يهديه مصباحه إلى الأدب، أو التاريخ، أو العلم، أو الفلسفة، أو أي موضوع آخر يثير استطلاعه وشوقه.
وقد وجدت أنا نفسي أننا لن نستطيع أن نفهم هذه الحضارة القائمة، إلا إذا درسنا علما من العلوم المادية، ولست أعني هنا هذه المعارف التي يرشدنا إليها هذا العلم فقط، وإنما أعني منهج هذا العلم أيضا، ذلك لأن الحضارة القائمة وإن لم تكن علمية الأسس فإنها تسير في خطى العلم وتعتمد عليه، وليست المجتمعات أو الحكومات الحاضرة علمية، ولكنها تنشد النظام العلمي في كل شيء، وسوف تنشده أكثر في المستقبل حين تتخلص من تقاليدها وعاداتها الموروثة.
ولكن إلى جنب العلم يجب أن ندرس الفلسفة، والفرق بين الاثنين أن الأول يبين ماهية الأشياء تحليلا وتركيبا، أما الثانية فتبين لنا قيمة هذه الأشياء لنا من حيث إنها تزيدنا فهما أو سعادة أو إخاء أو حبا.
ويدخل في الفلسفة الأدب والدين؛ لأن كليهما يبحث القيم ، ثم الهيئة؛ أي: علم الكواكب والنجوم والسدوم، وهي أقرب العلوم إلى الفلسفة؛ لأنها تبسط لنا آفاق الكون، وتحملنا على أن نسأل أسئلة الأطفال الساذجة: ما الأصل؟ ما المصير؟ ولماذا؟ وكيف؟
العلم كمنهج نفهم به المصانع والطائرات والذرة، والفلسفة كفاية نحاول أن نكون بها إنسانيين، نبحث عن مراسينا في هذه الدنيا ونجدها؛ أي: أن العلم وسيلة والفلسفة غاية.
الفصل الثالث والسبعون
المرأة في الشرق
إذا أردت أن تعرف حقيقة الأخلاق التي ينطوي عليها الرجل أيا كان ما يفعل، فما عليك إلا أن تسمع حديثه الخاص بشأن المرأة.
فالرجل المستهتر يتحدث عنها باعتبارها متعة ولذة، والرجل الجاهل لا يرتفع في الحديث عنها عن التقاليد، وكلاهما يعتبر المرأة وسيلة لخدمة الرجل وبقاء النوع البشري، فيجب ألا تكون شيئا آخر سوى زوجة وأم، ولكن الرجل الناضج، الذي درب ذهنه على الفلسفة الاجتماعية العصرية ينظر إلى المرأة كما ينظر إلى الرجل باعتبار كل منهما غاية وليس وسيلة.
إن المرأة أنثى لا شك في ذلك، والرجل ذكر لا شك في ذلك، ولكن ليس معنى هذا أن تحترف المرأة أنوثتها وأمومتها، كما أن الرجل لا يحترف ذكورته وأبوته.
لقد بالغت الأمم الشرقية في تأنيث المرأة حتى جعلتها أحيانا بعض «الفراش»، وكانت النتيجة لهذه المبالغة أو الإسراف أن المرأة الشرقية لم تعد تصلح لأن تكون زوجة؛ لأنها لم تعد زميلة لزوجها، ثم لم تصلح لأن تكون أما؛ لأنها لا تختلط بالحياة الاجتماعية، وتربية الأطفال تحتاج لشيء غير قليل من الخبرة الاجتماعية، كما تحتاج الهناءة الزوجية إلى زمالة الزوجين.
يجب أن نرفع المرأة من الأنوثة إلى الإنسانية.
يجب أن نعلمها وندربها كي تختلط بالمجتمع، وتحترف وتكسب، وتشترك في الوظائف العامة، والمناصب العليا، وتصوت وتنتخب للبرلمان، حتى يستوي عقلها بالعقل العام الراقي، ليس في وطنها فقط بل في العالم كله، ويجب أن تمارس حقوقا كي تؤدي واجبات رفيعة للوطن والعالم والعائلة.
والزوجة المثلى، أو الأم المثلى، ليست هي التي تمهر في غسل الملابس وطبخ الملوخية، وليست هي التي تغري زوجها بأنوثتها، وإنما هي تلك التي تعلمت وتدربت في الواجبات والحقوق الاجتماعية، وكسبت وبصرت بالتطورات الاجتماعية.
هي التي تخاطب فيها عقلها المفلسف، النير، السخي، وليست هي التي تخاطب فيها الثديين الرخيمين والبطن الطري.
الفصل الرابع والسبعون
الملامح مرآة النفس
إنما ترى النفس من خلال الجسم إذا كان هناك ذكاء يتألق ويسطع على الوجه بتعابير الفهم والحماسة والإخلاص والتفاؤل، ولكن هذه التعابير تختفي، وأيضا تختفي معها النفس، عندما يسود التشاؤم، أو البلادة، أو الفتور، أو الخبث.
وكثيرا ما أقعد إلى أحد الأشخاص، سواء أكان رجلا أم امرأة، فأحس كأني أرى شخصا فقط ولا أرى نفسا، ذلك لأنه فاتر، ولا يحمى، ولا يبالي، ولا يستطلع، أو هو مغموم قد كربته كارثة فتجمدت ملامحه منها، أو هو بليد، مظلم، لم تشرق على عقله أضواء الثقافة، أو هو ماكر يفكر في الأذى حتى كلحت ملامحه لدمامة نفسه.
ونحن حين نصف أحد الناس بأن له شخصية قوية أو ساحرة إنما نقول في الواقع إن له نفسا منيرة قد سطعت على وجهه، وحين نصف آخر بأن شخصيته كريهة أو جامدة إنما نقول في بعض الواقع بأن له نفسا لم تنتبه بالثقافة أو تنصهر بالتجربة.
ذلك أن جمالنا هو جمال نفوسنا، وهذا الجمال يصنعه كل منا لنفسه؛ لأن ما نرثه من الطبيعة إنما هو المادة الغشيمة؛ أي: الجسم، أما النفس فهي من صنع أيدينا وعقولنا؛ لأنها ثمرة التربية والاختبار والثقافة والأخلاق، ولذلك يجب أن ننشد الجمال في أجسامنا عن طريق إيجاده في نفوسنا، فلا نفكر في الشر أو الخبث، أو الأذى؛ لأن كل هذه الأشياء ترسم خطوطها المشئومة على وجوهنا، كما تنطلق بكلمات قبيحة على ألسنتنا، وإنما يجب أن نفكر في الخير، والبر، وإسعاد الناس، وترقية المجتمع، ونؤمن بالعدل والشرف، وعندئذ لا نكون أشخاصا فقط، بل نكون أيضا نفوسا متوجهة تشجع النار والنور.
الفصل الخامس والسبعون
وجوهنا الحزينة
من الأخبار المليئة بالدلالة والتنبيه خبر ذكرته إحدى المجلات الأمريكية، ففي إحدى المؤسسات التي تؤوي العميان وتعلمهم استطاع طبيب جراح أن يقوم بعملية لفتاة عمياء قضت عمرها كله منذ ميلادها وهي في ظلام العمى لم تر النور قط.
ونجحت العملية، وشرعت الفتاة تتحسس هذا العالم وتستكشفه، وهو عالم كانت تجهله إلا عن طريق اللمس والشم، وخطر ببال أحد المعلمين أن يسألها عن أعجب وأغرب ما رأته في هذه الدنيا الجديدة عقب انكشاف العمى وانبلاج النور.
فأجابت الفتاة: «إن أعجب وأغرب ما رأيت هو الوجه البشري، وهو منظر قد أحزنني، فقد كنت وأنا عمياء أتخيله جميلا، وكنت أظن أنه يشرق برؤية الجمال في السماء، والبحر، والجبال، والوجوه البشرية الأخرى، ولكني وجدت غير ذلك، وجدت الوجه البشري حزينا، حزينا جدا.».
ودلالة هذا الخبر أننا فقدنا طرب الحياة، وأن الهموم التي ركبتنا، وربكت عقولنا، قد أكسبت وجوهنا هذا الحزن الذي رأته هذه الفتاة؛ لأنها جديدة في الرؤية، أما نحن، فلم نعد نرى هذا الحزن؛ لأننا قد ألفناه، بل إننا لا نكاد نرى غيره حتى نقارن ونستنتج.
وقد ذكرت الفتاة جمال السماء والبحر والجبال، بل جمال الوجه البشري أيضا، وهي توبخنا وتبكتنا بهذا القول؛ لأن هذا الجمال يغمر الدنيا مشاع بالمجان لنا جميعا، ولكننا نعمى عنه، ونفكر في هموم ترهقنا وتحزننا بل تستعبدنا.
كان داروين العظيم يقول: «إني ما زلت أذكر تلك اللحظة التي تأملت فيها العين البشرية، فقد اعترتني رعدة لا أنساها.».
أجل، هذه العدسة الصغيرة التي تنقل إلى رءوسنا آلاف العوالم المشتتة في هذا الكون، ونرسم في خلاياها صور السحب والطيور والأشجار والزهور، وصور الأطفال في مرحهم والنساء في روعتهن، هذه العين البشرية هي أعجب ما في هذا الكون، وليست الشمس بكل ما فيها من جلال وعظمة سوى شيء غشيم خام بالمقارنة إليها.
هذه العين البشرية هي معجزة هذا العالم، بل هذا الكون كله، وذلك الشاب الذي يهمل الاستمتاع بها، ولا يتأمل الجمال في الطبيعة أو البشر، لن يجد ما يعيضه عنها ولو جمع مال قارون.
لا، بل هو حين يجمع مال قارون، سترتسم على وجهه أمارات الحزن التي رأتها هذه العمياء عندما أبصرت، بدلا من إشراق الفرح الذي كان يجب أن يعم وجوهنا جميعا في طرب الحياة ومرح الصحة؛ لأن مال قارون سيحمله من الهموم والشكوك والمخاوف ما يجعل الحزن أصيلا في قلبه منعكسا على وجهه.
