العراق والكارثة التيمورية
ظهر تيمورلنك عام 773ه/1371م في بلاد سمرقند فاستولى عليها، ثم استولى على بلاد بخارى جميعها، ثم قصد بلاد هراة وما إليها فضمها إلى مملكته، ولم تأت سنة 777ه حتى كان مستوليا على جميع بلاد ما وراء النهر وتركستان وخوارزم ، وفي سنة 784ه قوي نفوذه جدا، وخرج بجموع كثيرة من المغول والتتار ودخل بلاد خراسان ففتحها، ثم اتجه إلى بلاد أذربيجان فخربها، واستولى على أموالها وفعل الأفاعيل بأهلها؛ لأنهم حاولوا مقاومته، ثم سار نحو أصفهان فأخضعها، واتجه نحو تبريز فاجتاحها، واضطر السلطان أحمد بن أويس أن يهرب بنفسه على ما بيناه في الفصل الثاني.
وبلغت أخبار تيمورلنك إلى العراق فخاف أهله خوفا شديدا، وأخذ كل واحد يعد العدة للهروب بنفسه والنجاة بأولاده وماله. أما السلطان أحمد فإنه رأى أن يكتب إلى صديقه سلطان مصر مستنجدا، ومحذرا من فتك هذا الطاغية الجبار ، وأخذ السلطان أحمد يجهز نفسه فأعد عسكرا عظيما وتلاقى جيش العراق بجيش تيمورلنك عند مدينة سلطانية، ولكن الجيش العراقي العربي لم يستطع الوقوف طويلا أمام الجيش التيموري، وتفرق جنده، وعمت الفوضى بين رؤسائه وقادته، ثم اتجه الجيش التيموري صوب بغداد، وأخذ جنده يفتكون بالقرى والمدن التي تعترض طريقهم، وكانوا يستخلصون الأموال ويعذبون الأهلين، ويقتلون كل حي حتى النساء والأطفال والشيوخ، ويهدمون الدور والقصور ويحرقون الزرع والشجر، ويسبون الغلمان والفتيات. أما السلطان أحمد، فإنه جمع أمواله ونفائس قصوره وكنوزه وأهل بيته، وأرسلهم في صحبة ابنه الأمير ظاهر إلى قلعة جد حصينة يقال لها «قلعة النجاء» في بلاد شروان، ثم فر هو وبعض قادته وأمرائه إلى بلاد الشام في يوم 20 شوال سنة 795ه، ودخل تيمورلنك مدينة بغداد وبعث جنده إثر السلطان أحمد، فساروا إلى «الحلة» وفتكوا بأهلها، وكادوا يلحقون بالسلطان أحمد ويفتكون به، ولكنه استطاع أن ينجو بنفسه بعد أن سبى المغول حريمه واستولوا على جنده، وركض هو مسرعا ناجيا بنفسه حتى دخل مدينة «الرحبة» واستجار بأميرها نصير أمير عرب الفضل فأكرمه، ثم نصحه أن يتجه نحو حلب فسار إليها وأكرمه نائبها، ثم كتب إلى السلطان في مصر يعلمه بمقدمه ويخبره أن السلطان أحمد راغب في السفر إلى مصر، فجاءه الجواب بالموافقة وسار السلطان إلى مصر.
أما تيمورلنك فإنه بعد أن استولى على بغداد وفتك بأهلها أفظع الفتك، وأتلف تحفها وذخائرها ودورها وقصورها ومكاتبها ومرافقها ومدارسها وجوامعها وحماماتها، واستولى على كنوزها وتحفها وغالي أثاثها ورياشها، بعث جنوده فاستولوا على سائر النواحي المحيطة بالعاصمة، وقد لقي الناس منهم أشد الويلات حتى أقفرت المدن، وأضحى جميع أهلها فقراء أو كالفقراء، ومات ناس كثيرون من التعذيب والجوع والأوبئة.
