ابتسم الأستاذ مرة أخرى دون أن ينبس بكلمة، فأغمض صابر عينيه مليا ثم فتحهما متسائلا: والأتعاب؟ - المصروفات الضرورية للإجراءات فقط.
هل يمكن! كيف تتصور! نفقة جنازة الحب! - لكنه جهد ضائع يا أستاذ محمد. - مفهوم اليأس لا يوجد في قاموسنا. - قتلت اثنين مع سبق الإصرار، واعترفت! - ولو! - وإلهام ... لم ...؟ - قيل إنه ليس لك أهل، فليس بكثير أن تكون لك صديقة. - حتى بعد أن عرفت؟ - تقبل ذلك دون مناقشة.
جفف عينيه بطرف كمه وهو يقول: الدمعة الثانية في عمري كله! - لا عيب في ذلك، ولندخل في الموضوع. - لقد اعترفت كما قلت لحضرتك. - هنالك ظروف. - أي ظروف يمكن أن تنفعني؟ - النشأة، الحب، الغيرة، سلوكك الأمين تجاه إلهام. - لن أجني من ذلك إلا مزيدا من التشهير. - لن نسلم باليأس قبل أن يقع. - الحكاية كلها كالحلم، جئت من الإسكندرية للبحث عن أبي فوقعت أحداث غريبة نسيت فيها مهمتي الأصلية، حتى وجدت نفسي أخيرا في السجن.
ثم وهو يتنهد: والآن أكاد أن أنسى كل شيء إلا المهمة الأصلية التي جئت من أجلها. - ولكن لا جدوى من التفكير فيها الآن، ربما أشرت إليها في مرافعتي باعتبارها أول جناية كتبت عليك قبل أن تولد. - ولكن إلهام دعتني بالتليفون ذات يوم لأمور تتعلق بأبي. - وماذا قالت لك؟ - لم أذهب لمقابلتها؛ إذ كنت محموما بالانتقام من الأخرى. - أؤكد لك أنها لا تعلم عنه شيئا.
هز صابر رأسه في حيرة، ثم قال: إن نشر أخبار الجريمة في الصحف يعتبر إعلانا ضخما من نوع غير معهود، ولعله يجيء بالنتيجة التي عجز عنها الإعلان المتواضع بجريدة أبو الهول. - أنا على علم لا بأس به بأخبارك، ولكني على يقين من أنك لن تجني من الاهتمام بأبيك الآن إلا التعب الضائع، فإن مجيئه أو عدمه سواء في موقفك الأخير. - لا يبعد إن جاء أن تحدث معجزة! - كيف؟ - أعني إذا صح أنه وجيه حقا وذو نفوذ. - فليكن أكبر الوجهاء، ولكن كيف يمكن أن يغير قوانين الدولة؟ - اسمع يا أستاذ، لقد كانت أمي ذات نفوذ يوما ما، فاستطاعت بنفوذها أن تتحدى قوانين الدولة تحت سمع المسئولين وبصرهم! - بالله خبرني عن الأمل الذي يراودك إذا جاء أبوك؟
تردد قليلا ثم قال: ربما استطاع أن يسهل لي سبيل الهرب. - تماديت في الخيال، ولن تجني من وراء ذلك إلا تعب القلب.
فنفخ قائلا: على أي حال أنا شاكر فضلك، وأرجو أن تبلغ امتناني إلى الآنسة إلهام، وإلى الأستاذ إحسان، وسوف تجدني تحت أمرك في كل ما تريد، وأما عن أملي المضحك فإنني لن أيئس كما تقول أنت إلا إذا وقع اليأس. •••
وقدم صابر إلى المحاكمة، وأحيلت الأوراق إلى المفتي، ونطق بالحكم. وقد تابع المرافعات باهتمام، ولكنه تلقى الحكم بذهول رغم توقعه له من أول الأمر. •••
وفي السجن دعي إلى مقابلة الأستاذ محمد الطنطاوي، وقابله الأستاذ بعطف وشجعه بكلمات مناسبة، ثم قال له: لا يزال أمامنا الاستئناف ثم النقض.
فسأله بحزن: كيف حال إلهام؟ - ليست على ما يرام، والظاهر أن مأساتها التي تحدثت عنها الجرائد قد هزت أباها من الأعماق؛ فجاء من أسيوط لزيارتها وأصر على أخذها معه بعض الوقت تغييرا للجو والتماسا للصحة.
صفحة غير معروفة