هذه الجداول تبين لنا مقدار المال المأخوذ من الأقاليم الإسلامية، كما تبين لنا ثروة كل إقليم من هذه الأقاليم؛ لأن الضرائب كانت تؤخذ بنسبة الثروات، وتبين لنا أنواع البضائع التي كانت متوفرة في كل إقليم من الأقاليم المذكورة، والجداول المذكورة تكشف لنا عن مقدار الثروة الضخمة التي كانت ترد إلى بيت المال، ويظهر في العاصمة الإسلامية الكبرى أن عهد الرشيد أغنى عهد الدولة العباسية، فقد قال جميل المدور (في كتاب حضارة الإسلام في دار السلام، ص178): «إنه لم يسمع عن دخل دولة من الدول الخلفاء أنه تجاوز القدر الذي يحمل إلى بيت المال في زمنه (أي زمن الرشيد) مع أنه كان يسلك مع الرعية مسلك الحاكم العادل ولا يضرب عليهم الخراج إلا على قدر ميسرتهم، وإن كان قد زال عنه القليل، مما كان يحمل إلى بيت المال سابقا من المغرب العربي، فقد استعاض عنه بالقليل مما فرض على بلدان النصرانية التي كان غلب عليها الروم من الأموال التي لا يصح أخذها من المسلمين كالخراج والعشور.»
وكان المأمون ينفق هذه الأموال كلها في مصالح الدولة العامة من جيش وإدارة وعمارة ونشر للعلم والحضارة. (6) الحياة العقلية في عهده
ارتفعت الحياة العقلية بكافة نواحيها في عصر المأمون، فهو العصر الذهبي الرائع للحضارة الإسلامية، وهو عصر الازدهار حقا، وما ذلك إلا أن البذرة التي كان بذرها المنصور وتعهدها المهدي والرشيد قد ازدهرت في عهده وآتت أكلها وثمراتها، ثم إن المأمون نفسه كان عالما يحب العلم ويقرب أهله ويغدق عليهم، كما كان ينقب عن المخطوطات من يونانية وأجنبية بصورة عامة، فيجمعها ويعمل على ترجمتها، ويغدق على المترجمين.
وقد حفظ لنا ابن النديم في «الفهرست» وابن أبي أصيبعة في «تاريخ الحكماء» والقفطي في «طبقات الحكماء» أسماء المترجمين وما كان ينفقه عليهم، وعلى نشر هذه المعربات.
أما العلوم الإسلامية من فقه وأصول وحديث وكلام ولغة وأدب وشعر فقد بلغت أوجها في عهده، ونبغ من رجالاتها أئمة كبار كانوا عمدة التأليف وأئمة التصنيف، وقد خلفوا للمكتبة العربية آلافا من التصانيف المفيدة في كل فرع من فروع العلم.
وكذلك كان الأمر في العلوم اليونانية من طبيعية وفلسفية ورياضية وطبية، وقد حكى ابن النديم (في كتاب الفهرست، ص243): «إن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا بحمرة، واسع الجبهة مقرون الحاجب، جالس على سريره، وكأني بين يديه وقد ملئت منه هيبة، فقلت: من أنت؟ قال: أنا أرسطاليس، فسررت به، وقلت: أيها الحكيم أسألك؟ قال: سل، قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسنه العقل، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسنه الشرع، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم.» وكانت بين المأمون وملوك الروم مراسلات، طلب المأمون فيها منهم إنفاذ ما عندهم من مختار علوم الأولين فأجابوه إلى ذلك، وبعث إليهم المترجمين الأربعة؛ الحجاج بن مطر، ويوحنا بن ماسويه، ويحيى بن البطريق، وسلما صاحب بيت الحكمة، فسافروا واختاروا بعض الكتب العلمية وشرعوا في ترجمته ونشره، وفي عهد المأمون وجدت جماعة من العلماء الأغنياء اعتنوا بالعلوم الدخيلة عنايته، فنقلوا كثيرا من الكتب أمثال؛ أحمد ومحمد والحسن أبناء شاكر المنجم، وهم الذين أنفذوا حنين بن إسحاق إلى بلاد الروم لجلب الكتب العلمية الرومية وترجمتها، ووظفوا للمترجم حبيش بن حسن وثابت بن قرة مبالغ من المال للاهتمام بالترجمة، وكانوا ينفقون عليهم في الشهر نحوا من «500» دينار، قال ابن خلكان: «إن المأمون كان مغرما بعلوم الأوائل وتحقيقها.» هو الذي حقق مباحث دورة الكرة الأرضية بعناية بني محمد بن موسى وأخويه أحمد والحسن الأئمة الأعلام في علوم الفلسفة والحكمة والنجوم والموسيقى والهندسة وعلم الحيل «الميكانيكا»، ومن الفلاسفة الكبار الذين كان لهم مكان رفيع لدى المأمون فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندي حفيد الأشعث بن قيس.