الفصل السادس والسبعون
في الرابعة والتسعين
بعد أسابيع يدخل برنارد شو في الرابعة والتسعين من عمره، وليست العبرة مع ذلك في بلوغه هذه السن، ولكنها في محافظته على صحة عقله وسلامة جسمه، فإن هناك كثيرين بلغوا هذه السن ولكنهم التزموا السرير واستقالوا من الحياة، أو هم يعانون الحياة أكثر مما يستمتعون بها.
ولكن برنارد شو لا يزال نشيطا يؤلف ويوجه ويعلم، وقد علم أربعة أجيال، وهو يؤمل أن يعلم الجيل الخامس، وهو يقول كما يقول كثير من العلماء هذه الأيام: إن الموت ليس طبيعيا.
وقد اتخذ برنارد شو أسلوبا في العيش يجدر بنا جميعا أن نعرفه وإن لم نمارسه، فهو قد انقطع عن اللحوم منذ 65 سنة، وهو يأكل الخبز الأسمر، وينام مع ترك النافذة مفتوحة حتى في الشتاء، وهو شتاء إنجلترا القطبي، وهو لا يدخن ولا يشرب الخمور، كما أنه يفكر هذه الأيام في أن يصوم يوما كاملا كل أسبوع.
وبرنارد شو يدرس جسمه ويحاول أن يصوغه كما لو كان كتابا يؤلفه، وهو كثير التفكير في التعمير، وقد ألف درامة في هذا الموضوع يقول فيها: إن أعمارنا المألوفة قصيرة، وإننا نترك الدنيا أطفالا لما نتعلم، ولما نستمع، ولما نصل إلى الحكمة، وإننا على الأقل يجب أن نعيش ثلاث مئة سنة، نقضي المئة الأولى في التعلم، والمئة الثانية والثالثة في الاستمتاع والتفكير الناجع، كما أنه يرى أن الإنسان عندما يحقق هذه السن سوف يعمد إلى إصلاح هذه الدنيا وإحالتها إلى فردوس؛ لأن إقامته المديدة عليها ستضطره إلى ذلك حتى يهنأ بعيشه فيها ولا يسأمها.
وقد يكون في الخبز الأسمر؛ أي: الرغيف الكامل الذي لم ينخل شيء من دقيقه، بعض المميزات، كما أن التزام النباتات ينقص الأحماض التي تؤذي الجسم، كما قد يكون في النافذة المفتوحة وفرة من الأكسجين تجددنا وقت النوم، ويضاف إلى ذلك اللبن ومشتقاته، وقيمتها كبيرة.
ولكن هذا النظام وحده ليس كل شيء في حياة برنارد شو، فقد يتبعه آخر ثم لا يبلغ التسعين حتى يكون قد خرف لاختلال قواه العقلية، على الرغم من صحة الجسم، ولكن الميزة الأولى لبرنارد شو هي أنه لا يزال يعيش في عنفوان الحياة الذهنية، والسبب في ذلك أنه احترف الأدب والفهم والتفكير، وكلمات اللغة موفورة عنده، وهي تحمل المعاني التي يدأب الدماغ في استنباطها وتوليدها، ومن هنا حيوية ذهنه التي تسمو على حيوية جسمه.
وهذه الحياة الذهنية القوية التي يحياها هذه الأيام هي التي تجدد شبابه، وتحفزه على التفكير في المستقبل بدلا من الحنين إلى الذكريات القديمة، كما هو شأن المسنين العاديين، وهي التي تملؤه تفاؤلا على الرغم من الكوارث العالمية المحيطة.
فلتكن لكل شاب عبرة في حياة برنارد شو الذهنية وآماله الروحية كما في نظام معيشته المادية.
الفصل السابع والسبعون
يجب أن ننسى الماضي
هناك فرق أصيل بين الرجل الناجح والرجل الخائب، فإن الأول يفكر للمستقبل، ويتربص للفرص، ويجعل آماله برامج وبرامجه حقائق، وهو يحلم في يقظته ويرى رؤيا لشخصه، فما يزال يحاول تحقيقها حتى تتحقق، وهو يتخلص من ماضيه، فلا يذكر أن هذا الصديق قد أساء إليه، وأن هذا القريب قد غشه، وأنه كان يكون ثريا عظيما أو متعلما لو لم يخطئ أخوه أو أبوه أو نحو ذلك.
ومعنى هذا أن ميدان نشاطه هو المستقبل، وهو ينحي عنه الماضي، ويستمتع بحاضره، ويعمل لمستقبله في مرح وطرب وتفاؤل.
ولكن الرجل المخفق يذكر ماضيه، لا، بل هو يستذكره ويدرسه، كأنه قد فرض عليه أن يقف في محكمة للشهادة عن حوادثه، فهو يذكر لك قصصا عن أولئك الذين غدروا به، وعن حماته التي أفسدت حياته الزوجية، وعن ابنه الذي تجرأ عليه، وعن صديقه الذي اقترض منه ثم لم يرد القرض، وهو إنما يستذكر كل هذه الحوادث وأمثالها؛ لأنه يتمحل بها لإخفاقه ويبرر بها ركوده، وهو في كل هذه الذكريات متشائم، حزين، حالك في حزنه، كأن الدنيا مسئولة أمامه قد وقفت في القفص ليحاكمها.
بل إن هذا الفرق بين الناجحين والمخفقين من الأفراد ينتقل إلى الأمم، ففي الشرق أمم مشغولة، بل مجمدة، بماضيها لا تتقدم، وفي الغرب أمم مشغولة بمستقبلها، واثبة إليه دائبة في الاختراع، مفتحة العيون نحو الرقي والتطور.
ولست بذلك أنكر قيمة الماضي، فإننا يجب أن نذكره لاستخلاص العبرة والحكمة، وليس للتأسف والتنهد، أما المستقبل فهو ميداننا أو حقل التجربة لنشاطنا وحياتنا، وهذا الأمس الماضي الذي لم تمض عليه أربع وعشرون ساعة قد خرج من نطاق نشاطنا وابتعد عن حياتنا، وهو لا يختلف عن السنين التي سبقت بناء الأهرام أو ظهور الإنسان.
وعلى كل شاب أن ينسى حسراته ومآسيه في الماضي، وأن يرى رؤيا المستقبل، وأن يبني شخصيته وفق هذه الرؤيا، ويعين هدفه ويشرع في السير في نحوه؛ أي: يشرع، هذا اليوم، بل هذه الساعة، فيجعل أمانيه برامج وبرامجه حقائق.
الفصل الثامن والسبعون
رجل عظيم
في 1919 مات رجل عظيم يدعى أندور كارنجي بعد أن أتم 85 عاما على هذه الأرض كانت كلها كفاحا في جمع الثروة ... وأيضا في إنفاقها.
وكان إسكوتلندي الأصل، هاجر وهو صبي إلى أمريكا، ثم تقلب في الأعمال حتى أثري، وقدرت ثروته في بداية هذا القرن بنحو مئة مليون جنيه، لم يترك منها لورثته غير ربع مليون جنيه، أما الباقي فقد أنفقه في حياته على البر، وكان هناك نوع من البر قد اختص به، هو إنشاء المكتبات، فإنه أنشأ منها الألوف وكان على الدوام يصر على أن من يطلب مكتبة يجب أن يقدم الأرض التي سيقام عليها البناء، وأن يعين وقفا لإدارة المكتبة، أما هو فيقوم بتكاليف البناء وشراء الكتب، وكارنجي هذا هو الذي قام بتكاليف السراي التي تضم محكمة لاهاي في هولندا لدعم السلم.
وقد استقال من أعماله في 1901؛ أي: استقال من جمع المال في هذه السنة، وشرع ينفق ما جمع، وهو القائل: «إن إنفاق المال أشق من جمعه.» وهو هنا يعني أن اختيار المبرة التي يراد الإنفاق عليها يحتاج إلى التفكير والدرس والاهتمام أكثر مما يحتاج إليه جمع المال؛ لأن المال عند كارنجي كان يجتمع وحده بعد المليون الأول، بلا مجهود، أو بأقل المجهود، أما الإنفاق فكان يحتاج إلى التفكير الكثير.
ولما مات قدرت ثروته فلم تزد على خمسة ملايين جنيه؛ أي: أنه أنفق نحو 95 مليون جنيه في المبرات، ثم هذا القدر الفائض بعد موته لم يتركه لورثته، بل ترك لهم فقط ربع مليون جنيه، ووقف الباقي على المبرات، ومعظمها كما قلنا مكتبات؛ لأنه كان يؤمن بقوة الكتاب في التنوير والتوجيه.
وقد قيل عقب وفاته أن ورثته امتعضوا، ولم يشكروه؛ لأنهم لم يحصلوا إلا على جزء من أربع مئة من ثروته، ولكن المتأمل لهذا المبلغ الذي ورثوه، وهو ربع مليون جنيه، يجد أنهم من حيث الوفاء بالحاجات، بل والكماليات البشرية، ليسوا في حاجة إلى المزيد؛ إذ إن هذه الحاجات والكماليات محدودة، يفي بها هذا المبلغ ويفيض، ولم يكن كارنجي محقا فقط، بل كان أيضا عاقلا، عندما حبس أمواله على الخير.
الفصل التاسع والسبعون
ليس عندنا موسيقى
هاك خلاف قائم بين دعاة الوسيقى الشرقية ودعاة الموسيقا الغربية، وهذا الخلاف يبشر بالخير؛ لأنه يحث على البحث والفهم والدرس، وهو يقفنا موقف التساؤل من ماضينا ومستقبلنا، كما يرفع الفنون الجميلة إلى المقام الذي يجب أن تحتله في شئوننا الوطنية، وأيضا في النفس المصرية.
ومن رأينا أن مقاطعة الموسيقى الشرقية هي ضرورة في تطورنا الوطني الحاضر، ذلك أنها هي والغناء الذي يرافقها تراث سيئ من الرقص «البلدي» الذي قاطعناه والذي حظرته الحكومة، فقد كان كلاهما التعبير الإيقاعي، بالكلمة والنغمة، لهذا الرقص، وهما لذلك لا يزالان يحملان كل ما كان في هذا الرقص من إيماءات جنسية وضيعة.
