أما عمر فإنه أخذ يفكر في طريقة لمحو آثار هذه الهزيمة النكراء التي مني بها الجيش الإسلامي، فأخذ يحث الناس على السفر إلى العراق للانضمام إلى المثنى بن حارثة، ولكنه لقي في ذلك عنتا وحرجا، وحين أراد أن يبعث بني بجيلة سار زعيمها جرير بن عبد الله وهو مكره، فإنه كان يفضل السير إلى الشام، ولكن عمر ترضاه وقومه بربع الخمس استصلاحا لهم مع نصيبهم من الفيء، ثم بعث بني ضبة بزعامة عصمة بن عبد الله، فساروا جميعا للعراق إمدادا للمثنى.
وكتب عمر إلى أهل الردة من بني عبد القيس وغيرها ممن لم يكن يسمح لهم بالجهاد أن يخرجوا إلى العراق، فسارت جموع كثيرة منهم حتى أتت المثنى، فسار بهم حتى أتى «البويب» في المكان الذي بنيت فيه الكوفة بعدئذ، والتقى الجمعان في رمضان سنة 13ه، وأظهر المثنى دربة فائقة، فتغلب المسلمون على الفرس، وقتل «مهران» قائدهم وجمع كبير جدا من الفرس، واطمأن المسلمون إلى هذا النصر الكبير الذي عوضوا فيه انكسارهم «يوم الجسر»، وانتقم المسلمون من الفرس حتى سمي هذا اليوم: «يوم الأعشار»؛ فقد أحصي فيهم مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة رجال في المعركة، عدا من قتل تسعة أو ما دونها، وعد يوم البويب نصرا عظيما، لا لأنه غسل عن المسلمين عار يوم الجسر، ولا لأنه قهر الفرس القهرة الكبرى، بل لأنه مكن المسلمين من السيطرة على السواد كله، وصار لهم ما بين دجلة والفرات يتصرفون فيه تصرف الفاتح المسيطر، وأخذوا يهيئون أنفسهم لغزو بلاد العراق العجمي وفارس، قال الطبري: «لما أهلك الله مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة، فمخروها لا يخافون كيدا، ولا يلقون فيها مانعا.»
ولما بلغت أخبار هذا النصر آذان الخليفة استبشر بذلك، وأراد أن يعزز الجيش الإسلامي في العراق بقائد آخر وعدد من الدهاة، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص - وكان على صدقات هوازن في نجد - أن يقدم إلى المدينة، فأمره على حرب العراق، وأوصاه فيما أوصاه بقوله: «يا سعد بني وهيب، لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله، وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم
عليه منذ بعث إلى أن فارقنا، فالزمه فإنه الأمر، هذه الوصية إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين.»
ثم بعثه إلى العراق في أربعة آلاف، فلم يصل سعد وجنده إلى العراق حتى وجد أن المثنى قد مات متأثرا بجراحه التي كان جرحها يوم الجسر فانتفضت عليه ومرض، فاستخلف بشير بن الخصاصية، ولما بلغ سعد «زرودا» توفي المثنى، فكتب عمر إلى سعد أن يتوجه إلى «القادسية»، وأخذ يوالي إرسال النجدات والبعوث إليه حتى بلغ عدد جيش المسلمين بضعة وثلاثين ألفا، كثير منهم من ربيعة، وقال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب، فلم يدع رئيسا ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سلطة ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم، وكانت ربيعة تسمى في الجاهلية: ربيعة الفرس، فسمتها العرب ربيعة الأسد، وكان العرب في جاهليتهم يقولون: «فارس الأسد»، فأطلقوا ذلك على ربيعة، وجعل عمر على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور، وجعل إليه الأقباض وقسمة الفيء، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي، والترجمان هلال الهجري، والكاتب زياد بن أبي سفيان، وكان فيهم سبعون بدريا وستمائة وبضعة عشر صحابيا، وسبعمائة من أبناء الصحابة، وكتب عمر إلى سعد كتابا يقول فيه: «أما بعد فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله واستعن به على أمرك كله، واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع، وإذا انتهيت إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي جمع تلك الأبواب لمادتهم ولما يريدونه من تلك الآصل، وهو منزل رغيب خصيب حصين، دونه مناظر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك على أنقابها، ويكون الناس بين الحجر والمدر على حافات الحجر وحافات المدر والجراع بينهما، ثم الزم مكانك فلا تبرحه.»
ثم كتب إليه رسالة أخرى يقول له فيها: «... اكتب إلي أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم، فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأنني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وارجه.»
فكتب إليه سعد بصفة البلدان الفارسية بين «الخندق» و«العتيق»، وأن ما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين، فأما أحدهما فعلى الظهر، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يدعى الحضوض، يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة، وأن ما عن يمين «القادسية» إلى «الولجة» فيض من فيوض مياههم، وأن جميع من صالح المسلمون من أهل السواد قبلي إلب لأهل فارس قد خفوا لهم واستعدوا لنا، وإن الذي أعدد لمصادمتنا رستم. فكتب إليه عمر: «قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينفض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن، فإنه خرابها إن شاء الله.»
فأقام سعد في القادسية شهرا لا يأتيه من الفرس خبر، فبعث سراياه بين «كسكر» و«الأنبار»، فأغارت على من ليس لهم ذمة أو عهد ومن غدر بالمسلمين من أهلها، فأرسل أهل السواد إلى «يزدجرد» ملك الفرس يخبرونه بما عند المسلمين من القوة والعدد، واستنجدوه، وأنه إن تأخر عن نجدتهم ألقوا بأنفسهم للعرب، فأرسل رستم وأمره أن يستعد للقاء المسلمين، وأمره أن يسير من فوره، فسار رستم وهو مكره؛ لأنه كان من رأيه أن يطاول الفرس حتى يهنوا ويضعف أمرهم، وخرج رستم حتى عسكر «بساباط»، وبلغت أخباره سعدا، فكتب بذلك إلى عمر فأجابه بكتاب يقول له فيه: «لا يكربنك ما يأتيك عنهم، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث رجالا من أهل المناظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم.»
18
صفحة غير معروفة