ولما وصل صاحب البريد إلى المأمون وأخبره بخبر طاهر غضب، وأراد أن يفتك به، ولكنه أدرك قوة سلطانه في إقليمه، فأحجم عن ذلك، ثم إن طاهرا لقي حتفه فجأة، وعلى الرغم من اضطراب أقوال المؤرخين في سبب وفاته، فيظهر أن المأمون قد سلط عليه من دس له السم فهلك.
قال صاحب الفخري، ص199: «كان المأمون، لما ولى طاهر بن الحسين خراسان استشار فيه أحمد بن أبي خالد الأحول وزيره، فضرب أحمد الرأي في توليته طاهر، فقال المأمون لأحمد: إني أخاف أن يغدر ويخلع ويفارق الطاعة. فقال أحمد: الدرك في ذلك علي. فولاه المأمون. فلما كان بعد مدة أنكر المأمون عليه أمورا، وكتب إليه كتابا يتهدده، فكتب طاهر جوابا أغلظ فيه للمأمون، ثم قطع اسمه من الخطبة ثلاث جمع، فبلغ ذلك المأمون، فقال لأحمد: أنت الذي أشار بتولية طاهر، وضمنت ما يصدر منه، وقد ترى ما صدر منه من قطع الخطبة ومفارقة الطاعة، فوالله لئن لم تتلطف لهذا الأمر وتصلحه كما أفسدته، وإلا ضربت عنقك. فقال أحمد: يا أمير المؤمنين طب نفسا، فبعد أيام يأتيك البريد بهلاكه، ثم إن أحمد أهدى لطاهر هدايا فيها كوامخ
2
مسمومة، وكان طاهر يحب الكامخ فأكل منها فمات من ساعته.»
وقد رأى المأمون ألا يقصي آل طاهر عن الحكم لما رآه من قوة سيطرتهم على تلك البلاد، فولى طلحة بن طاهر موضع أبيه، وقد احتفظ أبناء طاهر بسلطانهم على تلك الديار فترة غير قصيرة، وكان هذا أول حدث في تجزئة الإمبراطورية الإسلامية.
وأبرز أمراء آل طاهر هو عبد الله بن طاهر، وكان عمره حين لمع اسم أبيه في حوادث الأمين نحو ست عشرة سنة، وتربى في كنف المأمون، وكان يحبه ويحسن إليه، فلما كبر ولاه محاربة شيث بن ربعي، ثم ولاه شرطة بغداد، ثم بعث به إلى مصر لما ثار أميرها عبيد الله بن السري، فوضع الأمن في نصابه، لما كان عليه من الدهاء والسياسة والإدارة. وفي سنة 213ه ولاه خراسان وما إليها من بلاد المشرق، فثبت أركان الدولة كما وطد دعائم حكم الأسرة الطاهرية فيها. ثم تتابع على الحكم جماعة من آل طاهر، كانوا يدينون للخلافة اسما وهم مستقلون بالبلاد فعلا، يستغلونها لأنفسهم، ويوسعون حدودها، حتى بلغت تخومهم الهند، ونقلوا عاصمتهم من مرو إلى نيسابور وظلوا في الحكم إلى أن أجلاهم الصفارون واستولوا على بلادهم.
3
وهكذا انتهت أيام هذه الدولة، التي هي أولى الدول الفارسية المنفصلة عن جسم الإمبراطورية الإسلامية، والتي شجعت أصحاب المطامع من الفرس وغيرهم عن الانفصال، واستطاع الطاهريون بمواهبهم وذكائهم أن يستمروا في الحكم عهدا طويلا، لما كانوا يتمتعون به من مواهب وكفايات وحب للعلم وأهله، ولما لهم من مكانة محلية بين أهل تلك الديار، ولما عزم المعتصم، الذي كان يكره عبد الله بن طاهر، على أن ينقله من خراسان إلى ولاية أخرى لم يستطع تنفيذ إرادته، بل عمل على قتله في الخفاء، وحين هلك عبد الله وأراد الواثق أن يولي إسحق بن إبراهيم المصعبي لم ينفذ فكرته لخشيته من ألا تتم. ولو لم يكن آخر الطاهريين - وهو محمد بن طاهر - ضعيف الإرادة، ميالا إلى اللهو، لما استطاع يعقوب بن الليث الصفار أن يقصيه عن إمارته ويقضي على دولته.
ويجب أن نعلم أن عهد الطاهريين في خراسان كان على العموم عهدا طيبا؛ فقد كانوا - وخصوصا عبد الله - على جانب عظيم من الثقافة وحسن الإدارة، وحب الخير، فنشروا العلم وقربوا العلماء، وأحيوا الأرض الموات، ونظموا الري والسقاية، وجمع عبد الله جماعة من أئمة الفقهاء وأهل الرأي وطلب إليهم دراسة أوضاع الري ومشاكله من الناحية الفقهية والقضائية، فألفوا له كتاب «القني» ولكن فقد مع الأسف.
ولم تكن صلات الطاهريين بالخليفة في بغداد - على الغالب - صلات جفاء، بل كانوا حسني الصلة مع المركز، يقدمون ما عليهم لبيت المال، ويذكر قدامة بن جعفر أن مقدار الخراج الذي كان يدفعه الطاهريون بلغ «48 ألف ألف درهم»، وكان الطاهريون على استقلالهم بإمارتهم لا يقطعون صلتهم ببغداد وأهلها، وهذا ما جعلهم يحرصون على استبقاء ولاية الشرطة في بغداد بأيديهم، حتى بعد أن أجلاهم الصفارون عن ولايتهم في خراسان والري وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان، كما سنرى تفصيل ذلك بعد. (1-2) الدولة الزيادية (203-253ه)
صفحة غير معروفة