ونحتاج إلى قليل من الشرح لهذا الرقص المحظور، فإن المرأة المصرية كانت في القرون الماضية تعيش في أسر الحجاب تزين وتزخرف وتخبأ، ولم تكن في هذه الحال إنسانة، وإنما كانت أنثى فقط، وأسرفت هي في هذه الأنوثة حتى جعلتها «مازوكية» أي خضوعا وتضرعا وتألما، وأصبح الرقص مقصورا على البغايا اللائي كن يمثلن هذه الأنثوية المشرقة، وكانت حركات هذا الرقص لا تزيد على أن تكون اتصالا جنسيا فنيا تبدي فيه المرأة تأوهاتها.
إننا لا نرضى أن تبقى موسيقانا وأغانينا تأوهات منغمة كانت تتناسق مع الرقص الذي ألغيناه، ولكنها لا تتناسب مع حياتنا الناهضة العصرية.
بل إني عندما أسمع رجلا يغني أحس أنه يقهر نفسه على اتخاذ أسلوب نسوي في الإحساس الفني، وتفسير ذلك واضح، وهو أن غناه إنما ينشأ في بيئة الرقص البلدي، فكان يتسارق ويتناسق، أي يتلاحن ويتناغم مع الحركات والتنهدات والتأوهات التي كان ذلك الرقص يقتضيها في المرأة، وقد كان الرقص مقصورا على المرأة، ولو أننا كانا قد علمنا هذا الفن للرجال لتغير الغناء والموسيقى إلى فن ملئ بالشهامة والقوة والنشاط.
في أوروبا يمنحون لقب دكتور للدارسين للموسيقى بعد سنوات في الجامعة، فهل نستطيع أن نتخيل أننا نعطي هذا اللقب لأحد المغنيين والموسيقيين في مصر؟ لا ...
إننا نطلب الموسيقى الأوروبية؛ لأنها موسيقى النشاط والانتعاش، وهي تربية للإحساس وارتفاع بالنفس إلى الاقتحام.
الفصل الثمانون
لنكن أدباء وشعراء
الناس اثنان، فهناك الرجل الحيواني الشره، ومهمته اقتناء المال، ولكنه ينتهي بأن يقتنيه المال، ويحدد آفاقه، ويحصر تفكيره في الإثراء، أما الآخر فهو الفنان، الذي قد يفشل في المال واقتناء العقار، ولكنه يقتني لنفسه مسرات نفسية وذهنية تجعله يحس كأنه يقتني هذه الدنيا كلها، بل هذا الكون بأجمعه.
وعندما يصل هذان الاثنان إلى سن الستين أو السبعين نجد أن الأول كان ولا يزال «مرمطونا» يعيش في المطبخ ويتحدث عن البقول واللحوم، في حين أن الثاني؛ أي: الفنان، قد صار أديبا أو شاعرا يستمتع بملذات أنيقة في شفق ملتهب أو نجوم خافتة أو فكرة ارستطالية أو طائر مغرد، وهو يجد الانتعاش الروحي والمذاق الفني في بيت من الشعر، وهو يحس صداقة مع المعري أو غاندي، وهو يفرح بالحياة فرح الأطفال؛ لأنه لم يشخ قط، وفوق ذلك تبقى نفسه سليمة؛ لأن المزاج الأدبي هو مزاج التفريج والتنفيس ؛ أي: أنه لا يكظم .
أما طالب الثراء المادي، الذي يجمع العقار ويكظم كثيرا؛ لأنه يخاف كثيرا، وليس عنده وسيلة الفن والأدب والشعر للتنفيس، ولذلك كثيرا ما تمرض نفسه.
اعتبر الليل أيها القارئ، فهو عند الأول ظلام يخفي الدنيا ويدعو إلى النوم والنسيان، ولكنه عند الثاني، الذي انتعش ذهنه بالشعر والأدب، ظلام يخفي الدنيا حقا، ولكنه يكشف عن الكون بنجومه؛ أي: شموسه وكواكبه، وهو كون يزيد على كواكبنا آلاف بل ملايين المرات، والقيمة الرمزية لهذا المثل واضحة، وهي أن ما يضيق به طالب الثراء المادي ينفسح أمام الأديب الفنان.
رؤية الأديب هي رؤية الطبيعة التي يستلزمها، والمعاني التي يستنبطها، والآفاق العظيمة المترامية من الحياة يتعمق حقائقها ويتوسع في معانيها، في حين أن ذلك الثرائي المادي الذي يجمع ويكتنز ويثري يحد حياته بحدود هذه المهام، وهو بذلك يحد استمتاعه ويحد رؤياه.
ثم تجد لذلك أن الأدب والشعر يكسبان حياتنا معنى ودلالة لنكن أدباء وشعراء.
الفصل الحادي والثمانون
آلة الراديو واسم الراديو
يقال أن ما أنفق على مجمع فؤاد للغة العربية منذ إنشائه إلى الآن (1949) يبلغ نحو مئة ألف جنيه، وقد كان الهدف من إنشائه هو إيجاد الكلمات العربية «الصحيحة» للأسماء والكلمات الأجنبية التي استحدثها العلم العصري.
ثم هناك هدف آخر دائم يجب أن يبقى ماثلا أمام المجمع، وأن يتجدد حتى بعد الانتهاء منه هو تأليف «معجم للغة العربية».
وليس شك أن هذا الهدف الثاني «الدائم» هو أعظم ما يجب أن يضطلع به المجمع، وهو ما يجب أن يسأل عنه ماذا أتم منه؟ ومتى يطبع وينشر بين الجمهور المثقف؟ فإن لغتنا العربية تخلو من هذا الأصل الذي يبين لنا تاريخ كلماتها وتطور معانيها.
لذلك يجب أن نلح ونكرر الإلحاح في استعجال المجمع في إخراج هذا المعجم الذي ينيرنا عن اشتقاق لغتنا، فنكتب على دراية دقيقة بالمعاني، وهذا بالطبع غير «المعجم الشعبي» الذي لا يتوسع في تاريخ الكلمات، ولكنه يضع المعنى بإيجاز في التعبير واقتصاد في الشرح.
على أن المجمع لم يستطع إلى الآن على الرغم من إنفاق نحو مئة ألف جنيه أن يخرج أحد هذين المعجمين، وهو، كما تدل على ذلك تقاريره ومطبوعاته، يلتفت كثيرا إلى ترجمة المصطلحات العلمية بكلمات عربية «صحيحة».
وهذا مجهود نحب أن يبتعد عنه المجمع ابتعادا تاما، ذلك أن الكلمات العلمية لا تنتمي إلى إحدى اللغات العصرية، فكلمات الطب مثلا ليست إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية، وإنما هي «طبية»، بحيث إن المهندس الإنجليزي، أو التاجر الألماني، أو الأديب الفرنسي، لا يعرفها، وإنما يعرفها طلبة الطب في القاهرة وباريس ولندن، وإذن فمحاولة المجمع ترجمة هذه الكلمات؛ أي: إيجاد كلمات عربية لها، إنما هي محاولة عقيمة، وهي زيادة على ذلك تقطع ما بين الطالب المصري واللغة الطبية العالمية، بحيث يتكلف مشقة جديدة كي يدرس الطب في لغة أجنبية.
ونزيد على ذلك أن هذا الاتجاه كله خطأ؛ لأن مصر لا تحتاج إلى أن تعرف اسما جديدا للراديو، وإنما هي في حاجة أشد الحاجة إلى أن يدرس شبابها آلة الراديو، فنحن نحتاج إلى كتب علمية مفصلة، وأخرى شعبية يدوية تشرح لنا آلة الراديو وآلة الأتمبيل وآلة الميكرسكوب وآلة القاطرة، أما الأسماء فلا تهمنا كثيرا، بل يهمنا أن نعرفها كما عرفتها جميع الأمم.
إن في المجمع عيبا أصيلا، هو أنه لا يستلهم الماضي فقط ولكنه يتقيد به، ثم هو مع ذلك يكاد يقاطع المستقبل أو يتجاهله، مع أن هذا المستقبل لا يقاطعنا، ولا يتجاهلنا، ولكنه يتحدانا.
الفصل الثاني والثمانون
الرحلات الفضائية
لم يكن أحد يعتقد إلى وقت قريب أن هناك تطورا آخر في التنقل البشري يزيد على الطيران؛ أي: الانتقال من مكان إلى آخر بالجو.
ولكن وزارة الطيران الأمريكية أعلنت قبل أسابيع أنها أرسلت صاروخا ارتفع إلى مستوى يبعد عن الأرض بمقدار 400 كيلو متر تقريبا، وليس في هذا المستوى جو؛ أي: هواء؛ لأن طبقة الهواء التي تحيط بالأرض لا تزيد على خمسين أو ستين كيلو مترا، أما بعد ذلك ففضاء خواء.
وكان هذا الصاروخ يحمل معه قمرات فوتوغرافية استطاعت أن تنقل صورة الأرض وهي على هذا البعد الشاسع ، ونقلت لأول مرة في تاريخ البشر صورة الانحناء الكروي للأرض؛ لأن عدستها المرتفعة تناولت مساحة كبيرة جدا من هذا الكوكب فظهر الانحناء.
والفرق بين الطائرة الجوية والصاروخ الفضائي أن الأولى تطير؛ لأن لها مراوح تضرب الهواء فتندفع كما تندفع الباخرة بدواليبها التي تضرب الماء، أما الصاروخ فينطلق بقوته الخفية، ثم يتجاوز الهواء، ويسير في خواء بأيسر قوة؛ إذ لا يجد ما يصدمه أو يعوقه.
وعندما تخرج الصواريخ من طور التجارب إلى طور الخدمة سوف يكون من الميسور أن نقرأ جرائد باريس أو لندن في القاهرة بعد صدورها بربع ساعة، ثم قد يلغى السفر بالطائرات وتقصر الرحلات البعيدة على الصواريخ.
