وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، فدعا الرسول بني عبد المطلب إلى طعام صنعه علي بن أبي طالب، وتكلم الرسول فقال: «يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة.»
3
ثم دعا بطون قريش من فوق جبل الصفا بظاهر مكة، فلما اجتمعت إليه قال: «لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم تصدقونني؟» قالوا: نعم. فقال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.» فقال أبو لهب: تبا لك! ألهذا جمعتنا؟
ثم تفرقوا، فأخذ الرسول يسفه أحلامهم وينتقد أصنامهم وينكر آلهتهم فيعيبها، فناكروه وأجمعوا أمرهم على خلافه وعداوته، فمضى محمد على أمر الله مظهرا لدينه لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن الرسول لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من عيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب حدب عليه وقام دونه، جاء رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب؛ وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، وأبو جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا أو أن تخلي بيننا وبينه، فأنت على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه. فقال لهم قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، ثم إنهم عادوا إليه ثانية فقالوا له: إن لك شرفا وسنا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا، فعظم ذلك على أبي طالب، وكره فراق قومه وعداوتهم، فبعث إلى محمد وقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن الرسول أنه قد بدا فيه بدو، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» ثم بكى وقام، فناداه أبو طالب فقال: يا ابن أخي. فأقبل عليه فقال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
وعلمت قريش بذلك فمشت إليه بعمارة بن الوليد، فقالت: هذا أنهد فتى في قريش وأجمله، فاتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك فنقتله. فقال: لبئسما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون. ثم حميت الفتنة بين الجانبين، وطلبت قريش من قبائل الرجال الذين أسلموا أن يعذبوا أولئك الرجال ويفتنوهم عن دينهم، واتفقت كلمة قريش والقبائل على بني هاشم وبني المطلب، إلا أبا لهب؛ فإنه خرج عن قومه، وتحملت بنو هاشم وبنو المطلب كثيرا في سبيل نصرتهم.
ثم إن نفرا من قريش اجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة، وكان ذا سن ومكانة فيهم، فقالوا له: قد حضر موسم الحج، وإن وفود العرب ستقدم إليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم، فأجمعوا على رأي ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا؛ فماذا تقول يا وليد؟ فقال: قولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد الشمس. قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا هو ساحر. فجعلوا لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. وشاع أمر رسول الله يومئذ بعد رجوع الناس من الموسم؛ ولا سيما في «يثرب».
ثم إن قريشا ضاقت ذرعا بمحمد وأصحابه، فأخذت تؤذيه بالقول وتسلط عليه سفهاءها يغمزونه ببذيء القول ويسخرون منه، وهو صامد في دعوته مؤمن برسالته يستغفر لقبيلته، ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.» ثم إن قريشا أخذت تقسو في مجابهتها للنبي وجماعته، فأخذوا يعذبون فقراء المسلمين ويضربون مستضعفيهم ويجيعونهم ويعطشونهم، وممن عذبوهم آل عمار بن ياسر هو وأبوه وأمه؛ فكانوا يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء، فيمر بهم الرسول فيقول: «صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.»
4
وكان أبو جهل إذا سمع بإسلام رجل من ذوي الشرف أنبه وأهانه في المجالس العامة، أما الفقراء والمستضعفون فقد لقوا منه ومن أمثاله عناء كبيرا، ولكن المسلمين لم يكونوا يحفلون بهذا الأذى، بل ظلوا يتابعون القيام بصلواتهم علنا في فناء الكعبة
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى * أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب (سورة العلق: 6-19). فنحن نرى من هذه الآيات الكريمات عتابا شديدا وتهديدا مقذعا لمن يمنعون المسلمين من الصلاة في حمى الله، واستهانة بمن يظنون أنفسهم قادرين على منع المسلمين من الوقوف بين يدي الله في بيت الله، ولو كانوا وجهاء أو أشرافا أو أغنياء أو زعماء.
صفحة غير معروفة