النظر في مجموعهما وما يظهر من جملتهما من الأخلاق والأفعال ... وما شاكل ذلك.
ونبتدئ أولا بذكر حالات الجسد وصفاته بكلام مختصر، كيما يكون دليلا على أمر النفس وحالاتها؛ لأن الجسد ظاهرة مكشوفة مخيلة مدركة بالحواس، وأما أمر النفس وحالاتها فغائب عن إدراك الحواس، وباطن في عمق الجسد، مستور خفي، وإنما يدرك بالعقل.
فاعلموا، أيها الإخوان، أن الشاهد من حالات الجسد يدل على الغائب من حالات النفس، والظاهر يدل على الباطن ... والمحسوس على المعقول. وقد قلنا في الرسالة الأولى [من قسم: الجسمانيات الطبيعيات]: إن الجسد مؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد وما شاكلها. وهذه كلها أجسام أرضية ميتة مظلمة ثقيلة متجزئة متغيرة فاسدة. وأما النفس فإن جواهرها سماوية روحانية ناطقة نورانية، غير ثقيلة ولا متجزئة، وغير فاسدة بل متحركة باقية علامة دراكة لصور الأشياء وحقائقها.
وفي كيفية تركيب الجسد وكيفية أخلاط البدن ومزاج الطبائع، فنقول: اعلم، وفقك الله، أن الباري تعالى لما خلق الجسد وسواه، ونفخ فيه من روحه وأحياه، ثم أسكن فيه النفس وأولاه، وكان مثل أساس بنية الجسد وتركيب أجزائه وتأليف أعضائه كمثل أساس بناء مدينة بنيت من أشياء مختلفة ... فأحكمت بنيتها، وشيد بنيانها ...
وذلك أن الله تعالى لما أراد تركيب الجسد ابتدأ أولا فاخترع أربع طبائع منفردات ، متعاديات القوى بسلطانها بعضها على بعض، ثم ألف بين كل اثنتين منها [وهي: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة]. و(اخترع كذلك) أربعة أركان مزدوجات مؤتلفات الطبائع متناسبات القوى من أركانها [وهي: النار، والهواء، والماء، والأرض]. ثم أسس بنية هذا الجسد من هذه الأركان الأربعة التي هي أساس لبنيانها [أي لبنيان المدينة التي يشبه جسد الإنسان بها]، ثم ابتدأ بنيانها من أربعة أخلاط متعاديات طباعها متناسبات قواها، التي هي مجموعات من أصل أركانها [وهي: الصفراء، والدم، والبلغم، والسوداء]. ثم جمع هذه الأخلاط الأربعة، فخلق منها تسعة جواهر مختلفة أشكالها هي ملاك بنيانها [وهي: العظام، والمخ، والعصب، والعروق، والدم، واللحم، والجلد، والظفر، والشعر]. ثم ألفها وركب بعضها فوق بعض عشر طبقات متصلات بهندامها [وهي: الرأس، والرقبة، والصدر، والبطن، والجوف، والحقو، والوركان، والفخذان، والساقان، والقدمان]. ثم أسندها وأقامها بمائتين وثمانية وأربعين عمودا مستويات القد أقرانا [وهي العظام، 248 عظمة]. ثم سمرها ومد حبالها وشد أوصالها بسبعمائة وخمسين رباطا، ممدودات محتويات، ملتفات عليها كالحبال [وهي الأعصاب]. ثم قدر بيوتها وقسم خزائنها، وأودع إحدى عشرة خزانة معمورة مملوءة من الجوهر مختلفة أنواعها وألوانها [وهي: الدماغ، والنخاع، والرئة، والقلب، والكبد، والمرارة، والطحال، والمعدة، والأمعاء، والكليتان، والأنثيان]. وخط شوارعها وأنفذ طرقاتها، وجعل لها ثلاثمائة وستين مسلكا لسكانها [وهي العروق الضوارب]، واستخرج منها عيونا، وشق فيها أنهارا هي ثلاثمائة وتسعون جدولا مختلفات في الجهات لجريانها [وهي الأوردة]. وفتح على سورها اثني عشر روزنا [= كوة] مزدوجات المسالك لجريانها [وهي: العينان، والأذنان، والمنخران، والسبيلان، والثديان، والفم، والسرة]. وأحكم بناء هذه المدينة على أيدي سبعة صناع متعاونين، هم خدامها [وهي: القوة الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة النامية، والقوة المصورة]، ووكل بحفظها خمسة حراس حراسا على حفظ أركانها [وهم الحواس الخمس].
