وقد كان التقاء المعسكرين في جمادى الأولى عام 13ه/تموز من عام 634م، وقد انتصر المسلمون على قوات «بيزنطية» التي اضطروها إلى التراجع للقدس، وتختلف المصادر العربية في ذكر القائد العربي لهذه المعركة، فبعضها يذكر أن القيادة كانت لأبي عبيدة؛ لأن أبا بكر حين بعثه جعله قائدا عاما لأمراء المسلمين في فتوح الشام، وبعضها يذكر أنها كانت لخالد. ومهما يكن من شيء فإن فوز المسلمين بهذه المعركة كان فوزا مؤزرا تشتت به شمل الروم البيزنطيين. (4-2) معركة اليرموك الخالدة
بعد أن ظفر المسلمون في معركة «أجنادين» واضطروا البزنطيين إلى التراجع للقدس وقيصرته أخذوا يعدون العدة لضربهم ضربة قاضية، ورأى خالد أن يحل قضية القيادة، فإنه لما وجد تفرق القيادات وسوء نتائج ذلك حشد القوم وخطبهم، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: «إن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به، وبالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته.» فقالوا له: وما الرأي؟ قال: «إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله؛ فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقص منه إن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه إن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينفعكم عند الله ولا عند خليفة رسوله، هلموا فإن هؤلاء قد تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلموا، فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم، ودعوني إليكم اليوم.»
فأمروه وخرجت الروم في تعبئة لم ير الراءون مثلها قط، وخرج خالد في تعبئة لم تعبئها العرب قبلا، خرج في ستة وثلاثين كردوسا إلى الأربعين، وكان القاضي أبا الدرداء والقاص أبا سفيان بن حرب، وعلى الطلائع قباث بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود،
29
وكان في الجيش عدد كبير من عظماء المسلمين بينهم ألف من الصحابة، ومائة من أهل بدر، وكان القاص أبو سفيان يقص بين الصفوف يحرضهم على القتال والاستشهاد، ويصيح: الله الله إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا اليوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال له: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، ثم نشب القتال وتطارد الفرسان.
وبينما المعارك ناشبة جاء صاحب البريد من المدينة فسألوه عن الخبر، فلم يخبر إلا بالسلامة - وإنما جاء بموت أبي بكر الصديق واستخلاف عمر، وعزل خالد، وتأمير أبي عبيدة، ثم إنه أبلغ خالدا ذلك وأعطاه كتاب عمر، فأخذه وجعله في كفانته، وخاف إن هو أظهر ذلك أن تنتشر الفوضى، ثم إن خالدا اشتد في القتال والاستبسال حتى صلى المسلمون إيماء وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب حتى دخل في جند العدو وبين صفوفهم، وصار بين خيلهم ورجلهم، فأدار الخيالة ظهورهم للمسلمين وهربوا إلى الصحراء، أما الرجالة فقد سقطوا بين يدي المسلمين، كأنما هدم بهم حائط، وغنم المسلمون مغانم كبيرة، حتى كان سهم الفارس ألفا وخمسمائة (رضي الله عنهم وأرضاهم)، وبعث فينا من يسير بنا لتطهير الأرض من المستعمرين والصهيونيين اليوم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير سبحانه.
الفصل الرابع
في وفاته ومناقبه وأسرته
حم الصديق لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، فلما اشتد عليه المرض دعا كبار الصحابة فاستشارهم في استخلاف عمر من بعده، بعد أن أمره بالصلاة فيهم مدة حماه، فقالوا له: الأمر ما رأيت يا خليفة رسول الله، وقال بعضهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظه؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوفونني؟ خاب من تزور من أمركم بظلم، أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، ثم اضطجع وجاءه عثمان بن عفان، فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجا منها وعند عهده بالآخرة داخلا فيها، حين يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت من بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا وأطيعوا، فإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل فذاك الظن به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب ، والخير أردت ولا علم لي بالغيب،
صفحة غير معروفة