جلست على مقربة من الشيخة، وتقدم منها امرأتان، وأعطت الشيخة إحداهما منديلها لتكشف عن مستقبلها، فقالت لها في لهجة الطفلة العابثة المترددة: «مش واوه؟» وهي جملة ترسلها بين التأكيد والاستفهام. فقالت الزائرة: لا يا سيدتي مش واوه. فقالت الشيخة: «أنا قلت مش واوه» قالت ذلك بلهجة التأكيد، ثم قالت بلهجتها الأولى: «مش حاجة ضايعة؟» فقالت الزائرة: نعم يا سيدتي شيء مسروق. قالت الشيخة: «أنا أقول حاجة ضايعة.» ثم عادت إلى ترددها تقول: «مش ذهب؟» قالت الزائرة: يا ليتها كانت ذهبا. ومعلوم أن الماس أغلى من الذهب؛ ولهذا قالت الشيخة بلهجة التأكيد: «أنا أقول ألماظة.» فنظرت المرأة إلى زميلتها، وقالت في سذاجة: لقد عرفت الشيء المسروق. وتشجعت المنجمة، وقالت: سرقها شخص يأكل معك. وبالطبع لا يخلو الحال من أن يكون مع كل سيدة بعض أشخاص يأكلون معها، إما من الخدم، أو من الأقارب، ولكن المرأة لسذاجتها تأكدت أن الشيخة قد عرفت ذلك بعلمها، فقالت لزميلتها بصوت مسموع: لا يأكل معي إلا نفيسة. وزادت جرأة الشيخة، فقالت: إن نفيسة هي السارقة. وهنا قالت المرأة في دهشة: لقد عرفت المنجمة حتى اسم السارقة. فتركت المكان، وهي تعتقد أن المنجمة قد عرفت كل شيء حتى اسم السارقة، ونسيت أنها هي التي ذكرت اسم نفيسة بصوت سمعته المنجمة كما سمعته أنا، وقد كنت أكثر بعدا منها عن المنجمة، وهنا علمت كيف تعمل السذاجة والجهل لصالح هؤلاء المنجمات.
المرحوم موسى محمد بك قاضي محكمة دسوق سابقا «وهو شقيقي».
تقدمت إلى الشيخة بعد هذه الزائرة، فقالت لي جملتها المعروفة: «مش واوه؟ مش حاجة ضايعة؟» وأنا أجيبها بالنفي، ثم قالت لي بعد هذا: «مش زواج؟» وخشيت إن أنا وافقتها على هذا لأظهر لوالدتي جهلها أن تظن والدتي أني قد أضمرت في نفسي أن أسأل الشيخة عن الزواج، وقد كنت أود أن تعلم والدتي بجلاء كذب تلك المنجمة، فالتفت إلى والدتي، وقلت لها في شيء من الدهشة: زواج؟ طيب ما أنا متزوجة! وانتهزت المنجمة تلك الفرصة وأسرعت قائلة: أنا أعرف أنك متزوجة، وسأرد لك زوجك. فنظرت إلى والدتي قائلة: هيا بنا إلى المنزل ننتظر الزوج عند قدومه إلينا. قلت ذلك وانتصبت واقفة، وقامت والدتي معي، فتعالت أصوات النساء اللائي يحطن بالمنجمة قائلات: حذار أيتها الفتاة من أن تسخري بالشيخة وإلا أصابك ضرر بليغ. قلت: وماذا فعلت؟ إني سأذهب مسرعة إلى المنزل لأنتظر زوجي ما دامت الشيخة سترده إلي كما وعدت. وخرجت أنا ووالدتي بعد أن تغير اعتقادها في الشيخة؛ لأنها رأت كيف ظنتني متزوجة، وأنا لا أزال فتاة.
ظهرت نتيجة الامتحان، ولم ينجح من المدرسة السنية إلا أنا وطالبة أخرى اسمها عائشة صبحي تنتمي إلى أسرة مجيدة، وهي الآن حرم حضرة صاحب السعادة إسماعيل باشا رمزي، وكنت أنا الأولى بالنسبة للبنات، وكانت هي بعدي وبيني وبينها عدد من البنين، ولست أتذكر ترتيبنا بالضبط.
ومن مدهشات الأحلام أني حلمت قبل ظهور هذه النتيجة بأني أسير في طريق بلدتنا الريفية بسرعة، وأني دخلت منزلنا في الريف، ونظرت ورائي فرأيت زميلتي صاحبة العصمة حرم إسماعيل باشا رمزي آتية من بعيد فقلت لها: لقد تأخرت يا عائشة. قالت: لا بأس، فلم يمر أحد من التلميذات سوانا. وهكذا ظهرت النتيجة، فلم يمر أحد سوانا.
وعلى ذكر زميلتي صاحبة العصمة حرم إسماعيل باشا رمزي أقول إنها من فضليات المصريات، ومن أولياتهن علما وأخلاقا وذكاء، وإن كان اسمها لم يظهر كثيرا في المجتمعات، ولعل ذلك ناشئ من تمسكها بالعادات الشرقية، فقد خرجت من أسرة كريمة، ودخلت أسرة مثلها في الكرم من أسر المصريين؛ لهذا ظلت بعيدة عن المجتمعات، لم يذكر اسمها في السياسة إلا مرة واحدة إذ خطبت أمام حضرة صاحب الرفعة النحاس باشا بعد خروجه من الوزارة في عيد 13 نوفمبر 1938، وهكذا تخفي منازل الأسر العريقة دررا لو ظهرت في المجتمع لأضاءته بذكائها الحاد المتوقد، وأكسبته بهاء وروعة.