وأبعد هذه الرحلات في الممكنات البشرية الحاضرة، أو المقدرة هي تلك التي سوف نقطعها إلى القمر، ولم يعد هذا خيالا بعد اختراع الصاروخ، ولا نذكر هنا الذرة؛ لأن ممكناتها أعظم جدا جدا.
في سنة 1909؛ أي: قبل أربعين سنة، كنت في لندن، وطار في تلك السنة الطيار الفرنسي «بليريو» فقطع المسافة بين فرنسا وإنجلترا في دقائق، وأخذت شركة سيفلردج طائرته وعرضتها في متجرها اجتذابا للمتفرجين، وكنت بين هؤلاء، ورأيت في هذه «اللعبة» على ركاكة صنعها آفاقا جديدة للمستقبل البشري تبعث التفاؤل، ومن ذلك الوقت أصبح التفاؤل عندي داء، على الرغم من الكوارث التي حلقت وما زالت تحلق فوق برلين وغير برلين.
أجل، إن العلم يندفع نحو الاختراع، والإنسان يتسلط على الطبيعة، بل يعيد كيانها ويغيره، وهذا الصاروخ سوف يحملنا إلى القمر، فنحمل إليه الهواء والماء وبذور النبات والحيوان، ثم بعد ذلك يكون استعمار الكواكب الأخرى.
إن رجل الأدب يؤلف قصائد من الشعر تقرأ وتغنى، ولكن رجل العلم سوف يؤلف قصيدة، بل علياءة، تتخطر أبياتها وترقص عبر الفضاء، بين الأرض والقمر فتتغنى بها الكواكب والنجوم.
الفصل الثالث والثمانون
العالم في أزمة القدر
كان من دأب بعض الكتاب الأوروبيين أن يقولوا: إن العلوم المادية قد تقدمت إلى درجة خطيرة، وإن العلوم الاجتماعية قد تخلفت عنها، وإنه قد نشأ من التفاوت قصور في استخدام المكتشفات والمخترعات الآلية والكيماوية والبيولوجية لمصلحة البشر، وإنها لذلك قد تستخدم للضرر وليس للمنفعة.
والمتأمل لهذا الموضوع لا يتمالك نفسه من الإحساس بأن الإنسان لم يحصل بعد التربية الاجتماعية والسياسية التي يتوقى بها الضرر، وأنه كان يكون من الحظ الحسن لو أن هذه المكتشفات والمخترعات قد تأخرت إلى وقت يكون قد أتم فيه الإنسان تربيته الاجتماعية والسياسية.
ولذلك نحن بني البشر جميعا، من شرقيين وغربيين، وبيض وسود، نعاني أزمة القدر، ونكاد نسمع وقع أقدام التاريخ وهي تقترب منا اقترابا مشئوما حين تصطدم الدول الكبرى في المناورات الدموية القادمة.
ونحن نقرأ الجرائد كل صباح ومساء، فتكاد أخبارها تصطك في آذاننا كما لو كانت قنابل، فنحس أن العالم في تزعزعه الحاضر يومئ بل ينحدر، إلى الحرب، وهي حرب جامعة جامحة سوف تشترك فيها جميع الأمم في العالم.
ولكن على الرغم من الأخطار المتوقعة، هنالك ميزة، هي هذا التنبيه الدائم الذي يشبه الإحساس الديني، وهو أن هذه الأمم يجب أن تنتهي إلى وفاق وإلى إخاء، وأن الأخطار العظيمة المتوقعة سوف تجعل الوفاق والإخاء محتومين.
ولهذا يجب أن نقرأ الصحف وندرس السياسة بالروح الديني، روح المسئولية عن الأخطار القادمة للبشر الذين أصبحوا يترجحون بين البقاء والفناء، وليس لهذه المسئولية بالطبع نتائج عملية محسوسة، ولكنها تربي ضميرنا وتذكي عقلنا.
وتتابع هذه الأحداث العالمية الخطيرة يجعلنا نحس كأننا نعيش بسرعة لم يكن الجيل السابق يعرفها، بل الواقع أننا لا نحس فقط لهذه السرعة بل نمارسها؛ لأن العالم يسرع في تطوره، بل أحيانا يهرول، وقد تتغير الدنيا في يوم واحد بأكثر مما تغيرت في عام أو أعوام قبل خمسين سنة.
ويجب لذلك أن نقرأ الصحف الجدية بروح الجد، فلم تعد الصحيفة ملهى نتسلى به؛ لأن العالم الحديث، في أخطاره الراهنة والقادمة، لم يعد يتسع للهو، والصحيفة الجدية تربينا وتنبهنا، في حين أن الصحيفة المسلية تخدرنا وتنومنا.
الفصل الرابع والثمانون
تربية أديب
يستوفي «أندريه جيد» في نوفمبر القادم من 1949 ثمانين عاما من الخلود.
وهو في الوقت الحاضر أديب فرنسا ؛ أي: أديب أوروبا؛ لأن فرنسا هي الوطن الأدبي للعالم الأوروبي، ولذلك نجد أن الصيحة العالمية في الأدب والفلسفة هذه الأيام تتركز حول الأديب أندريه جيد والفيلسوف بول سارتر، وكلاهما من أبناء باريس، المدينة الفنانة.
وتربية الأديب من أشق الأمور، فإن الوراثة والوسط يجب أن يتواطآ على إيجاده وتنشئته، حتى إذا بلغ سن التأليف كانت جمجمته حافلة بالمركبات الذهنية التي تثير في نفسه السخط، وتجذبه إلى البحث، وتعين له المنهج.
وقد خمل أندريه جيد نحو عشرين عاما بعد أن وضع قدمه على عتبة الأدب، ثم انفجرت شهرته بعد الخمول، وفي العام الماضي توجت شيخوخته بجائزة نوبل.
ولكن ماذا نقول؟ إنه لم يبلغ الشيخوخة، بل إن رذائل الشباب لا يزال قلبه يحمى بها، وهو هنا مثل زميله الإنجليزي العظيم «برنارد شو» الذي لا يزال وهو في الثالثة والتسعين يحتفظ بروح الشباب في غير وقار، بل أحيانا في وقاحة واستهتار.
ولد أندريه جيد في عائلة بروتستنتية في أمة كاثوليكية، فامتاز بما يمتاز به أحيانا أبناء الأقليات من هذا الشذوذ الاجتماعي الذي ينبه ويوقظ.
وعرف أيام شبابه «أوسكار وايلد» وتعلم منه الاستهتار، والاستهتار الجنسي خاصة، ولكن يجب علينا أن نستمع إلى كلمة نيتشه هنا، وهي: «ماذا علينا أن نقرأ العبقريين حتى ولو كانت في رءوسهم بعض الديدان؟.».
وفي شبابه زار الجزائر، وتوغل في الاستمتاع النفسي والذهني والجسدي، وفي 1925 زار إفريقيا السوداء في كونجو، وعرف الاستعمار، وانبلجت له حقائق كانت تشتبه عليه قبل ذلك في شأن الحضارة الأوروبية، وعرف مما رأى في الجزائر، ثم في كونجو، أن الاستعمار هو كارثة البشر وفضيحة الحضارة، وأن الإنسان المتمدن يجب أن يكافحه حتى يمحوه.
وفي عام 1936 زار روسيا، ودرس هذه الدولة الجديدة، ووجد فيها ما ظنه قيودا للحرية، وهنا نجد أن الديدان لا تزال تنغل في رأسه؛ إذ لام الروسيين؛ لأنهم قيدوا الحرية ووضعوا العقوبات للشذوذ الجنسي.
وكانت هذه السياحات الثلاث تربيته التي عرف منها الدنيا؛ لأن نظرة الأديب هي في النهاية النظرة العالمية البشرية التي تتجاوز حدود الوطن والأمة، وهو يحتاج لهذا السبب إلى أن يسبح في أنحاء العالم، وأن يدرس آثار الماضي وعلامات المستقبل.
وقد ظهرت ترجمة إنجليزية هذا الشهر لكتابه «الجورنال»؛ أي: المذكرات اليومية التي ينقل فيها إحساساته وتأملاته، والعجب في هؤلاء الإنجليز أنهم ارتضوا السجن لأوسكار وايلد سنتين، ثم هم يرحبون الآن بتلميذه الذي يدعو دعوته.
وأعظم ما يفتن في أندريه جيد هو هذا الأسلوب الفرنسي المستقطر، وهذا الاستطلاع السيكلوجي الذي يفتح الذهن على مكامن الظلام وأودية النور في الطبيعة البشرية، وأخيرا هذا التعلق بالحرية.
الفصل الخامس والثمانون
الشيخوخة المعذبة في مصر
إن الشيخوخة في مصر لا تجد ما تستحق من عناية، فإن الحكومة تقيل الموظف من عمله وهو في الستين، وتستغني بذلك عن اختباراته القيمة، مع أنه قد يستطيع العمل عشر سنوات أخرى ربما تكون خير سني حياته للخدمة الحكومية، وصحيح أن جهده الجسمي في هذه السنوات ينقص، ولكن ليس هناك أي دليل على أن جهده الذهني الذي تحتاج إليه الحكومة ينقص أيضا، بل إنه يمتاز على من دونه في السن بالخبرة التي تلهمه الحكمة والتبصر.
ثم هو حين يقال في الستين لا يجد شيئا من الاستمتاع، فليس عندنا أندية للمسنين، ثم نحن نقحم عليهم وقارا متزمتا ينكر عليهم الاستمتاعات البسيطة، فإذا لبس المسن جاكتة بيضاء، أو كرافتة حمراء، أو إذا سار على الشواطئ ببنطلون أبتر، أو إذا ضحك فقهقه، أو إذا زار الدور السينمائية أو غير ذلك، اتهم بالخروج عن عادة الشيخوخة ووقارها.