وفي سنة 796ه/1393م توجه نحو ديار بكر وتكريت فاستولى عليهما وفتك بأهلها فتكا ذريعا، حتى قيل إنه بنى من رءوس القتلى من أهلهما مئذنتين وثلاث قباب عاليات، وجعل مدينة تكريت خرابا يبابا، ثم اتجه نحو «إربل» فحاصرها أشد حصار حتى جعل صاحبها الشيخ علي يخضع له فقبل خضوعه، وأبقاه أميرا على المدينة على أن يقدم له في كل سنة جعلا مسمى، ثم بعث بولده على رأس جيش كبير من المغول والتتار إلى بلاد البصرة وجزائر البحرين، فالتقى بأميرها صالح بن صيلان، فقاومه صالح أشد المقاومة، وفتك بالجيش التتاري، وأسر ابن تيمورلنك، ولما سمع تيمورلنك بذلك غضب أشد الغضب، وغادر بغداد بعد أن ولى عليها الخواجة مسعود الخراساني، ولما وصل إلى البصرة دحر أميرها وفتك بأهلها واستنقذ ولده، ثم اتجه صوب «رأس العين» فدخلها وانساح جنوده في الجزيرة والموصل فسيطر على كل تلك الأقاليم، وكان في عزمه أن يتجه صوب حلب فعدل عن ذلك؛ لأن الأخبار جاءته معلنة أن الأمير «طقتمش خان» صاحب بلاد الدشت والقفجاق قد مشى من بلاده يريد غزو بلاد تيمورلنك، فرجع هذا إلى تبريز، ثم اتجه لقتال الأمير طقتمش خان، فالتقيا ودام القتال مدة ثم انهزم طقتمش خان وأخذ تيمورلنك ينظم أمور بلاده، ويوزع إدارتها على أولاده وقادته، ولما أتم ذلك كله كتب إلى السلطان الملك الظاهر برقوق صاحب مصر والشام يطلب إليه أن يسلمه السلطان أحمد بن أويس، وبعث إليه بكتاب طويل أرغى فيه وأزبد، وهدد وأوعد،
1
فأجابه السلطان برقوق بكتاب أطول أنشأه الكاتب الأشهر ابن فضل الله العمري، وقد رد فيه على تيمورلنك توعده وإنذاره.
ثم إن السلطان برقوق جهز السلطان أحمد بجيش كبير، فسار إلى دمشق وأقام فيها مدة أتم فيها استعداداته، ثم توجه إلى العراق سنة 797ه/1394م مع طائفة من القواد والأمراء، فبلغ بغداد وأميرها حينئذ الخواجة مسعود الخراساني، فحاربه حتى اضطره إلى الهرب، وتسلم المدينة في مطلع عام 800ه/1397م، ثم أخذ ينظم أمور المدينة حتى أعادها إلى رونقها وسالف مجدها، ولما بلغت هذه الأخبار مسامع تيمورلنك غضب أشد الغضب ونظم حيلة لاغتيال السلطان أحمد، فبعث الأمير شروان إلى بغداد طالبا إليه أن يتظاهر بالالتجاء إلى السلطان أحمد، ولما دخل هذا إلى بغداد أكرمه السلطان أحمد، ثم أخذ الأمير شروان يعمل في الخفاء على إثارة الفتنة، ويوزع الأموال على الأمراء والأعيان، وأحس السلطان أحمد بالحيلة ففتك به وبطائفة كبيرة من الأمراء والأعيان المتآمرين معه، ولكنه ظل على الرغم من ذلك خائفا من دسائس تيمورلنك وعيونه. وفي سنة 802ه/1399م عزم على ترك العراق والذهاب إلى بلاد الروم والالتجاء إلى ملوكها الأتراك العثمانيين، فقد بلغه أن تيمورلنك عازم على الإغارة على بغداد بجيش كبير، فاتجه السلطان أحمد نحو بلاد الروم والتجأ إلى السلطان بايزيد العثماني، بعد أن أبقى في بغداد حاكما عليها يدعى الأمير فرج، ولما بلغ ذلك تيمورلنك توجه إلى بغداد فدخلها في سنة 803ه، وفتحها للمرة الثانية، وأعمل في أهلها سيفه حتى لم يكد يبقى من أهلها إنسان، ولا من بنائها آثار، وأحرق الزرع والشجر، وأهلك كل ما لم يستطع جنوده على سرقته وحمله.
قال المؤرخ ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب»: «سار على بغداد وحاصرها أيضا حتى أخذها عنوة يوم عيد النحر من هذه السنة 803ه، ووضع السيف في أهلها وألزم جميع من معه أن يأتي كل واحد برأسين من رءوس أهلها، فوقع القتل حتى سالت الدماء أنهارا، وقد أتوه بما التزموه، فبنى من هذه الرءوس مائة وعشرين مئذنة، ثم جمع أموالها وأمتعتها، وسار إلى قراباغ فجعلها خرابا بلقعا.»
2
صفحة غير معروفة