ولكنهم أفهموه أني أريد به السوء، وأني لا أستطيع نقله مهما فعلت، وتصادف بعد ذلك مباشرة أن حدد يوم لزيارة حضرة صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد أيام كان سلطانا، وجاء رجال وزارة المعارف قبل الزيارة ليشرفوا على الترتيبات التي اتخذت، وكان في مقدمتهم المرحوم مغربي باشا، فقلت له: اعلم يا باشا أنني لا أستطيع أن أفهم معنى إصرارك على إبقاء شاب جميل بين فتياتنا طيلة النهار، وهو - والحمد لله - لا عمل له؛ لأنه ناظر، ولا أظن أن غيري يفهم ذلك، وسأعرض المسألة على حضرة صاحب العظمة عند تشريفه المدرسة لأرى إذا كنت أنا على حق أم الحق في جانبكم، وسترى سعادتك أن عظمة السلطان سيخرجه أمامك رغم كل اعتراض، ونظر مغربي باشا إلى بعض من كانوا معه، وقال: «إنها تفعل ذلك، وأكثر منه، فاستدعوا لي ذلك الناظر.» ولما حضر، وحياه قال: اسمع يا أستاذ، إننا قد قررنا نقلك اليوم من هذه المدرسة . قال: إلى أين؟ قال مغربي باشا باسما: لقد قررنا نقلك من هنا، أما إلى أين فهذا ما لا نعرفه الآن.
وخرج الرجل يتعثر في أذياله، ويندب سوء حظه، ويندم على عدم إطاعتي فيما رجوته فيه، ثم عين معلما في مدرسة «إدكو»، ومن غريب المصادفات أنه لم يتمتع بعدها بوظيفة ناظر، وكان يرجوني كثيرا أن أتوسط له، وكنت أجيب رجاءه، وأفعل ما أستطيع دون جدوى، وهكذا ناله من الضرر أكثر مما نالني.
زيارة ملكية
عدنا إلى المدرسة بعد أن هدأت الحالة، وتولى المغفور له الملك فؤاد سلطانا على مصر، فأخذ يزور المدارس جميعها، واستعد مفتشو وزارة المعارف لاستقبال عظمته إذ ذاك في كل مدرسة، واجتهدوا أن يظهروا له في كل مدرسة دخلها غرائب فن التربية، وبدائع فن التنميق والتحسين والتجميل، وصرفت الوزارة في كل مدرسة مبلغا عظيما من المال للوصول إلى تلك الغاية، وجعلوا مدرستي آخر مدرسة تتشرف باستقبال عظمته، ثم أهملوها فلم يخبرونا بزيارة عظمته إلا قبل الزيارة بأسبوع واحد، ولم يصرفوا لي مليما واحدا للإنفاق منه في استقبال عظمته، وعرفت أنا ما يراد بي، فضحيت بمبلغ شهرين من مرتبي صرفته على استقباله، وكانت لمدرسة المعلمات مدرسة أولية ملحقة يتمرن فيها الطالبات على التدريس كما قدمت فأعددتها للزيارة، وكان ذلك ضد رأي حضرة صاحب السعادة المغربي باشا الذي قال: إنه لا يجوز أن يزور عظمته مدرسة أولية، ولكنني نفذت رأيي، وأعددت المدرسة، وكانوا يظنون أن عظمته قد لا يسر من مدرستي فيكون ذلك سببا في إخراجي منها، وكان المرحوم المستر دانلوب الذي كان يحميني من ذلك المفتش الظالم قد ترك القطر المصري، وأصبح لصاحبنا كل السلطة والسلطان بصفته أحد أبناء التاميز، ولا يستطيع أن يرد عدوانه إلا إنجليزي مثله.
شرف جلالته المدرسة فاستقبلته الطالبات في أول فصل دخل بقصيدة استحسنها هو ومن معه، وكانت من شعري، ثم قدمتها إلى جلالته مكتوبة في إطار على طراز عربي مزخرف بالصدف البراق، وأحطت القصيدة برسم بديع لبعض الأزهار، فأعجب بها كل الإعجاب، وكان صاحبنا المفتش حاضرا، فوقف صامتا لا يكاد يصدق أذنيه، وكان يسير وراءنا المغفور له سعيد باشا ذو الفقار، وكان رحمة الله عليه يميل إلى مساعدتي، فكنا إذا دخلنا فصلا وخرجنا منه تغير موقفي بالنسبة لجلالته، فصرت على يمينه بعد أن كنت على يساره، وهنا ينبهني سعيد باشا من خلفي قائلا: «إنك على يمين عظمة السلطان.» وكان عظمته مسرورا باسما فشجعني هذا، فنظرت إلى عظمته مستفهمة: لقد تغير المركز دون أن أقصد، فهل ضايق هذا عظمتكم؟ فابتسم المغفور له وقال: لا، أبدا.