وهذا الوقار الإلزامي شرقي في أساسه، ولعل له علاقة بتلك الحركات الصوفية التي كانت تدعو إلى الهدوء والتأمل، أو الركود، وهو ركود الكسل والتعفن والبلى، فأصبح الصلاح يقصد منه خطأ كراهة النشاط والتزام السكينة بدعوى الوقار، وشيوخنا يذبلون لهذا السبب، وهم يقضون سني حياتهم التي قد تطول بعد الستين في ملابس قاتمة توحي بالكآبة والاغتمام في عزلة البيت أو على المقهى لتبديد الوقت في ألعاب الحظ السخيفة، أو في الزيارات العقيمة للأقارب!
واعتقادنا أن الحكومة تنتفع كثيرا، اقتصادا وكفاءة ، إذا رفعت سن الإحالة على المعاش إلى الخامسة والستين، ما لم يطلب الموظف هذه الإحالة لأسباب شخصية، وسن الخامسة والستين، بل سن السبعين، هي سن المعاش في كثير من الأمم الأوروبية، وخاصة في القضاء الذي يحتاج إلى أكبر المجهودات الفكرية.
واعتقادنا أيضا أننا يجب أن نربي جمهورنا على أن يعترف للمسنين بحقهم في النشاط الاجتماعي، والزي الاجتماعي، حتى لا يحس المسن أنه يختلف عن غيره، وحتى لا يكون لهذا أثر نفسي سيئ عنده، فيجب ألا ننتقد السيدة التي تزيد على الستين أو السبعين من العمر إذا وضعت وردة على صدرها أو صبغت شعرها، وإن كان الشعر الأبيض هو أجمل صبغة للمسنين.
ثم هناك واجب على المسنين هو أنه يجب ألا يهملوا رقيهم الشخصي والاجتماعي والثقافي وألا يركنوا إلى الركود، فعليهم أن يعنوا بملابسهم أكبر العناية، وأن يقرءوا ويحضروا الاجتماعات، ويهتموا بالشئون الحيوية لبلادهم حتى تبقى نفوسهم حية.
وقد بعثتني هذه الحال التي يعانيها شيوخنا على أن أؤلف كتابي «كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين»، وإني أرجو أن ينتفع به المسنون.
الفصل السادس والثمانون
عرف المجتمع ومصلحة البشر
معظم الناس يسيرون في تفكيرهم وعاداتهم على العرف الجاري، وليس في هذا بأس؛ لأننا ما دمنا نعيش في مجتمع فإننا يجب أن نأخذ بقواعده في الأخلاق والعادات والتفكير، ولكن هناك من يلتزمون الحرف دون الروح في هذا العرف الاجتماعي، وهم بذلك يأخذون بالقشور دون اللباب، ولا يتجاوزون الواقع إلى الخيال، أو هم يجمدون عند القاعدة كأنها خلاصة الحكمة بدلا من أن يفكروا في الآفاق أو يتعمقوا الأصول.
فمن هؤلاء مثلا، من يعنون أكبر العناية بارتداء السواد عند وفاة قريب والسير خلف الجنازة، ولكنهم لا يفكرون في الأرملة وأطفالها الذين يحتاجون إلى مختلف المساعدات بعد وفاة عائلتهم.
وهناك من يبعثون بالبطاقات للتهنئة في كل فرصة، كالأعياد أو غيرها، ولكنهم لا يؤدون خدمة بارة لمن يستحقونها في مثل هذه الفرصة.
بل هناك من أولئك العرفيين من يتحدثون عن الزواج أحيانا، سواء أكان ؛ لأنفسهم أم لبناتهم أم لقريب لهم، كأنه احتفال متلألئ ومقصف يئن بأثقال من الطعام من المملكة الحيوانية والمملكة النباتية، أما حياة هذين الشخصين اللذين سيربطان نحو خمسين سنة فليست ذات شأن عظيم.
ورجل العرف يحب الرسميات والظواهر، ويحيلها إلى شعائر يكاد يكون لها قوة الدين في الطاعة والانقياد، حتى ولو كان في ذلك إرهاق لمن يمارسونها.
ولذلك علينا أن نفطن إلى أن المصلحة البشرية يجب أن تسمو في جميع اعتباراتنا على العادة الاجتماعية؛ أي: يجب أن يكون شعارنا الخدمة وليس العرف، بل يجب في بعض الظروف أن نهمل العرف ونلغي العادات الاجتماعية وجميع الظواهر؛ كي نخدم المصالح الحقيقية العليا لإحدى العائلات أو لأحد الناس فنقنع العائلة الفقيرة بألا تنفق على الجنازة، وإنما تنفق على الأطفال ونقنع الشاب الفقير أو المتوسط بألا يبالي بهارج العرس ولألأته، وإنما ينفق على توفير الوسائل التي تسعده هو وزوجته في المستقبل، أما القادرون المتخمون بالترف فليس من يلومهم على التزام العرف مهما تبلغ تكاليفه.
الفصل السابع والثمانون
لنكن اجتماعيين
ليس هناك من المناظر البشرية الجميلة ما هو أجمل من العائلة التي يرتبط أفرادها بالحب والحنان، ويتعلق فيها الأبناء بالآباء والآباء بالأبناء، ولكن الرجل الذي يسرف ويلتصق بعائلته كل الالتصاق، لا يعرف غير بيته ومكتبه، هذا الرجل لا يمكن أن يعد متمدنا.
ذلك أن الأمة المتمدنة تتألف من مجتمع وعائلة، والرجل العائلي الذي يقاطع المجتمع لا يعيش الحياة المليئة ولا يستمتع بالإحساس الاجتماعي الذي يربيه ويثير في نفسه الاستطلاع إلى الرقي؛ لأن الرقي، سواء بالثراء أو الثقافة أو الوجاهة، إنما هو معنى اجتماعي يتجاوز الاعتبارات الاجتماعية الواسعة.
والمرأة العائلية التي تسرف في التزام بيتها، ولا تفكر في غير أبنائها ومطبخها وزوجها، هذه المرأة تنتهي بهذا الالتزام إلى ضيق العقل وفقر العواطف البارة، وقلة الآفاق التي تجعل تفكيرها محدودا أو شخصيتها هزيلة.
إن التمدن يقتضينا أن نكون عائليين واجتماعيين معا، نخرج من البيت ونشترك في ألوان من النشاط الاجتماعي، فنستضيف ونستضاف، ونكون أعضاء في الجمعيات والمنظمات والأحزاب التي تعمل للخير أو تنتصب لغاية بشرية سامية لتأييد فكرة اجتماعية أو لترويج نظرية علمية، ويجب أن يكون لكل منا، رجالا ونساء وشبانا وكهولا، النادي الذي نجد فيه الأصدقاء والزملاء، بل يجب أن نخرج من وقت لآخر إلى المطاعم والمشارب العامة.
إن المجتمع يربينا أكثر مما تربينا العائلة؛ لأنه في الأكثر يخاطب عقولنا، في حين أن العائلة في الأكثر تخاطب عواطفنا، وهو في أكثرها إيثار، في حين أن العائلة في أكثرها إثرة، ثم إن الإحساس الاجتماعي خير كفيل بصيانة الأمة في النهاية من الفوضى أو الاستبداد في الحكومة؛ لأن الرجل الذي اتجه وجهة اجتماعية يحس على الدوام أنه مسئول عن النزاهة والشرف والكفاءة في الحكم.
يجب ألا تحجزنا العائلة عن المجتمع، كما يجب ألا يجذبنا المجتمع بحيث نهمل العائلة.
والرجل الأمثل ليس هو ذلك الذي «لا يعرف غير بيته» وكذلك المرأة المثلى ليست هي الأم أو الزوجة فقط، وإنما هي تلك التي تدرس السياسة العامة، وطنية وعالمية، وتشترك في المشروعات الاجتماعية، وتصوت في الانتخابات البرلمانية، وتهتم بشئون العلم والسياسة والتجارة؛ أي: تكون عضوة حية في المجتمع، تضيف وتستضاف، وتشترك في الجمعيات والأحزاب، بل وتحترف حرفة تؤدي بها خدمة اجتماعية منتجة.
الفصل الثامن والثمانون
حياة الفطرة والفن
كثيرا ما نسمع أو نقرأ عن جمال الطبيعة والحياة الفطرية وسذاجة العيش، وهذا كلام حسن لولا أنه يحمل بعض الالتباسات التي تعوق الفهم الصحيح لما يريده دعاة الطبيعة.
ذلك أن الحضارة القائمة تبهظنا بأعباء وتكاليف كثيرة معظمها بهارج زائفة قد قضى علينا بها المجتمع بعاداته وتقاليده، فنحن نعيش مندفعين في سياق الاعتبارات الاجتماعية التي ننشد بها الأبهة والثراء، ونقتني شارات الترف فنزحم منازلنا بالأثاث الثقيل الذي تتعدد أشكاله وألوانه، ونحتفظ بمظاهر توهم الغير بأننا قادرون أثرياء ممتازون، بل لقد ينتهز أحدنا الفرصة في عرس أو جنازة، أو أية مناسبة أخرى، فيرهق نفسه بتكاليف توهم الغير بأنه في مكانة اجتماعية ممتازة.
والفرار من هذه الحضارة المرهقة كسب لا شك فيه، وهو كسب الاستغناء عن البهارج الكاذبة والاعتبارات السخيفة.
ولكن الحياة العالية هي الحياة الفنية المثقفة، فيجب ألا ينطوي استغناؤنا عن البهارج والشخاشخ على أن نستغني عن الفن والثقافة.
لقد كان تولستوي يكره الحضارة، وقد ترك المدينة وعاش في الريف، ولكن حبه للطبيعة، وغرامه بحياة الفطرة، لم يمنعاه من ممارسة الفنون ودراسة الثقافة، وكذلك الشأن في غاندي فإن قناعته بالعنزة لغذائه، والشملة لكسائه، لم تكن لتمنعه من قراءة الكتب العالية والجرائد الجدية.
وليس الغنى مقصورا على الأثاث أو البناء أو الموسيقا أو الشعر؛ لأننا يجب قبل كل شيء أن نعيش الحياة الفنية، نستغني عن المائدة المطهمة، ولكن لا نستغني عن الذهن المثقف والذوق المتأنق، ولا بأس بأن نعنى بملذات الجسم، ولكن يجب أن نعنى أكثر بملذات النفس العليا.
