38 (42: 3، 527-528).
في هذا الإطار، يفسر الإخوان وعيد الله تعالى للمسيئين تفسيرا خاصا: «اعلم أن مسألة الوعيد هي أيضا إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء. وذلك أن منهم من يرى ويعتقد أنه واجب في حكم الله وعدله أن يفي بوعيده كما وفى بوعده؛ لأنه إن لم يفعل كان كاذبا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومنهم من يرى ويعتقد أنه لا يكون كاذبا لأن الكذب هو الخبر بأنه قد فعل ولم يكن فعل، أو يقول: ما فعلت وقد كان فعل. فأما إذا قال: سأفعل، ثم لم يفعل فيكون مخالفا [لا كاذبا]؛ والمخالف في الوعد يكون مذموما غير وفي، فأما في الوعيد فربما كان الخلاف عفوا وصفحا ورحمة وتحننا وإشفاقا وكرما وسماحة وإنعاما. وكذلك هذه الخصال ممدوحة محمودة، تليق بفضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه. ومنه قول بعض العرب:
إني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فإن إخلاف الوعيد مكرمة افتخر بها. وذلك أن وعيد الله لعبيده مماثل لوعيد الأب الشفيق الطيب العالم للولد الجاهل العليل، يقول [له]: لا تأكل ولا تشرب كيت وكيت، وافعل كيت وكيت، فإنك إن لم تفعل ولم تقبل نصيحتي، ضربتك وحبستك وعاقبتك. فإن لم يفعل الولد، ولم يقبل نصيحة والده ولم يأتمر له، ولم ينته عما نهاه عنه، وأكل وشرب ما نهاه عنه، وترك ما كان مأمورا به، بقي عليلا سقيما، وفاتته الصحة والأنفع والأصلح، وبقي متألما وجيعا، فإن الأب الشفيق يشفق عليه أن يفي بوعيده فيضربه ويزيده ألما وعذابا. فهكذا حكم عذاب الله ووعيده لعباده، وهذا أليق به وبرحمته وجوده وكرمه وإحسانه.
وأما وقت وفاء الوعد لثواب المحسنين متى يكون وكيف يكون؟ فإن هذه المسائل هي من غوامض العلوم ودقائق الأسرار، وقد أكثر العلماء فيها القال والقيل، وتحيرت فيها عقول الكثير من الناس أولي الألباب. فمنهم من يرى ويعتقد أنها في الدنيا قبل الممات، ومنهم من يرى أنها تكون في الآخرة بعد الممات. وأما كثير من الناس فينكرون أمر الآخرة فلا يعرفونها ولا يقرون بها. وأما المقرون بها فمختلفون أيضا فيها وفي ماهيتها وكيفيتها وأبنيتها على مذاهب شتى: فمنهم من يرى ويعتقد أن الآخرة ودار الجزاء إنما تكون بعد خراب السماء وفناء الخلق أجمعين، ثم إن الله يعيدهم مرة ثانية خلقا جديدا، فيثيبهم ويجازيهم ما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر، أو عرف أو نكر. وهذا جيد للعامة ولمن لا يعرف من الأمور شيئا، ويرضى الدين تقليدا وإيمانا، وأما الخاص ومن قد نظر في بعض العلوم الرياضية والطبيعية، فإن هذا الرأي لا يصلح لهم. وذلك أن كثيرا من العقلاء الحكماء ينكرون خراب السماوات، ويأبون ذلك إباء شديدا، والجيد لهم إذن أن يعتقدوا أمر الآخرة أن لها وجودا متأخرا عن الكون في الدنيا، كما كان في الدنيا موجودا متأخرا عن الكون في الرحم» (42: 3، 502-504). «فالدنيا: هي مدة بقاء النفس مع الجسد إلى وقت افتراقها الذي يسمى الموت. والموت: هو ترك النفس استعمال البدن، ويقال أيضا الموت: هو بقاء النفس بعد مفارقة الجسد. والآخرة: هي نشوء ثان بعد الموت، وخلودها في عالمها. والجنة: هي عالم الأرواح. وجهنم: هي عالم الأجسام. والجنة أيضا هي المرتبة العليا وجهنم هي المرتبة السفلى؛ فجنة النفس النباتية [هي] صورة الحيوانية، وجنة النفس الحيوانية صورة الإنسانية، وجنة النفس الإنسانية صورة الملائكة. والبعث: هو انتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ... والقيامة: قيام النفس من قبرها وهو الجسد ... والحشر: هو جمع النفوس الجزئية نحو النفس الكلية واتحاد بعضها ببعض» (41: 3، 397-398).
فالآخرة والحالة هذه، وما يرافقها مع ثواب وعقاب، ليس شأنا مؤجلا إلى يوم القيامة الكبرى عندما تنسحب النفس الكلية من الطبيعة، بل هي شأن قائم هنا والآن، والنفوس التي فارقت أجسادها بالموت الذي هو القيامة الصغرى، هي الآن إما معذبة في عالم الكون والفساد لا تستطيع صعودا إلى الأعالي، أو منعمة في فسحة الأفلاك: «معنى القيامة مشتق من القيام، فإذا فارقت النفس قامت قيامتها. قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: «من مات فقد قامت قيامته.» وإنما أراد قيام النفس لا الجسد؛ لأن الجسد لا يقوم عند الموت، بل يقع وقوعا لا يقوم بعده، إلى أن ترد النفس إليه ثانية. فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتزود للرحلة، واستعد للقيامة قبل أن تقوم قيامتك بأن يؤخذ منك هذا الهيكل المبني، مملوءا من آثار الحكمة، قهرا وأنت كاره، فتبقى نفسك بلا سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق ولا لمس، فارغة خاوية تهوي في هاوية البرزخ إلى يوم القيامة [الكبرى] إلى يوم يبعثون. فبادر وشمر واجتهد بأن تكتسب بتوسط هذا الهيكل الجسماني هيكلا روحانيا، وبتوسط هذه الحواس الجسدانية حواس عقلية، ليكون بعد حين، فترجع نفسك من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح بربح لا بخسران» (16: 2، 49-50). «واعلم يا أخي بأن الجنة إنما هي عالم الأرواح، وكله صورة روحانية لا هيولى جرمانية ، بل حياة محضة وراحة ولذة وسرور وغبطة، لا يعرض لها الكون والفساد ولا التغيير والبلى؛ لأنها دار الحيوان لو كانوا يعلمون. فإذا كانت الدار هي الحيوان، فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف حالهم، فإنه يقصر الوصف عنهم بالاختصار، كما ذكر الله تعالى في كتابه على لسان نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم . فقال: ... وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون .
39
واعلم يا أخي أن النار وجهنم هي عالم الأجسام التي تحت فلك القمر، الذي هو دائم في الكون والفساد والتغيير والاستحالة والبلى، وأن أهلها: ... كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ... »
صفحة غير معروفة