ضحك وهو يحني رأسه في تسليم، ثم سأله: جاءني كثيرون، أما هو فلا حياة لمن تنادي، ما تفسير ذلك؟ - الإعلان من هذا النوع يتطلب المثابرة. - ولكن المفروض أن الرجل معروف على أوسع نطاق. - أنت لا تعرف سوى اسمه، وما عدا ذلك بالسماع عرفته، ولا يمكن أن تقطع في ذلك برأي حاسم، وأنا رجل عشت في مختلف الأوساط بالقاهرة زهاء ثلاثين عاما ولم أسمع عنه. - ولكني أصدق تماما من أرسلني للبحث عنه. - إذن ففي المسألة سر ستكشفه لك الأيام.
تفكر قليلا، ثم قال: عندي له صورة قديمة أخذت له منذ ثلاثين عاما. - نضيفها إذا شئت إلى الإعلان فتضاعف من فائدته.
وأراه الصورة فتفحصها، ثم تمتم بإعجاب: يا له من شخصية!
وانتظر صابر في إشفاق أن يلاحظ الرجل وجوه الشبه بينه وبين صاحب الصورة، ولكنه لم يلاحظ شيئا، ومضى يتحدث عن الإعلان الجديد وتكاليفه. ووافق صابر على الاقتراح مرغما، ثم غادر الجريدة وهو يفكر في نقوده التي تتناقص يوما بعد يوم، والتي سيضحي بعد نفادها معدما كمتسول. وذهب إلى فتركوان، فجلس إلى مائدة إلهام ينتظر. ولما رأته ترددت في شيء من الارتباك، ولكنه أزال ترددها بوقوفه مرحبا. وبمجرد أن جلست طلب الغداء من الشطائر والعصير، وتصرف بلا كلفة ليبدد دهشة اللقاء. وإذا بها تقول: رأيت الصورة! - حقا؟ - أنت تشبهه! - تعنين الرجل؟
هزت رأسها موافقة وهي ترمقه بارتياب، فلم يجد بدا من اختلاق كذبة جديدة، فقال: إنه أخي. - أخوك! معقول جدا، ولكن لماذا لم تقل ذلك من الأول؟
فابتسم ولم يجب، فسألته: ومن الفتاة الجميلة؟ - كانت زوجته رحمها الله. - آه، وهل ... أعني أخاك ... كيف ... - اختفى قبيل مولدي، خلاف ثم اختفاء كما يقع أحيانا، وأخيرا بعد ثلاثين عاما أرسلني أبي العجوز للبحث عنه. - حقا إنها قصة مثيرة، ولكن لم تعتقد أنه شخصية معروفة؟ - هكذا قال لي أبي، ولعله مجرد استنتاج، ولكن العجيب أن إحسان الطنطاوي لم يلاحظ الشبه بيننا عندما أريته الصورة! فهل حدثك عن ذلك بعد ذهابي؟ - كلا، رغم وضوح الشبه، ولكن رأس الأستاذ إحسان مشغول بالحسابات.
وجاءت أطباق الشطائر فبدأ الغداء. وعند ذاك قال معتذرا: آسف على تطفلي، ولكني وحيد في المدينة، والفراغ يوشك أن يقتلني.
فقبلت عذره بابتسامة، وسألته: كيف تمضي وقتك؟ - في الانتظار. - هذا ممل جدا، ثم إن البحث غير الانتظار. - نعم ولكنه لا يخلو من فترات انتظار. - وماذا تفعل في أوقات الانتظار؟ - لا شيء. - غير معقول.
فقال برجاء: من هنا تلمسين مدى حاجتي إلى صديق.
ووشى تورد وجنتيها بتشربها الإشارة، فتشجع قائلا: وأنت الصديق!
صفحة غير معروفة