ومن أشراف مكة الأفاضل أيضا: الشريف حسن بن أبي نمي، فقد كان محبا للعلماء معظما لهم كثير الإنعام عليهم، وكانوا يتقربون إليه بالتآليف والرسائل فيجزل عطاءهم، وقد ألف له الشيخ عبد القادر الطبري شرحا على المقصورة الدريدية فأجازه عليه بألف دينار.
ومما هو جدير بالذكر أن بعض الأمراء والأشراف وبعض أهل الخير قد شيدوا عددا من المعاهد والرببة من مدارس وربط وخوانق، ومن أشهر الأمراء الذين بنوا هذه المعاهد: السلطان «قايتباي»، فإنه حين زار الحجاز في سنة 882ه أكرم أهله إكراما كبيرا، وبنى لهم مدرسة كبرى عند باب النبي بمكة، وجعلها لأهل العلم من أرباب المذاهب الأربعة، وجعل فيها كراسي لتدريس العربية والآداب والحساب، قال صاحب الأعلام: «في سنة 882ه أمر السلطان وكيله وتاجره الخواجا شمس الدين محمد بن عمر الشهير بابن الزمن أن يشيد له مدرسة يدرس فيها علماء المذاهب الأربعة، ورباطا يسكنه الفقراء، ويعمر له ربوعا ومسقفات يحصل منها ريع كثير يصرف منه على المدرسين وعلى الفقراء، وأن يقرأ له ربعة في كل يوم يحضرها القضاة الأربعة والمتصوفون، ويقرر لهم وظائف، ويعمل مكتبا للأيتام وغير ذلك من جهات الخير، فاستبدل رباط السدرة ورباط المراغي وكانا متصلين، وكان إلى جانب رباط المراغي دار للشريفة شمسية من شرائف بني حسن اشتراها منها، وهدم ذلك جميعه، وجعل فيها اثنتين وعشرين خلوة، ومجمعا كبيرا ومشرفا على الحرم الشريف وعلى المسعى الشريف، ومكتبا ومئذنة، وصير المجمع المذكور مدرسة بناها بالرخام الملون والسقف المذهب، وقرر فيه أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة وأربعين طالبا، وأرسل خزانة كتب وقفها على طلبة العلم، وجعل مقرها المدرسة المذكورة، وجعل فيها خازنا، وعين له مبلغا، وقد استولت على كتبها أيدي المستعيرين، وضيعوا منها جانبا كبيرا، وبقي منها ثلاثمائة مجلد.»
13
وقد ظلت هذه المدرسة إلى الأعصر المتأخرة معهدا يتلقى فيه طلاب العلم الفقه وعلوم الدين إلى أن اضمحلت في العهد العثماني، ومن المدارس التي شيدت في عهد الشريف حسن بن عجلان مدرسة ياقوت الغياثي، فقد ذكر صاحب الأعلام أنه قدم الحجاز في سنة 811ه واشترى دارين بقرب باب أم هانئ وهدمهما وجعلهما مدرسة ورباطا للصوفية، وجعل في المدرسة مدرسين من أهل المذاهب الأربعة، وستين طالبا، ووقف عليهم الوقوف.
14
وهناك بعض الأمراء والمماليك والأشراف الذين شيدوا دور علم وكتاتيب ومدارس، وقد ظلت هذه الدور المنبع العلمي الوحيد الذي كان يستقي منه أهل الحجاز.
ومن الأمور الجديرة بالذكر أن بعض الأسر العلمية الحجازية كبني فهد المكيين وبني ظهيرة المدنيين كانوا كثيرا ما يهتمون بتعليم علوم الدين، وقد جمع صاحب كتاب «النور السافر» تراجم نفر من الأفاضل الذين أفادت البلاد منهم في هذه الحقبة، وإذا كانت هذه حالة الحجاز، وهو قلب الجزيرة العربية، فما قولك بحالة بقية أنحاء الجزيرة مثل نجد واليمن وحضرموت؟ الحق أن الجهالة كانت متفشية، ولولا الأئمة العلويون الذين كانوا في اليمن والذين كانون يهتمون شخصيا بالعلم الديني بعض الاهتمام لكانت الحالة أسوأ، ولكنهم كانوا رجالا أفاضل يهتمون بالناحية العلمية، فعمموا حلقات الفقه، وأكثروا من دروس العربية، وكذلك كانت حالة نجد والأحساء فقد انتشر فيها الجهل وعمت الفوضى، ولولا اهتمام أئمة نجد بأمور الدين لظلت تلك البلاد أيضا في جهالة، ولكن ظهور المصلح محمد بن عبد الوهاب التميمي (؟-1115ه) في نجد قد أنقذ الموقف، وأحيا معالم الدين، وسعى إلى نشر العلم بكل قواه، وأعاد إلى نجد ما كان عليه في صدر الإسلام من حركة تهذيبية وأخلاق إسلامية.
الفصل السابع
الحالة الثقافية والاجتماعية في المغرب العربي
كان للحضارة الأندلسية أثر كبير في الحالات الثقافية والاجتماعية بأوربة منذ القرون الوسطى، وكذلك كان الأمر في المغرب العربي، فقد ازدهرت الثقافة ازدهارا رائعا في كافة أقطار المغرب من علوم وآداب وفنون بفضل الحضارة الأندلسية.
صفحة غير معروفة