لقد كان غاندي وتولستوي وروسو وثورو ساذجين في عيشهم يقنعون بالكفاف من الغذاء واللباس، وكانوا يعيشون الحياة الفطرية يحبون الحقول، ويصلون للشمس في بزوغها، ويتحدثون إلى النجوم في الليل، ولكنهم كانوا جميعهم يمتازون بعقول مركبة مثقفة تحفل بالنظريات والتأملات.
ولم يكن اسغناؤهم جهلا، ولكنه كان فنا.
الفصل التاسع والثمانون
كراهة المخالفين لنا
حدث في أثناء الحرب الكبرى الأخيرة أن دعاني نادي «سمطس» وكان أعضاؤه من دولة إفريقيا الجنوبية المتحدة، كي أتحدث إليهم عن مصر وأشرح لهم ما يجهلونه، وكانت سياستهم في ذلك الوقت تتجه نحو الاتحاد معنا باتفاقات اقتصادية وعسكرية.
فلما انتهيت من حديثي سألني «جنرال» من الأعضاء سؤالا غريبا، ولكنني لم أعجب منه؛ لأني كنت أعرف مأتاه من الحال القائمة في إفريقيا الجنوبية، فإنه قال: «لماذا ترضون بالاتحاد مع النوبيين مع أنكم شعب آخر؟.».
وكان يعني بهذا السؤال أن النوبيين سود ونحن بيض أو سمر، وأننا يجب أن نعاملهم كما يعاملون هم السود في إفريقيا الجنوبية؛ أي: نحرمهم من التعليم وحق الانتخاب.
فأجبته بكلمة موجزة تقطع المناقشة، وهي أن هؤلاء النوبيين أقرب إلى الفراعنة منا، ولا تزال لغتهم تحمل المئات من الكلمات الفرعونية، وهم لذلك أكثر مصرية وأحق بمصر.
وليس لهذه الكراهية للسود، التي تبلغ الاشمئزاز أحيانا ، من سبب سوى الاختلاف ، وقد سمى العرب كل من يختلفون عنهم «أعاجم»؛ أي: أنهم خرس، كما سمى الإغريق غيرهم «برابرة»؛ أي: متوحشين، والآن نجد أن البيض في الولايات المتحدة وفي إفريقيا الجنوبية يكرهون السود، وقد كان هتلر يصف الزنوج بأنهم «قرديون» وقد وصفنا سافل من سفلة الكتاب الإنجليز يدعى دجلس سليدن بأننا «صفر زرق» وذلك قبل نحو أربعين سنة، ولكن الاختلاف وحده لم يكن هنا سببا لهذا السباب؛ لأن المبادئ الإمبراطورية كانت خلفه.
وإذا استثنينا القليل من السلالات البشرية في أستراليا وتسمانيا وإفريقيا لا نكاد نجد فرقا في الميزات البشرية بين الصيني والأوروبي، أو بين الأوروبي والزنجي، وقد عرف القراء في الأشهر القليلة الماضية أن الدكتور بانش نائب مجلس الأمن في مسألة فلسطين ينتمي إلى جد زنجي، وكلنا يعرف أن الأديب الروسي بوشكين، وكذلك الأديب الفرنسي ألكسندر دوماس، كانا ينتميان إلى جدين زنجيين.
وهذه الكراهة لمن يختلف معنا أو يخالفنا هي عاطفة بدائية غشيمة يجب أن نهذب أنفسنا منها، وإن كنا لا نستطيع أن ننكر أن الكارهين إنما يتسترون خلف هذه العاطفة أحيانا، ويستغلونها في الشعوب، كي يستطيعوا استخدام الزنوج أو غيرهم من الصفر والسمر بأجور وضيعة تدر عليهم الربح الوفير، فإن الاستعماريين مثلا يقيمون من هذه الكراهية نظرية «علمية» مزيفة قوامها أن السلالات البشرية تختلف في الكفاءة الذهنية، وعندئذ يجدون المنطق الذي يجيز لهم الاستعمار والسيادة والتسلط.
الفصل التسعون
قادة العالم
من الأخبار التي تلتفت إليها صحفنا خبر خطير، بل غاية في الخطورة؛ لأنه يدل على فلسفة جديدة واتجاه جديد، ذلك أن المسيو بوس، وهو ثري فرنسي يملك عددا كبيرا من البواخر، قد منح جامعة أكسفورد الإنجليزية مليون ونصف مليون جنيه لتأسيس كلية جديدة لتخريج القادة للعالم، وشرط أن يكون ثلث الطلبة من الفرنسيين.
ولا يعرف لماذا اختار أكسفورد دون السوربون، وربما كان لمركز أكسفورد العالمي بعض الوزن في هذا الاختيار، ويجب أن نذكر أن المسيو بوس يتجه اتجاها عالميا بهذا التبرع العظيم، فلا يمكن أن يتقيد باعتبارات وطنية ، وحسبه من هذه الاعتبارات الوطنية أنه شرط أن يكون ثلث الطلبة من الفرنسين.
ولو أن المسيو بوس كان يعيش قبل 500 أو 1000 سنة وأحس في نفسه بهذه النزعة الكريمة لشيد كنيسة كاتدرائية كبرى، ولكنه يعيش في القرن العشرين حيث قد أنشأ لنا العلم مشكلات يجب أن يحلها العلم لا الدين.
فنحن نعيش في أسر مشكلات اقتصادية وإنتاجية وثقافية عديدة، كما أن عالمنا قد اشتبك حتى لكأننا قطر واحد بل قرية واحدة، فإذا تزعزع الدولار في نيويورك ارتفع ثمن الذهب في القاهرة، وإذا حدثت أزمة في لنكشير انخفض ثمن القطن في الإسكندرية، ونحن نتحدث عن المباراة الحرة للصناعات، وعن التأميم للفحم أو البترول، كما نتحدث عن استخدام الذرة للإنتاج السلمي أو للفتك الحربي، وقد فشت أخلاق جديدة أوجدها الإنتاج الصناعي الآلي، وهي تصطدم بالأخلاق الزراعية القديمة في جميع الأمم، وهذه جميعها مشكلات علمية.
وقد كانت الحرب الكبرى الثانية فرصة للحضانة الفكرية بشأن المستقبل، وقد أحس القادة وقتئذ بأن العالم يحتاج إلى منظمة جديدة تشرف على مصيره وتحل مشكلاته، فكان من ذلك منظمة الأمم المتحدة.
والعالم يزداد ارتباطا ويزداد كذلك مشكلات، ولم يعد علم السياسة أو فنها مقصورا على الاعتبارات الوطنية، ولذلك لا بد من دراسات جديدة لأبناء الجيل الجديد كي يحلوا مشكلاتهم الحاضرة والمستقبلة، ومن هنا قيمة الكلية الجديدة في أكسفورد.
ويجب أن يدرس الطلبة هناك كل شيء يمس هذه الارتباطات والمشكلات الجديدة، ويجب أن يتوفروا على الدراسة، ولا بأس من أن يتخرجوا بعد دراسة علمية في سن الأربعين أو الخمسين على فلسفة بشرية جديدة تنحو بالعالم المرتبط نحو السلم والأمن والرخاء والثقافة.
الفصل الحادي والتسعون
ضريبة الضمير
عندما نرى طفلا يتألم من جرح أو مرض، أو عندما نرى الترام يدوس صبيا ويقطع قدميه، نتأثر ونحزن، وقد نبقى متأثرين أياما، ولكن عندما تروي إحدى الصحف أن خمسين ألف إنسان بين رجل وامرأة وطفل قد ماتوا في الهند أو الصين في المجاعة، نمر بهذا الخبر كما لو كان من الأشياء العادية التي لا تستحق التفكير أو الاهتمام .
وهذا يدلنا على أننا نتأثر بالحس أكثر مما نتأثر بالعقل، بل هذا هو ما يجرئ الطيار على أن يلقي القنابل على المدينة، فهو يعرف أنها سوف تبقر بطون الأمهات، أو تمزق وجوه الأطفال وتحطم أجسام الرجال، يعرف كل هذا بعقله، ولكنه لا يراه بعينيه، ولذلك لا يتأثر، ولو أن هذا الطيار طلب إليه أن يذبح طفلا بيده لاستفظع هذا الطلب ورفض القيام به، مع أنه في كل رحلة حربية يقتل مئات الأطفال أو يصيبهم بجراح أليمة مميتة.
ونحن نعيش بإحساسنا أكثر مما نعيش بعقولنا، ونحتاج إلى تربية السنين حتى يستحيل أحدنا من المادة البشرية الخامة، والضمير الغشيم، إلى العقل المفكر والإنسانية العالية، وعندئذ يكون لوقع المجاعة في الصين، أو إلقاء القنابل على النائمين، ذلك الوقع الذي نجده عندما نرى غلاما يمزقه الترام أو يتضور جوعا.
ونستطيع أن ننتقل إلى معنى آخر ليس من هذه المعاني التي ذكرنا ولكنه ينساق معها، ذلك أننا نخجل إذا طلب إلينا دائننا قضاء دينه وعجزنا، ونخجل إذا قيل إننا نماطل في أداء ديوننا؛ لأن الإحساس هنا شخصي حسي، ولكن هناك آلافا لا يخجلون ألا يؤدوا ديونهم للحكومة؛ أي: الضرائب التي تفرض عليهم، ذلك أن الحكومة ليس لها كيان شخصي وإحساسنا نحوها ليس حسيا؛ إذ هي لا ترى بالعين ولا تحس بحاسة أخرى فضمائرنا نحوها غشيمة.
ولكن الضمير المهذب الذي يعتمد على العقل يعرف أن حق الحكومة عليه لا يختلف عن حق أي دائن شخصي آخر، وهو لذلك يؤدي الضريبة راضيا، بل يطلب زيادتها؛ لأن الضريبة هي في النهاية الثمن الذي ندفعه كي نحصل على التمدن؛ أي: الأمن والصحة والتعليم والرفاهية.
