وبعد يومين من هذا التاريخ نقل إلى مدرسة محرم بك الابتدائية بناء على إلحاحي وخطاباتي التي كانت تتوالى على ذلك الكبير، ولم يمكث في مدرسة محرم بك يومين حتى تشاجر مع ناظرها وضربه، وأبلغ الخبر إلى الوزارة فأحالته على القومسيون الطبي، فقرر أنه مريض مختل الشعور، وأخذ ذلك العظيم يقول في مكتبه: عرض ذلك المعلم على خمسة من نظارنا الرجال فلم يعرفوه، وتشاجروا معه، وبمجرد ما وقع نظر نبوية موسى عليه، قالت: إنه مريض، ويجب علاجه، تالله إنها لساحرة.
حصل ذلك في سنة 1915، وانقطعت عني أخبار ذلك المعلم، فلم أعلم عنه شيئا، وفي سنة 1936 كنت عند سكرتير صاحب السعادة العشماوي بك، وإذا بأفندي يقبل علي ويسلم بلهفة، ويقول لي: لم يساعدني في نكبتي من النظار إلا أنت. وفي الحال تذكرت ذلك الشيخ المريض، وقلت: «لعلك فلان؟» فقال: نعم أنا هو، ولا أزال أحفظ لك ذلك الجميل.
استمرار المناورات
يئس المفتش من حصول نزاع بيني وبين المعلمين، فأراد أن يتدخل في الموضوع، وأن يخلق هو نزاعا بأي شكل كان، وشاء سوء الحظ أن تتاح له الفرصة فأرسلته وزارة المعارف إلى الإسكندرية للإشراف على حفلة توزيع إعانة المدارس الحرة للبنات، ودعاني مفتش التعليم الأولي لحضور حفلة التوزيع، وألقى المفتش الإنجليزي كلمته في الحفلة فابتدأها ببراعة استهلال، قال فيها:
لقد خلق المصري جبانا بفطرته.
ثم انتقل من مدح المصريين بهذه الكيفية إلى المدارس التي جاء لتشجيعها فقال:
إنك تدخل تلك المدارس فترى كل من فيها في حركاتهم وسكناتهم وألفاظهم زبالين.
وساءني أن يقوم إنجليزي في حفل من المصريين كان يرأسه كبير من الأسرة اليكنية فيطعن المصريين أولا، ثم يعطف على المدارس التي جاء لتشجيعها فيرميها بكل عيب ونقيصة، ساءني أن يحيينا ذلك الأجنبي تلك التحية، وهو واحد ونحن جماعة، فملت أعيب على المفتشين ونظار المدارس الثانوية سكوتهم على تلك الإهانة، وضحك أحدهم، وقال: «إن الرجل كان يتكلم بلهجة أعجمية لم يفهمها أحد إلا الذين اعتادوا لهجة الإنجليز في اللغة العربية.» قلت: ولكنكم أنتم من هؤلاء. قال: نعم، ولكن ما الذي يدعونا إلى إذاعة ما قال بين الملأ ما دام الناس أنفسهم لم يفهموه؟ فكان عذرا ظريفا، وإن كان لم يقنعني، وقام المفتش الأول، وقال كلمة في تعليم الفتاة شاد فيها باسمي؛ بصفتي أول فتاة مصرية تولت المناصب المختلفة بوزارة المعارف، وانتهت الحفلة بعد أن اختلى المفتش الإنجليزي بمفتش التعليم الأولي، وأفهمه أنه أخطأ في الإشارة بذكري لأني ضد وزارة المعارف، ولأنه يجب محاربتي، قال مفتش الأولي ذلك لبعض أصدقائه، وبلغني فأوجست منه خيفة؛ لعلمي أن هؤلاء الناس يخدمون الإنجليز في كل ما يريدونه من رغبات، ولو بالإشارة، وفيما قاله المفتش الإنجليزي ما يكفي لتوجيه نظر المفتش الأولي إلى العمل ضدي.
لم يطل انتظاري حتى بدا لي مجهود ذلك المفتش في العمل ضدي، فقد ابتدأ أحد مدرسي مدرستي يشق عصا الطاعة، ويناوئني العداء بلا سبب، فكنت أقابل هذا بصبر وحلم خشية أن يكون قد حرضه أحد على ذلك، وأخيرا أردت أن أكتشف الحقيقة فخاطبت مفتش التعليم الأولي تليفونيا في مساء أحد الأيام، وقلت له في أثناء حديثي إن فلانا - وذكرت له اسم المدرس الذي تخيلت أنه يحرضه - إن فلانا هذا مع ما يبدو عليه من نشاط وذكاء قد ظهر أن نتيجته في الامتحانات سيئة جدا، قلت ذلك لأعلم إذا كان بين المفتش والمدرس رابطة فينقل إليه ما قلت.
وفي صباح اليوم التالي كنت أحضر درس انتقاد كانت تلقيه طالبة في مادة الخط، وحضر جميع المعلمات والمعلمين، وكان على منصة التدريس كرسي وضعته الطالبة لتشرح للتلميذات طريقة الجلسة أثناء كتابة الخط.
صفحة غير معروفة