وكنا قد فرشنا لعظمته في الممرات بساطا ضيقا، وفجأة نظرت فإذا أنا أسير على البساط، وجلالته يسير على الأرض، فقلت: عفوا، إن هذا البساط قد وضع لعظمتكم، أما أنا فأسير كل يوم من هذا الطريق على الأرض. فضحك جلالته ثانية، وقال: لا حرج عليك.
زرنا جميع الفصول، وقد ارتاح جلالته إلي، وأخذ يصغي إلى حديثي كأنه يعرفني منذ زمن بعيد، فلما انتهت زيارته لفصول مدرسة المعلمات انتقلنا إلى الملعب، فشاهد عظمته فصلا يلعب بعض تمرينات رياضية، وكنت أقف إلى جانبه، ومن ورائي حضرتا صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار، وعدلي يكن باشا وزير المعارف إذ ذاك، وإلى جانب وزير المعارف المرحوم مغربي باشا، وقد مال عليه وأفهمه أني أريد أن يزور عظمة السلطان المدرسة الملحقة، وهو ما لا يوافق عليه، واستعد المغفور له عدلي باشا لمنع تلك الرغبة التي أريدها أنا، ولكني سبقته إلى تنفيذها، فقلت لجلالته: إني قد أعددت لزيارة عظمتكم المدرسة الملحقة، وهي أظرف بكثير من مدرسة المعلمات؛ لأن تلميذاتها طفلات صغيرات، ولكنهم يحاولون منعي من ذلك مع أني أنفقت على زينة تلك المدرسة من جيبي الخاص، وكل حجتهم في ذلك المنع أننا سنسير خطوات تحت الشمس، وأنا مستعدة ردا على هذا الاعتراض أن أحضر لعظمتكم مظلة. قال: أنا عسكري يا سيدة، وسأذهب إليها رغم هذا، وبدون مظلة.
وانتهت ألعاب الطالبات، وابتدأنا نسير جهة المدرسة الملحقة، وأسرع المغفور له عدلي يكن باشا ليمنع جلالته عن الذهاب فقال له باللغة الفرنسية: لقد أعطيت وعدا بالذهاب. فسرنا وسار الجميع في أثرنا، وهم يتهامسون حتى إذا وصلنا إلى المدرسة الملحقة قال عظمته: حقا إنها أفضل من مدرسة المعلمات، وكانت المدرسة حديثة البناء؛ تتكون من ثلاثة أضلاع، وكان العيب الوحيد الذي في البناء أنه لا توجد مظلات أمام أبواب الفصول، بل كانت تفتح جميعها على العراء، ولستر هذا العيب وضعت أمام الفصول قماشا يحجب الشمس عنها فظهر بهاؤها ورونقها، فلما قال عظمته: إنها أحسن من مدرسة المعلمات. قلت: نعم، هي أحسن الآن بعد أن وضعنا لها هذا القماش؛ لأن هذا البناء يعيبه عدم وجود مظلات أمام أبوابه، ولعلهم أرادوا بعدم مجيء عظمتك إلى هنا إخفاء ذلك العيب. فضحك جلالته، ودفعني عدلي باشا يكن في ظهري بقبضة يده قائلا: ألا تريدين السكوت؟ قلت: لا، ويجب أن يعرف عظمته كل شيء. فضحك الجميع، وسرنا إلى غرفتي، وهناك شكرني حضرة صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد، وقال: إنه لم يسر من مدرسة مثل سروره من مدرستي. ووقف المفتش الإنجليزي مشدوها لا يبدي حراكا، حتى إنه لكثرة دهشته فتح فمه فلم يغلقه، وخرج عظمة السلطان ومن معه، ولم يبق أمامي غير حضرة المفتش، فقال: لا أدري ما الذي صنعت له حتى أعجب بك كل الإعجاب؟ قلت: لقد سحرته يا مستر فلان كما سحرت جناب المستر دانلوب من قبل، ولكني لسوء حظي لم يفلح سحري فيك أنت فقط. فتركني دون أن يجيبني وانصرف.
نتائج الزيارة الملكية
انتهت الزيارة الملكية، وكان من أثرها أن عمل ذلك المفتش ضدي جهد المستطاع، وكان لسوء حظي أنا أن المستر دانلوب الذي كان يحميني قد عاد إلى بلاده، وانتهز ذلك المفتش الفرصة، وأفهم الإنجليز أني ضدهم، وأن بقائي كناظرة محبوبة قد يكون له نتائج لا تتناسب وحالة الحرب التي كنا فيها، وتغاضى سامحه الله عن أن مدرستي كانت المدرسة الوحيدة التي لم تضرب، ولم تقم بأية حركة، ولكن هكذا الشخصيات تدخل في السياسة وكل شيء؛ فالرجل لأغراضه الشخصية اتهمني بما يعلم هو نفسه أنه اتهام باطل، والإنجليز يثقون في بعضهم البعض ثقة عمياء، فلا يبحثون عن مبلغ ما يقوله أحدهم من الصحة أو من الحقيقة، وهكذا اتفق رأيهم على أن لا أعمل في التعليم عملا جديا، ولم أكن أعلم بذلك الاتفاق.
صفحة غير معروفة