ودخل الحجرة وهو يستأنف ضحكته. بداية سيئة، ولكن لا داعي للمبالغة في الخوف. وأعاد تفحص ملابسه وهو يرتديها. ورفع رأسه نحو السقف متخيلا صورة عم خليل فوق فراشه. وقال لنفسه - رغم قشعريرة تقلص بها جسده - إن حوادث القتل تقع كل يوم وبلا حصر. ومجرد التفكير في السفر إلى الإسكندرية جنون. ولما انتهى من ارتداء بدلته نظر فيما حوله متسائلا، ترى هل نسي شيئا؟ إنه غير مطمئن إلى بدلته رغم إعادة الفحص، وسوف يكتشف الشياطين في نسيجها ما لا يخطر ببال. وخطر له أن يرتدي أخرى، ويذهب بهذه إلى مصبغة لغسلها بالبخار، ولكن فيم يلفها؟ وألا يلفت ذلك بعض الأنظار؟ ألا تصير موضع تحقيق بعد ظهر اليوم؟ وشعر بضيق ويأس، وبخاصة لأنه رسم أن يغادر الفندق قبل اكتشاف الجريمة. ورأى أن ذلك أهم من البدلة نفسها. وألقى نظرة أخرى على الحجرة وهو يقول لها: «لا تخونيني!» ثم ذهب. رأى عم محمد الساوي وهو يصلي الصبح فجلس في الاستراحة مع نفر قليل من النزلاء. وتناول فطورا خفيفا، وفي أثناء ذلك جاءه علي سريقوس مسرعا وهو يقول: نسيت هذه يا سي صابر.
حافظة نقوده! سقطت بلا شك وهو يتفحص الجاكتة. وراجع محتوياتها، ثم قال له: أشكرك جدا يا عم علي.
ونفحه بعشرة قروش، فقال الرجل وهو يمضي عنه: وجدتها عند رجل السرير.
الأخطاء التي اكتشفت كثيرة حقا، فما عدد الأخطاء التي لم تكتشف؟ والقوة العمياء التي تجردك من ملابسك قطعة وراء قطعة سترمي بك في النهاية عاريا كما ولدتك أمك. وأمك هي القاتل الحقيقي لعم خليل أبو النجا. وما أشبه شخيرها بشخيره في الليلة الأخيرة، أما الصوت الذي ند عنه عقب الضربة القاتلة فقد مضى وانقضى. وضبط رجلا من الجالسين وهو يداري ابتسامة ابتسمها لدى ملاحظته، فأدرك أن شفتيه تفضحان أفكاره فأربكه الحرج. وكره المكان فغادره. وفي الخارج ترامى إليه الغناء المألوف كل يوم «طه زينة مديحي» فتذكر الصورة البشعة بتقزز، ثم قال وهو يتجنب النظر ناحيته: «من يدري لعله سعيد بالغناء.» ويصعد عم محمد الساوي إلى السطح، ويفتح باب الشقة، ثم يطرق حجرة النوم .. عم خليل استيقظت؟ استيقظ يا عم خليل الساعة تدور في الثامنة .. يا عم خليل .. يا عم خليل .. ويدفع الباب برفق ويختلس من الداخل نظرة .. عم خليل .. رباه! يا ألطاف الله! أغيثونا .. يا علي .. يا علي .. يا هوه .. عم خليل قتل .. أغيثونا .. بوليس النجدة. قديما اختفت أمي فلم يعثر عليها أبي، واختفى أبي فلم أعثر عليه. فليكن هذا الاختفاء الموفق نصيبي أيضا، وإذا انجابت الغمة وطواها النسيان فتلق كريمة بين ذراعيك، ومعها كل ما تعد به من الحياة السعيدة المطمئنة. سار على غير هدى تقوده الشوارع والمنعطفات. وكلما أجهده السير جلس في قهوة ليريح قدميه. لم ير شيئا ولم يسمع شيئا. ومرة ارتفع رأسه إلى الأفق فوق مبنى القضاء العالي فرأى مظلة كبيرة من السحب ذات أرضية بيضاء صافية تنتشر عليها قطعان من السحائب الداكنة، فاستيقظ قائلا: «هذه زفرة من الإسكندرية!» وتحرك في القلب الشجن، ثم مضى بالعين التي لا ترى، والأذن التي لا تسمع. وطيلة الوقت وهو يشعر بحاجة حارة إلى لقاء إلهام، فلما فات النهار منتصفه مضى إلى فتركوان وهو ينظر إلى كل شيء بغرابة. ولدى رؤية الفتاة مقبلة فاضت به رغبة مفاجئة في الاعتراف. ولما رأته ومضت عيناها، ثم صافحته وهي ترميه بنظرة زرقاء عاتبة: لماذا أصافحك ما دمت تقاطعني؟
وتفحصته باهتمام ثم استدركت: وأيضا لا تتكلم! - استغرقتني المشاغل، وكنت وما زلت في غاية التعب. - ولا تليفون؟ - ولا تليفون، فلنؤجل حديث ذلك لأشبع شوقي إليك.
وارتضيا الصمت وهما يتناولان الغداء، ولكنه ظل يرنو إليها طيلة الوقت. وردد باطنه: «طه زينة مديحي .. صاحب الوجه المليح». وقال إن تصميمه على هذا اللقاء عجيب. وهو يبدو لا معنى له إلا أن يكون ملجأ مؤقتا في العاصفة. وهي تبتسم رغم أنها صافحت يدا ملوثة بالدم. ورهبة الوداع تغري بالدمع. - أنت متعب حقا.
فقال بفتور: أمس رأيته.
فلمعت عيناها باهتمام شديد مدركة من يعنيه: أخوك؟ - سيد سيد الرحيمي. - إذن قد انتهت مهمتك؟
فقص عليها الحكاية فيما يشبه الضجر، فقالت: هناك احتمال كبير أن يكون هو. - وثمة احتمال أن يكون غيره.
فتساءلت برجاء: متى نعتبر هذه المسألة منتهية؟ - إني أعتبرها كذلك. - لكنك متعب حقا؟ - مضت الأيام الأخيرة في مقابلات متواصلة ومشاوير معقدة. - أناس من طرف والدك؟ - نعم.
صفحة غير معروفة