شاب ريفي
نجحت في الشهادة الابتدائية في يونيه سنة 1903 كما قدمت، ولم ينجح في البلاد المصرية كلها غيري في ذلك العام إلا ثلاث فتيات، وأنا رابعتهن؛ تلميذتان من المدرسة السنية، واثنتان من مدرسة عباس، ولا غرابة بعد هذا أن يقوم شبان قريتنا وأن يقعدوا ابتهاجا بهذا النبأ، وتقديرا لتلك العبقرية في نظرهم إذ ذاك؛ أي العبقرية التي استطاعت بها فتاة من قريتهم أن تنجح في الشهادة الابتدائية، مع أن الناس الآن لا يعلقون أهمية ما لمن ينجحن في الشهادات العالية، فسبحان مغير الأحول، كنت في القرية حسب عادتي عندما ظهرت نتيجة الابتدائية، فتوافد الناس على دارنا أفواجا للتهنئة، وإظهار إعجابهم بذلك النبوغ النادر كما كانوا يسمونه، وعلى أثر ذلك أرسل إلي أحد مشايخ القرية كريمته، وهي في نفس سني لتتعلم من معاشرتي المدنية، وظلت عندي مدة شهر كنا نخيط معا بعض الملابس، وفي أحد الأيام جاءتني «ناعسة»، وهو اسم تلك الفتاة، وعلى وجهها شيء من علامات القلق، وما كادت تخلو بي حتى قدمت إلي خطابا من أخيها، يقول لي فيه إنه أحبني دون أن يراني، كما يحب الناس الجنة دون أن يروها.
ساءتني جرأة هذه الفتاة، وهالني استهتار أخيها بالآداب في تلك القرية الصغيرة التي رأس مال أهلها الدين والكمال، وخشيت إن أنا أطلعت شقيقي على الخطاب أن يغضب لهذا، وأن يضرب ذلك الشاب، ويصبح ذكري أحدوثة بين أهل القرية جميعا، فكظمت غيظي من الفتاة وأخيها، ومزقت الخطاب إربا إربا حتى لا يستطيع أحد قراءته، ووضعته في الظرف، ولم يكن الظرف معنونا، وأعطيته لها، وقلت لها: لقد ساءني جدا أن يرسل أخوك هذا الخطاب، وأن تكوني أيتها الصديقة الرسول؛ ولهذا أرجوك أن تذهبي الآن وأن تخبريه بأني لا أعرف شيئا عن الحب، وأني أحتقر كل من يعرفه، كما أرجو أن لا تعودي إلى دارنا مرة أخرى.
خرجت الفتاة تتعثر في أذيال الخجل والأسف، وهي لا تكاد تقوى على جر قدميها، ومضت أيام ولم تعد «ناعسة» إلى دارنا، فسأل أخي ووالدتي عن السبب، فقلت لهما: لقد تم تمدينها، ولم تعد في حاجة إلي. وفي ذات يوم جاءني أخي، وقال لي في شيء من الحدة: كيف عرفك فلان؟ وذكر اسم ذلك الشاب، وخشيت في تلك اللحظة أن يكون ذلك الشاب قد أغضبه رفضي لصداقته فاختلق علي من الأكاذيب ما يغضب أخي، ولكني تمهلت، وقلت لأخي: ومن أين عرفت أنه يعرفني؟ قال: لقد كنت أمس في فرح فلان، وكان هذا الشاب يجلس أمامي، ولكنه لم يشعر بوجودي، وسمعته يتحدث مع بعض شبان القرية، فقال أحدهم إن فتيات المدن فاسدات الأخلاق ماجنات، وهنا انبرى له ذلك الشاب يكذبه ويقول: إن كريمة موسى أفندي محمد، وهي من فتيات المدن، ومن أولى الناجحات في الابتدائية هذا العام على جانب عظيم من الأخلاق والكمال. فقال له ذلك الشاب المنتقد: وما يدريك فقد تكون كباقي فتيات المدن ماجنة فاسدة، ولكنا لا نعرف من أمرها شيئا؟ فقال أخو ناعسة: لقد خبرتها بنفسي، وأعلم أنها أكثر النساء عصمة واستقامة. وهنا تبسمت، وقلت لأخي: وهل كلامه هذا يدل على أنه يعرفني؟ قال: لقد قال إنه خبر ذلك بنفسه. قلت: هذا تعبير يدل على تأكده مما يقول، وهل نسيت أن ناعسة أخته بقيت معي مدة تخالطني وأخالطها، وعرفت من أخلاقي ما لا يعرفه غيرها؟ وأظن أن هذا ما أراده أخوها بقوله إنه خبر ذلك بنفسه، ولم يشأ أن يذكر اسم أخته. فزالت آثار الغضب عن ملامح أخي، وقال: «صدقت، لقد نسيت مسألة ناعسة.»
صفحة غير معروفة