ثم رفع هذه المدينة في الهواء على رأس عمودين [هما الرجلان]، وحركها على ست جهات بجناحين [وهما اليدان اللتان تشيران إلى الجهات الست التي هي قدام وخلف ويمنة ويسرة وفوق وتحت]، ثم أسكن فيها ثلاث قبائل من الجن والإنس والملائكة ، وجعلهم سكانها [وهي النفس الشهوانية (= النباتية) التي هي في أخلاقها وأفعالها كالجن، والنفس الحيوانية التي هي في أخلاقها وأفعالها كالإنس، والنفس الناطقة التي هي في تمييزها ومعارفها كالملائكة]، ثم رأس عليهم ملكا واحدا وعلمه أسماء من فيها وأمره بحفظها، وأمرهم بطاعته [وهو العقل]» (23: 2، 378-382). «اعلم أن النظر في ماهية النفس مجردة من الجسد، والتصور بذاتها خلوا منه، عسر جدا على المرتاضين بالرياضيات الحكمية، فكيف على غيرهم؟ ولكنه إذا نظر إلى ما يظهر من أفعالها في الجسد، واعتبر تصرف أحوالها مع الجسد، يسهل عليه ذلك، ويقرب من فهم المتعلمين، والتصور في أفكار المتفكرين وجودها، وتبين شرف جوهرها. ونريد أن نبين من ذلك طرفا ونضرب أمثالا، كيما يكون أوضح للبيان وأقرب من فهم المبتدئين، وأبلغ للتصور في أفكار المفكرين، فنقول:
اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس هو بمنزلة دار لساكنها بنيت وأحكم بناؤها، وقسمت بيوتها، وملئت خزائنها، وسقفت سطوحها، وفتحت أبوابها، وعلقت ستورها، وأعد فيها كل ما يحتاج صاحب المنزل في منزله ... ثم إن هذا الجسد لهذه النفس، من جهة أخرى، بمنزلة دكان الصانع، وإن جميع أعضاء الجسد للنفس بمنزلة أدوات الصانع في دكانه، وإن النفس بكل عضو تظهر ضروبا من الأفعال وفنونا من الحركات. [وذلك] كالنجار، فإنه ينحت بالفأس وينشر بالمنشار ويثقب بالمثقب ... وعلى هذا القياس سائر الصناع، كل واحد منهم يعمل بأدوات مختلفة أعمالا مختلفة وحركات متباينة.
فهكذا حال النفس، [فإنها] تبصر بالعينين وتسمع بالأذنين، وتشم بالمنخرين ... وتتفكر بواسطة الدماغ الأشياء ... وتصوت بالحلقوم ... وبالجملة ما من عضو في الجسد إلا وللنفس فيه ضروب من الأفعال وفنون من الأعمال. «ثم اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس الساكنة فيه يشبه مدينة عامرة بأهلها مأنوسة بسكانها. وحالات الجسد تشبه حالات المدينة، وتصرف النفس يشبه تصرفات أهل المدينة فيها ...
ثم اعلم أن في هذه النفس الساكنة في هذا الجسد قوى طبيعية وأخلاقا غريزية منبثة في أعضاء هذا الجسد، تشبه قبائل أهل تلك المدينة وشعوبها النازلين في المحال بتلك المدينة، وأن لتلك القوى وتلك الأخلاق أفعالا وحركات منبثة في أوعية هذا الجسد، ومجاري مفاصله تشبه أفعال أهل تلك المدينة في منازلهم، وحركاتهم في طرقاتها، وأعمالهم في أسواقهم. فأما القوى الطبيعية والأخلاق الغريزية التي تشبه القبائل والشعوب فهي ثلاثة أجناس:
فمنها قوى النفس النباتية [= الشهوانية]، ونزعاتها وشهواتها، فضائلها ورذائلها، ومسكنها الكبد، وأفعالها تجري مجرى الأوراد إلى سائر أطراف الجسد.
صفحة غير معروفة