11
وبعد أن تم عقد الصلح وكتابة عهده أخذ المسلمون يرتبون أمورهم لمقابلة الجيش البيزنطي الذي تجمع في جنوبي سورية عند بحيرة الحولة بقيادة تيودوروس أخي هرقل، أما عدد هذا الجيش فقد اختلفت الروايات فيه بين المائتي ألف جندي والمائة ألف، والخمسين ألفا، والثلاثين ألفا،
12
وقد ظل هرقل يجمع قواه هذه طوال الشتاء حتى إذا ما جاء الربيع عام 636م/14ه التقى الجمعان في جنوب شرقي اليرموك عند سهل الياقوصة، وكان عدد جيش المسلمين يتراوح بين أربعة وعشرين ألف مقاتل، وأربعين ألف مقاتل، وقد اشتد القتال بين الطرفين وطال أمده حتى انضم نصارى العرب الذين كانوا يحاربون في صفوف البيزنطيين إلى جانب إخوانهم العرب المسلمين، وتم النصر للمسلمين في رجب عام 15ه/آب سنة 636م وتمزق الجيش البيزنطي شذر مذر، وهرب هرقل إلى أنطاكية.
وانشطر الجيش الإسلامي شطرين: واحدا اتجه نحو الشمال، وآخر اتجه نحو الجنوب إلى قيسارية والرملة وإيلياء (القدس)، أما الجيش الشمالي فإنه أتى دمشق وفتحها الفتح الثاني؛ لأن أهلها عادوا فأعلنوا العصيان، ثم سار الجيش بقيادة أبي عبيدة ومعه خالد بن الوليد نحو حمص، فحاصرها ثم صالحه أهلها على صلح أهل دمشق،
13
ثم بعث أبو عبيدة خالدا إلى قنسرين، فلما نزل بحاضرها زحف إليهم الروم تحت زعامة منياس، فقاتلهم خالد قتالا عظيما حتى قتل منياس، وأرسل أهل الحاضر إلى خالد يخبرونه أنهم عرب وأنهم إنما حشروا حشرا مع الروم، وأنهم لم يكن الحرب من رأيهم، فقبل منهم وتركهم، وتم لخالد في قنسرين النصر العظيم في سنة 15،
14
وبلغت أخبار هذا النصر مسامع الخليفة عمر فقال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم مني بالرجال.
ولما أتم خالد فتح قنسرين وحلب صعد يريد فتح سائر مدن الشمال، كمنبج، وأنطاكية، وكانت حصن المسيحية الأعظم، كما توجهت الجيوش نحو مدن الجزيرة، ففتحت الرها ونصيبين وبلاد أرمينية، وهكذا تم الاتصال بين فتوح الشام وفتوح العراق، وأما الجيش الجنوبي - وكان بقيادة عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة - فإنه سار نحو بيسان والأردن، وبعد أن استولى على تلك الديار اتجه نحو الجيش الإسلامي المرابط في فلسطين بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وكان الخليفة قد كتب إلى معاوية يقول له: «أما بعد فإني قد وليتك قيسارية، فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا نعم المولى ونعم النصير.» وكان معاوية قد سار إلى قيسارية، وهي أعظم الثغور وقتئذ، فحاصرها واشتد القتال بينه وبين صاحبها، وأبلى المسلمون بلاء عظيما حتى تم له الفتح، ثم سار نحو عمرو بن العاص بعد أن فتح نابلس وعسقلان وغزة، وتجمعت الجيوش الإسلامية حول القدس فحاصرت بطريقها «سفرونيوس»، وضيقت عليه الخناق، ودام الحصار أربعة أشهر لقي فيها الروم الأذى الشديد والجوع والعطش، ثم تكاتب بطريق القدس وعمرو بن العاص في شرائط الصلح، وخاف الروم على الكنيسة العظمى، وطلب البطريق أن يباشر عقد الصلح مع الخليفة نفسه، فكتب عمرو إلى عمر يستدعيه إلى القدس، وكان عمر وقتئذ بالجابية، فقدم إلى القدس ودخلها وصالح أهلها، وكتب لهم كتابا أورد لنا الطبري نصه حيث يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة.»
صفحة غير معروفة