وهناك في إنجلترا شيء يسمى «فلوس الضمير» وهو يبلغ عشرين مليون جنيه كل عام في قسم الإيرادات من الميزانية، ذلك أن الجابي، الذي يحاسب الممول الإنجليزي يسهو عن أشياء كانت تستحق الجباية، فإذا انتهى من حسابه وحصل على حق الحكومة عاد الممول إلى المراجعة، فإذا وجد أن هذا الجابي قد أغفل شيئا عمد هو ونزعه من ماله وأرسله إلى الحكومة.
وهذا إحساس سام يجب أن يتصف به الرجل المهذب في الأمة الراقية، وعلى كل منا أن يذكره ويعمل به، إحساس العقل المهذب الذي يرتفع برؤية الدنيا من خلال العقل والفهم، وليس من خلال الحواس الخمس.
الفصل الثاني والتسعون
نحو المستقبل
أكتب هذه الكلمات وأمامي صورة لبقرة جيرزية من ذلك البقر الذي جلبته كلية أسيوط الأمريكية، وهذه البقرة وحدها تدر في اليوم الواحد 63 رطلا من اللبن؛ أي: أن هذه البقرة تستطيع أن تغذي اثنتين وثلاثين عائلة مصرية باللبن باعتبار أن كل عائلة تحتاج إلى رطلين فيهما غذاء للأطفال ودواء للصغار والكبار؛ لأن اللبن كما هو معروف يحتوي على جميع الفيتامينات التي لا يمكن لحي - إنسانا كان أم حيوانا - أن يعيش بدونها.
وقد استطاعت هذه الكلية أن تستحدث سلالات جديدة من البقر المهجن؛ أي: النتاج الذي ينشأ من عجول جيرزية وأبقار مصرية، وكان الإدرار عاليا لم ينقص بالتهجين، وتستطيع الحكومة، كي تزيد مقدار اللبن في مصر عشرة أضعاف المقدار الحاضر، وكي تخفض الثمن إلى النصف أو الثلث أيضا، أن تستورد ثلاثة أو أربعة آلاف بقرة ونحو مئتي عجل من هذه السلالة الجيرزية، تهجن به بقرنا، ولا يكلفنا كل هذا أكثر من مليون جنيه، ننفقه في هذا الخير الذي يعمم لنا الصحة والغذاء.
وهذه الكلمات التي أكتبها عن الأبقار الجيرزية في أسيوط تحرك في نفسي أشتاتا من العواطف، فاني آسف؛ لأننا لا ننشط إلى شرائها وتوزيعها بأثمانها أو بنصف أثمانها، ولكني أيضا أحس أن الخيال يستطيرني، فإن هذه البقرة الجيرزية لم تعد حيوانا، وإنما هي مصنع كيماوي لإحالة المادة النباتية إلى لبن وقشدة وزبد وجبن، لا بل أكثر من ذلك، فإن البقرة الحديثة قد أخذت بعادات عصرية لم تكن تعرفها أمها أو جدتها، ذلك أنها أصبحت تدر اللبن دون أن تحمل أو تلد، فإن حقنة من الإستروجين تغنيها عن تعب الحمل والولادة، فتتضخم الضرة وهي لا تزال عذراء، ثم تعطينا من اللبن كما لو كانت قد حملت وولدت .
وهذه حقيقة واقعة؛ أي: أن البقر يدر اللبن في أمريكا بطريقة عصرية، بل مستقبلية.
وإني أعتقد أنه ليس بعيدا أن نصنع اللبن قريبا بالتأليف الكيماوي، كما نصنع الفيتامينات جميعها تقريبا.
ولكن لنترك هذا الخيال المستقبلي ولنقبض على حقائق الحاضر، وأهمها، وأعظمها شأنا، أن نستورد الأبقار الجيرزية ونستولدها ونهجنها حتى يتوافر لنا اللبن غذاء ودواء.
الفصل الثالث والتسعون
الصناعة ... الصناعة
في ظروف العالم الحاضرة، وفي التطورات الاقتصادية التي تنمو وتتفشى، يجب أن نعد المصنع مقدسا من مقادس الأمة، ويجب أن نضع رجالنا القائمين بالصناعة في أعلى المراتب الاجتماعية، ويجب أن نجعل افتتاح المصنع ميسرا أقصى التيسير.
المصنع نفسه مدرسة؛ لأنه لا يعمل إلا بقواعد العلوم العصرية، ونحن نحتاج إلى هذه العلوم.
والمصنع أيضا وسيلة للثراء.
والمصنع وسيلة إلى القوة؛ لأنه هو الذي يصنع لنا الأسلحة والذخائر، والعالم في اضطرابه الحاضر يضطر إلى صنع الأسلحة والذخائر.
ولهذا كله يجب ألا ترهق المصانع بشروط تجعل إقامتها شاقة، ويجب ألا نرهق الصناعيين بضرائب تغل من إقدامهم وتثبط عزائمهم، أو تنقص مقدار الأموال التي يجب أن تتراكم، وأن تطفو في الأسواق المالية حتى تبعث على التوسع الصناعي والنشاط الاقتصادي.
ولست بذلك أنكر حاجة الحكومة إلى الضرائب، ولكن يجب أن تكون هناك سياسة عامة في فرضها وتقديرها، بحيث يؤدي هذا الفرض والتقدير إلى هدف نبصر به من الآن ونستطيع وتحقيقه بعد سنوات.
وخير لنا من أن نفرض الضرائب على الأرض الزراعية، وأن نزيد ضريبتها، بدلا من أن نزيد الضرائب على المصانع، ذلك لأن حضارة الأمة وأمنها، ورفاهيتها، وسلامتها من العدوان الخارجي كل هذا يتطلب بعث الصناعات الكبرى المتعددة ودعمها، وهي إلى الآن لا تزال مبتدئة تحبو، وتحتاج إلى من يسندها، أما الزراعة فثابتة لا خوف عليها.
وتطورنا الحاضر لهذا السبب يقتضي استغلال أموالنا في الصناعة أكثر مما يقتضي استغلالها في الأرض والزراعة، أجل، يجب ألا تكون الأرض مقبرة لأموالنا.
بل حتى الريف المصري، يجب أن يستصنع بالصناعات الصغيرة الآن، ثم بالصناعات الكبيرة في المستقبل.
لقد سبق أن قيلت كلمة كافرة أذيعت في مصر كثيرا، هي أن «بلادنا زراعية»، ولكن اتضح الكذب في هذه الكلمة حتى لم نعد نؤمن بها، ثم جاء اكتشاف البترول منبها لنا؛ لأنه الوقود الذي سنبني به صناعاتنا إلى جنب القوة الكهربائية من خزان أسوان.
ولن تتفشى الصناعات إلا إذا كان الإغراء كبيرا للمقدمين عليها، بحيث يحسون أنهم سيربحون منها أكثر مما يربحون من الزراعة، ولهذا يجب ألا يرهقوا بالضرائب.
الفصل الرابع والتسعون
هذه الغوغاء من الصحف
هناك صناعة مليئة بالشرف، حافلة بالإقدام، يجب علينا نحن الصحفيين أن نتأمل منطقها وأخلاقها، ونعنى بها صناعة الطب، فإن فيها عبرة كبيرة لنا.
فإنه ليس ثمت شك أن الطبيب يزداد كسبا إذا ازدادت الأمراض، ولكن الأطباء لا يفشون الأمراض، بل يكافحونها، ويجدون لتعميم الصحة، وهذا مع أنهم يعرفون أنه لو عمت الصحة جميع السكان لما كسبوا وارتزقوا.
والمتأمل للسنين الأربعين أو الخمسين الماضية يتعجب من هذا الإقدام في مكافحة المرض، كما يتعجب من هذا الشرف الطبي الذي يحمل الأطباء على أن يبحثوا عن العلاجات الجديدة، ليس لشفاء الأمراض، بل لمحوها، وقد أوشك عدد كبير منها أن ينمحي.
قبل أربعين سنة كنا نرى في مصر منظرين كريهين، أحدهما ذلك الوجه المنقر بندوب الجدري، والثاني ذاك الوجه الذي بتر أنفه بالسفلس، وقد زال هذان المنظران من مدننا وريفنا؛ لأن لقاح الجدري قد كشف العدوى، كما أن السلفرسان، ثم البنسلين، قد جعلا السفلس قريب الشفاء خفيف الوقع.
ولم يعد الأطباء يكسبون بعلاج الجدري بتاتا، كما أن كسبهم من علاج السفلس قد لا يبلغ الآن جزء من مئة مما كانوا يكسبون منه قبل خمسين سنة، ولكنهم مع ذلك لم يتراجعوا عن البحث والدرس حتى اهتدوا إلى علاجهما وكبحهما.
هذا هو الشرف، شرف الصناعة الطبية التي لا يبالي الأطباء أن يعمموا الصحة بها ولو كان في ذلك نقص لأرزاقهم.
وإلى جانب هذا الشرف نجد إقداما ساميا، حين يقتحم الطبيب غرفة المحموم الذي تنتقل عدواه بالذبابة، أو حين يقتحم مناطق الوباء الفاتك كما رأينا في وباء الكوليرا الأخير.
إني لا أذكر الطب إلا وأحس بهذا الشرف وهذا الإقدام.
ولكني حين أنتقل من الطب إلى الصحافة أحس هوانا، فإن هذه الغوغاء من الصحف تتوسل بكل وسيلة وضيعة إلى الوصول إلى القارئ، لا يبالي كتابها ومخرجوها أن يؤذوا الجمهور في نفسه وعقله ومستقبله وشرفه، فإذا ناقشناهم في هذا قالوا: إنهم يريدون الكسب، الصحافة تجارة.
ولم يقل أحد: إن الكسب يعيب الصحف أو التاجر، ولكن الذي يعيبهما هو غش السلعة أو الإغراء بالخسائس.
ولو أن الطبيب كان يقول مثل هذا القول لكان عليه أن يحول دون تعميم الثقافة الطبية، واختراع الأدوية الجديدة التي تكبح الأوبئة أو تنقص مدة العلاج.
