قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بعد القتل من السلخ، فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقبل رأسها وقال: هذا رأيي، والذي خرجت به دائبا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت فيها الحياة، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله، وأن تستحل حرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه، فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله.
فقالت: أرجو أن يكون عزائي فيك جميلا.
7
ثم طفقت تدعو له وتشجعه حتى ذهب فقاتل قتالا عجيبا، وأظهر من الشجاعة والجلد ما أدهش الحجاج وصحبه، ثم تمكن منه العدو فقتله، ثم صلبه، فتناولته أمه فغسلته وطيبته، وصلت عليه وكانت تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته. فما إن أتت عليها جمعة حتى ماتت.
8 (3) خاتمته ومناقبه
قتل ابن الزبير في جمادى الآخرة من سنة 73 وهو ابن 72 سنة، وتمكن الحجاج بن يوسف بقتله أن يسيطر على الحجاز وينظمه في سلك البلاد الخاصة لمولاه عبد الملك، وكان موقف عبد الله بن الزبير في وجه الحجاج موقفا يدل على قوة نفس وإيمان عميق بحقه، وقد رأينا ذلك في حواره الأخير مع أمه. والحق أن عبد الله قد أوفى كثيرا من الصفات الجليلة التي تخوله أن يقوم بحركته؛ من التقوى والشدة والدهاء، ولكنه كان ينقصه بعض الصفات الرئيسية للسيادة، كالكرم وتنظيم الدعاية والمسايرة؛ فقد كان قاسيا لا يساير، وكان لا يهتم بخصومه، وكان بخيلا يضن بالمال حتى على أقرب المقربين منه، وفي أشد المواقف حراجة؛ فقد روى ابن الأثير أنه لما اشتد حصار الحجاج على أهل مكة وأصابت الناس المجاعة لم يخرج لهم ما في بيوته، وإنها لمملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا.
9
ولما بعث إليه أخوه مصعب بوجوه أهل العراق أوصاه بالإحسان إليهم وعطائهم، فلم يعطهم شيئا وردهم شر رد، ولم يكن كذلك خصومه من بني أمية؛ فقد كان مروان وعبد الملك مساميح أجوادا أفاضوا على الناس والشعراء خيرات وأموالا، فسبحوا بحمدهم ونشروا دعوتهم.
قال علي بن زيد الجدعاني: كان عبد الله كثير الصلاة، كثير الصيام، شديدا على الناس، كريم الجدات والأمهات والخالات، إلا أنه كانت فيه خلال لا يصلح معها للخلافة؛ لأنه كان بخيلا، ضيق العطاء، سيئ الخلق، حسودا، كثير الخلاف، أخرج محمد ابن الحنفية، ونفى عبد الله بن عباس إلى الطائف.
10
صفحة غير معروفة