وضحك المحامي ضحكة مقتضبة، ثم قال: ولكن لنبدأ بالشهر العقاري فلعله من الأعيان المتخفين.
ولم يكن في كشف السجون اسمه، ولا في سجلات الملاك، فلم يجد مفرا من اللجوء إلى مشايخ الحارات. واستبعد إلى حين اقتراحا للمحامي بالإعلان في الصحف؛ إذ إن ذلك يذيع مشكلته العجيبة على الملأ، ويمكن أعداءه الكثيرين في الإسكندرية من العبث به، فأجل تنفيذ الفكرة إلى ما بعد مغادرة المدينة. ودار على مشايخ الحارات من العطارين إلى كرموس، ومن رأس التين إلى محرم بك. وكلما ذكر اسم سيد سيد الرحيمي سئل: ما عمله؟ - لا أدري عنه شيئا إلا أنه من الوجهاء وهذه صورته منذ ثلاثين عاما. - ولم تبحث عنه؟ - إنه صديق قديم لأبي وقد كلفت بالبحث عنه.
وتحدق فيه الأعين باستغراب: وهل أنت متأكد من أنه حي؟ - لست متأكدا من شيء. - وكيف عرفت أنه في الإسكندرية؟ - مجرد أمل ليس إلا.
ثم يجيئه الجواب النهائي كجدار السجن: غير معروف لدينا.
ولم ترتح عيناه لحظة واحدة من التهام الوجوه. ولم يشعر في دوامة الاستطلاع بخطى الخريف حتى أيقظه مطر مباغت عند لسان الكورنيش الموغل في البحر فانسحب مسرعا إلى الميرمار، ورفع عينيه إلى سماء أظلت جو الظهيرة بقطع من الليل. وسمع صوتا يقول مرحبا: تعال.
صافحها وجلس. - لم أتمكن من تعزيتك ولكني انتظرت أن تزور «الكنار». - ألست في حداد؟ - الكنار مكان مناسب للمحزونين، والجميع يتساءلون أين أنت؟
وتوقف المطر فوقف من فوره معتذرا بمشاغل؛ فقامت بدورها هامسة: خبرني هل أنت في ضائقة مالية؟
آه هل بدءوا يتقولون؟ وقالت بإغراء: مثلك لن يعز عليه المال إذا أراده.
فصافحها مرة أخرى ببرود ثم ذهب. مثلك لن يعز عليه المال! أجل فأذعن لنداء القوادة. ذلك ما يتمناه أعداؤك ولكن دونه الموت. وتساءل: ماذا بقي في الإسكندرية؟
وبسط راحتيه أمام قارئ الكف ولكنه لم يقل جديدا. وزار العارف بالله سيدي الشيخ زندي بعطفة الفراشة. تربع بين يديه في حجرة تحتانية مغلقة الشيش دواما فهي تعيش في مغيب متصل، وتتلوى في جوها سحائب البخور. وشم الشيخ منديله، ثم أحنى رأسه مستغرقا، ثم قال: من جد وصل.
صفحة غير معروفة