إننا نسلم بأن الصحافة تجارة، في ناحية ما، ولكنها أيضا رسالة، والصحفي معلم قبل كل شيء، وعليه لذلك أن يقتحم المشكلات حتى ولو تعرض للخطر، شأنه في ذلك شأن الطبيب.
الفصل الخامس والتسعون
في الأسلوب
يسألني أحيانا كاتب ناشئ عما يجب أن يعمل لتحسين أسلوبه، وإجابتي عن هذا السؤال هي على الدوام: السبيل إلى تحسين أسلوبك هو تحسين أخلاقك.
ذلك أن أسلوب الكاتب ينساق مع أخلاقه، فأسلوبنا في المشي والكلام والكتابة والهندام واحد لا يتجزأ، وهو في النهاية المظهر العام لأخلاقنا التي بثت منذ الطفولة، والتي اكتسبناها بالاختبارات والاختلاط الاجتماعي، بل قد يكون أسلوبنا ثمرة لأحد المركبات السيئة أو الحسنة في النفس، ولذلك قيل: إن الأسلوب هو الرجل؛ أي: هو الشخصية.
فالرجل الصريح الذي يبدو في حديثه مباشرا هادفا غير ملتو، لا يسار ولا يهمس، هذا الرجل تجد له أخلاقا أخرى تستقيم وتتناسق مع هذه الصراحة في أسلوبه الكتابي، فإن الجملة الأولى من الموضوع تنبئ عن صراحته، وقد تصل صراحته إلى سذاجة بعيدة عن الفن، أو قد ترتفع إلى بساطة سامية في الفن.
وقد يقف القارئ هنا عند هذه العبارة: «بساطة سامية في الفن»، ذلك لأننا قد نشأنا على أن نفهم أن الفن هو العمل المتكلف، والزخارف البهارج من مجازات واستعارات، ونحو ذلك، هنا احتاج إلى مقارنة، فإننا إذا كنا نصنع آنيتنا من الفخار فإننا نحتاج إلى زخرفتها، ولكن إذا كانت هذه الآنية من الذهب أو الفضة فإنها تبدو لنا جميلة مسحاء، تضيء بصميم معدنها الثمين الذي هو غاية في الجمال، ساذجة بلا زخرفة.
وهكذا شأن الأسلوب في الكتاب، فإننا نقرأ كلمات غاندي أو تولستوي فنجد السذاجة السامية؛ لأنهما ينطقان عن نبع صاف من العواطف الإنسانية النبيلة؛ أي: أنهما يقدمان لنا آنية من الذهب والفضة لا تحتاج إلى زخارف.
أسلوب غاندي هو أخلاقه، هو شخصيته، وأسلوب تشرشل هو أخلاقه، وشخصيته، وتربيته مدى سبعين سنة في جو الاستعمار البريطاني، أسلوب عدواني نعجب ببطولته، ونتأمل زخارفه المجازية، التي يحاول أن يرتفع بها على الحقائق المؤلمة التي يرويها، ولو أن غاندي أو تولستوي هما اللذان كانا يرويان هذه الحقائق لكان لهما أسلوب آخر كله سذاجة، ولكنه بهذه السذاجة نفسها كان يثير في أنفسنا الألم والحسرة والغصة.
وقد كان صمويل بطلر يقول: إن أسلوب الكاتب يجب أن يكون مثل لباسه، لا يلفت نظر المارة إليه بألوانه الزاعقة أو حواشيه المستفيضة.
ولو سئلت عن الأسلوب الأمثل لقلت: إنه هو الذي يجب أن يكون عاريا صريحا، ولكن معنى هذا أن أخلاقنا يجب أن تكون عارية صريحة، غير أن الجمهور لن يطيق هذا العري إلا إذا كان جميلا مثل المعدن الثمين الساذج.
الفصل السادس والتسعون
الامتحانات الصينية
قبل أن تعلن الجمهورية الصينية في 1911 كانت الامتحانات في الصين مضرب المثل في الصرامة والقسوة، وكثيرا ما كان يحدث أن يعمد الطالب وهو محبوس في زنزانته إلى الانتحار، أو يهب مجنونا فيمزق أوراقه ويضرب ممتحنيه؛ إذ كان يجد نفسه، بعد إرهاق السنين الطوال في الدراسة، عاجزا عن الإجابة فيختل اتزانه وينفجر.
وقد حدث في 1882 أن هذا الجنون انتقل من الطلبة إلى المشرف الأكبر على الامتحانات، فشرع يهذي ويخبط بيديه وقدميه حتى اضطر مرءوسوه إلى القبض عليه وربطه بالحبال.
وكانت الصين في ذلك الوقت أمة قديمة قد تشبعت بتعاليم كونفوشيوس، فإن هذا الرجل جعل القواعد الاجتماعية شعائر دينية، فهو يعين للشاب كيف يجب أن يقعد أمام أبيه أو عمه، كما يعين للمرأة أوقات خروجها، أو الأسلوب الذي تتحدث به أمام حماتها، أو الإيماءات التي تشير بها عندما يحدثها حموها.
قواعد السلوك البسيطة هذه، والتي تتغير بسهولة في أية أمة متطورة، قد استطاع كونفشيوس أن يجعلها تقاليد متحجرة يجب أن تتغير، وقد تجمد المجتمع الصيني تجمدا حجريا إلى 1911، ثم انهار فجأة، وهو لا يزال كذلك إلى الآن (1948) لم يتماسك.
وكان روح المحافظة الذي بعثه كونفوشيوس قد أصبح المزاج العام للحكومة والأمة، وأصبحت الامتحانات العامة تجري وفق هذا الروح أو هذا المزاج؛ إذ هي لم تكن تتجاوز دراسة التاريخ القديم، واللغة والخط، وقواعد الحكماء من أمثال كونفوشيوس، وكان بعض الطلبة يقضون العمر كله، ويبلغون السبعين أو الثمانين، وهم لا يزالون يطلبون هذا «العلم» الشاق، ولم تكن الوظائف العامة تمنح إلا للناجحين في هذه الامتحانات التي لم تكن تزيد على أن تكون «معارف» لا تمت إلى الحقائق بشيء، فلما أهل القرن العشرون وجد الصين لا تزال في القرن العاشر.
وقد خطرت لنا هذه الخواطر؛ لأن امتحانات المدارس والجامعة قد اقتربت، وأخذت التوترات النفسية تبدي علاماتها على وجوه الطلبة.
ولذلك نرجو أن يذكر الممتحنون أن المعارف ليست كلها حقائق؛ إذ إن نصفها، أو أكثر أو أقل، قد يكون من نوع المعارف العقيمة التي كان يستظهرها الطلبة الصينيون في التاريخ واللغة والنحو والبلاغة والأدب.
ونحب أن نذكر امتحانا آخر تقوم به الحكومة الإنجليزية للمتقدمين في طلب الوظائف الحكومية، ذلك أنها تحبسهم ثلاثة أيام تحت إشراف الممتحنين، ولكن ليس للوقوف على درجة معارفهم ووفرتها، وإنما للوقوف على شخصياتهم، ذلك لأن شخصية الموظف العام أكبر قيمة من معارفه.
فليذكر هذا ممتحنونا، وليذكر هذا موظفونا.
الفصل السابع والتسعون
في القطب الجنوبي
يمكن أن يوصف القطب الجنوبي بأنه جهنم الباردة، فإن جبال الثلج تكسوه على مدى العام كله تقريبا إلا في بعض الشهور، حين يذوب الثلج على الأرض التي تقع إلى السواحل أو تقترب منها.
وزيادة على هذا البرد المثلج تكتسح القطب الجنوبي في بعض الأحيان عواصف قد تبلغ سرعتها مئة ميل في الساعة، بحيث إن الإنسان الذي يعترض الريح وهو واقف على الثلج يحس الدفء، بل الحر؛ لأن الريح تحتك به بعنف وسرعة، فتحدث الحرارة من الاحتكاك.
وقد زار الأميرال بيرد الأمريكي هذا القطب الجنوي مرتين، إحداهما في 1928 والثانية في 1934، وتوغل في صحاريه الثلجية، وقضى فيها خمسة شهور، بعد أن بنى عشة من الخشب تقيه من البرد والريح، وقضى هذه المدة وهو وحده، ولم يكن حوله إلى مسافة مئة ميل إنسان أو حيوان، وكان البرد من القسوة بحيث إنه كان يسمع أنفاسه وهي خارجة من أنفه أو فمه، حين تتجمد وتتبلور عندما تمس الهواء؛ إذ كان لها شخشخة عقب صدورها منه، وكانت هذه الشهور الخمسة ظلاما حالكا في الليل، وغبشة كأنها ضباب دكن في النهار، وقد وصف حياته في هذه الأيام في كتابه «في وحدتي» وأوضح فيه كيف استطاع أن يتوقى الجنون.
أما كيف استطاع ذلك؛ أي: كيف استطاع أن يبقى سليم العقل في خمسة شهور من الظلام، وهو وحده بين الثلوج، فيتلخص في أنه كان يملأ فراغه طوال النهار الأغبش بالعمل، يرصد الجو، ويسجل التغيرات، ويجرف الثلوج التي تتراكم عليه وتوشك أن تدفن عشته، وهو يقول هنا: «لقد كان عجبا حقا أن أنفق وقتي بهذه الطريقة، وقد أحسست بعملي هذا أني أملك زمام نفسي.».
وهذا الذي ذكرناه عن بيرد ينطبق علينا جميعا، ففي حياة كل منا فترات نحس فيها كأننا نجتاز مرحلة نفسية تشبه ظلام القطب الجنوبي وبرودته، حين تغم علينا الهموم وتشملنا المخاوف والشكوك، ولكن إذا كنا نعيش الحياة الهادية، لنا غاية نسعى إلى تحقيقها، ولنا عمل يملأ فراغنا، فإن هذه الهموم والمخاوف والشكوك تنقشع، ونحس عندئذ أننا نملك زمام نفوسنا مثل بيرد.
صفحة غير معروفة