ويجب أن لا ننسى أن للفلاسفة السوريين في حران وأنطاكية فضلا كبيرا في نقل علوم الأولين إلى العربية، وقد جمع المأمون في دار كتبه الضخمة المسماة «بيت الحكمة» كنوز العلم وآثاره من إسلامية وغير إسلامية، وكانت هذه الخزانة مفتوحة الأبواب أمام العلماء الذين يريدون الدراسة والتحقيق، ولم يكن الخليفة بعيدا عن أمور البحث؛ وكالدراسة والمناقشة فيما تضمنته هذه الكنوز العلمية، وقد استطاع الفلاسفة الدينيون المعروفون بالمعتزلة أن يثيروا شوق الخليفة للاهتمام بالمناقشات الفلسفية التوحيدية؛ فاعتنق نظرياتهم ومذهبهم في القول بخلق القرآن حتى إنه جعله العقيدة الرسمية للدولة، وأمر بامتحان جميع الذين يرفضون القول بها، وقد بالغ في ذلك إلى درجة التعصب، حتى اضطهد جماعة من العلماء الذين أنكروها كالإمام أحمد بن حنبل وغيره ممن لم يستطيعوا أن يؤمنوا بخلق القرآن.
يقول المؤرخ الهندي السيد أمير علي في كتابه «تاريخ العرب» (ص235): كان عصر المأمون ألمع عصور الحضارة العربية على وجه الإطلاق، فسمي، بحق، العصر الإسلامي الذهبي، ولا مشاحة في أن العشرين سنة التي قضاها في الحكم قد تركت كنوزا زاخرة من الثروة الفكرية، ولم تقتصر هذه النهضة على ناحية معينة من العلوم والآداب، بل شملت نواحي التفكير والثقافات، وكان المأمون لا يؤثر مذهبا أو جنسا خاصا، بل أباح الاستخدام في مناصب الحكومة لجميع المتعلمين على اختلاف أديانهم، كما أنشأ مجلسا استشاريا للدولة يتألف من ممثلي جميع الطوائف، وأصبح هذا الديوان يضم المسلمين واليهود والمسيحيين والصابئين على حد سواء،
4
والحق أنه أحيا دولة العلم والأدب والفكر والترجمة، وكان يعقد المناظرات والمحاورات، وكان بلاطه يعج بأهل العلم والفلاسفة الذين أحيوا الحركات العقلية الزاهرة التي كانت في معاهد أثينا والقسطنطينية، ولولا ما أخذ عليه من شدة تحمسه لمذهب المعتزلة، وحمل الناس على الاعتقاد به لكانت الحركة العقلية التي ازدهرت في عصره حركة لا تشوبها شائبة، ولكن تحمسه لهذا المذهب العقلي الذي استهواه جعله يذهب هذا المنصب الغريب. (7) الحياة الاجتماعية في عصره
صفحة غير معروفة