وهناك رواية ثالثة ذكرها الطبري، وخلاصتها أنه مات معتلا من قرحة في جوفه، ولكنه يظهر لي أن هذه الرواية قد لفقت بعد موته لئلا ينسب قتل الخليفة إلى أمه؛ لشناعة هذا العمل وقبح صدوره من أم، وبخاصة الخيزران التي كان الرشيد يظهرها بمظاهر الإجلال، ومهما يكن من شيء فإن الخليفة لم يعش طويلا بعد غضبة أمه عليه، وبعد محاولته خلع أخيه، ولم يدم حكمه إلا سنة وشهرا وبعض أيام.
ويذكر المؤرخون أن الخيزران بعثت أثناء مرض الهادي إلى يحيى البرمكي تعلمه أن الهادي سيموت فليستعد للأمر، فأعد يحيى عدته وهيأ الكتب للعمال من قبل هارون بوفاة الهادي وهو بعد حي، وأنه قد ولاهم على ما كانوا يلونه على عهد أخيه، وما إن مات الهادي حتى أنفذت تلك الكتب على البر سريعا، وهكذا انقضت حياة الهادي على يد أمه أو بعض المتآمرين، وأخذت الدولة العباسية منذ ذلك اليوم تسلك مسلكا جديدا في سبيل من المؤامرات والدسائس، فبرزت سلطة النساء والجواري، وسنرى النتائج القبيحة لهذا الأمر فيما بعد، ولا بد لنا من أن نختم القول عن الهادي ببيان بعض مزاياه التي أشرنا إلى شيء منها أول حديثنا عنه، فالمؤرخون يجمعون على أنه كان فتى نبيلا سريا يقظا غيورا عالما واسع الثقافة، محبا للأدب والعلم والفن، ويروون أنه أعطى العالم الأديب ابن دأب ثلاثة آلاف دينار؛ لأنه أنشده أبياتا أعجبته، كما أنه أعطى سلما الخاسر الفيلسوف المترجم الشاعر ثلاثمائة ألف درهم لقصيدته التي يقول فيها:
لولا هداكم وفضل أولكم
لم تدر ما أصل دينها العرب
أما بعد؛ فقد كان الهادي فتى من فتيان قريش آتاه الله عقلا ونبلا وبسطة في العلم والمال، فأخذ يسلك بالخلافة مسلك الفخامة والجلال والعظمة، وينثر الذهب والفضة ليعلي من قدر الخلافة، وقد كان لأهل العلم والفن نصيب كبير في ماله وجاهه، قال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني: «كان إسحاق الموصلي وأبوه إبراهيم المغنيان الأديبان الأشهران يعيشان في كنف الهادي وينعمان بخيرات وفيرة من فضله، فقد كان يحب الغناء والطرب ويحسن الاستماع.» وفي الأغاني كثير من أخباره مع المغنين الأدباء والشعراء وأهل الفن تدلنا على تقديره للفن وأهله، قال إسحاق الموصلي: والله لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب.
الفصل الخامس
الرشيد بن المهدي
14 ربيع الأول 170ه-13 جمادى الآخرة 193ه/ 14 أيلول 786م-24 مارس 808م
عصر الرشيد وابنه هو العصر الذهبي للدولة العباسية، ودرة عصر الازدهار العربي، كما أن اسم الرشيد قد أحيط بهالة مشرقة من التفخيم والتقديس والمبالغة سببها «كتاب ألف ليلة وليلة» الذي نسج حول اسم هذا الخليفة هالة غريبة الألوان زاهية، كثيرة المبالغة في جده وهزله وحربه وسلمه وظلمه وعدله، ولا شك في أن لبعض نجوم الأدب والعلم والفن الذين نبغوا في عصره وكانت لهم صلة به آثار واضحة في نسج تلك الهالة كالإمام مالك بن أنس وسفيان بن عيينة والقاضي أبي يوسف وأبي نواس وأبي العتاهية والبرامكة وغيرهم من الأعلام الذين نبغوا في دولته، فلا بد لنا إذن من أن نقف قليلا متعمقين لاستخلاص الحقائق وتنزيه سيرة هذا الرجل من الأباطيل. (1) أوليته
ولد أبو جعفر هارون بن محمد المهدي الذي لقب بالرشيد بالله، في الري من بلاد إيران سنة 145ه لما كان أبوه أميرا عليها، وأمه وأم أخيه الهادي هي الخيزران كما ذكرنا، وقد شب الرشيد كما يشب فتيان قريش رجولة وعزما وفضلا وتطلعا إلى معالي الأمور، فتفرس فيه أبوه الخير والفلاح منذ نعومة أظفاره، وعهد بتدريسه وتأديبه إلى جماعة من كبار علماء عصره.
صفحة غير معروفة