الثاني، وقد هاله توسع الآشوريين، وتدخلهم في شئون الممالك الصغيرة والمشيخات، ودخولهم مملكة حلب التي خشيت المصير السيئ الذي لاقته المدن والممالك التي قاومت جيوش شلم نصر الثالث؛ فقررت الإذعان للأمر الواقع وتأدية الجزية والاعتراف بسيادة آشور عليها، فعزم على الوقوف أمام الآشوريين، وتأليف حلف من الملوك السوريين ومشايخ البادية؛ لدرء هذا الخطر الداهم من اثني عشر ملكا من ملوك سوريا إليه، وهم في الواقع مشايخ إقطاعيون وأمراء مدن انضم إليهم ملك حماة الذي جثم الخطر أمام مملكته، وأحآب ملك إسرائيل، وأمراء الفينيقيين ومشايخهم، وجندب ملك العرب الذي أمن الحلف بألف جمل؛ فأغرقت هذه القوة سبيل الآشوريين ... أما النصر فكان حليف شلم نصر، انتصر عليهم على حد روايته بسهولة ويسر، وأوقع فيهم 140000 إصابة أو 25500 على رواية أخرى، وغنم منهم غنائم كثيرة، وتفرق الشمل ...
تبين من كتابة سلم نصر هذه أن الملك أحرز انتصارا باهرا حاسما على الحلفاء، وأنه أوقع بينهم خسائر جسيمة، غير أن أخبار الحروب التي قام بها فيما بعد على سوريا ومقاومة «بنهدد» له مرارا، كل هذه لا تؤيد أقوال ملك آشور في جسامة الخسائر وفي النصر الحاسم العظيم على الآراميين ومن انضم إليهم من مشيخات ورؤساء، وعلى المؤرخ الحديث ألا يثق بهذه الأرقام والكتابات التي يسجلها الملوك عامة عن انتصاراتهم وأعمالهم، فقد عودنا الملوك تدوين المبالغات والزيادات في أخبارهم، والغض من تدوين أخبار الانتكاسات أو الهزائم التي تقع بهم ... و«جنديبو» الذي ملك دمشق وحلفاءه بألف جمل هو أول ملك «عربي» يصل إلينا خبره، وجنديبو هو «جندب»، وجندب من الأسماء المعروفة عند الإسلاميين، ومهما يكن من أمر فإن جندبا هذا كان من الملوك الأقوياء الذين شادوا ملكا في الجنوب الشرقي من مملكة دمشق على ما يحدثنا به المؤرخ موزيل النمسوي الذي جاب البادية العربية، واتصل بأعرابها اتصالا قويا، وعرف أخبارهم، وأخبار ديارهم، وعرف بينهم باسمه الشيخ موسى الرويلي؛ لأنه أقام طويلا في قبائل الرولة، فعرف بهم ...
15
ولم يكن جندب هذا هو الملك «العربي» الوحيد الذي ورد اسمه في الحملات التي قام بها الملوك الآشوريون على الشام، وإنما هناك اسم لملكة عربية تسميها المصادر القديمة زبيبى (زبيبه)، وإنها كانت ملكة أرض «عريبي»، وإنها اضطرت أن تدفع الجزية أيضا للملك «تكلات بيلاسر الثالث» لما زحف إلى سوريا في سنة 738ق.م. كما نجد اسم ملكة عربية أخرى اسمها «شمسة» في تسجيل زحفه على سوريا في سنة 732ق.م، وإن هذه الملكة قد عوقبت عقابا شديدا من قبل الآشوريين؛ لأنها حنثت بيمينها ألا تتعرض للآشوريين، ولكنها حنثت، وكفرت بالعهد الذي قطعته على نفسها، فاستولى الملك الآشوري على ديارها، وأخذ منها الجزية، وأقام في ديارها مندوبا عنه الأمير كيبو
Kepu ، وكان هذا المندوب يرسل تقارير عن حالة هذه الملكة إلى الحاكم الآشوري العام الذي أقامه الآشوريون في سوريا، ويذكر النص الآشوري الذي تحدث عن هذه الحملة: أن الملكة شمسة قد أصيبت بخسائر فادحة جدا، وهي مائة ألف رجل، وثلاثون ألف جمل، وعشرون ألفا من الماشية، وقد صور على اللوحة التي ذكر فيها هذا الخبر منظر فارسين آشوريين يحملان رمحين يتعقبان بدويا راكبا جملا، وتحت أقدام الفارسين وأمامهما جثث القتلى من العرب قد صوروا بشعورهم الطويلة المعقوصة إلى الخلف، ولحاهم الكثة، وأجسامهم العارية إلا من مئزر يستر عورتهم، وقد حرص الفنان الآشوري على تصوير العربي الراكب قريبا من الفارسين، وهو يمد يده اليمنى إليهما متوسلا، وصورت الملكة شمسة حافية ناشرة شعرها، تحمل جرة، وقد أضناها الجوع، وخارت قواها.
16
والخلاصة أن تاريخ هذه الأسرة ما يزال غامضا، فلعل الحفريات القادمة تكشف شيئا حقيقيا عن تاريخها. (4) مملكة تيماء
إن تيماء هي على الطريق التجاري الذي كان يقع بين مدن العرب التجارية في الجنوب والمدن التجارية في الشمال، وقد ذكر في التوراة «تيماء» على أنه اسم أحد أبناء إسماعيل الاثني عشر،
17
وبه سميت المدينة التي سكنها هو وأبناؤه من بعده، وعرف أهل هذه المدينة بالتجارة منذ القديم، وكانت لأهلها علاقات تجارية قوية مع أهل سبأ كما يفهم من أقوال التوراة: «نظرت قوافل تيماء سيارة سبأ رجوها، خزوا فما كانوا مطمئنين، جاءوا إليها فخجلوا، فالآن قد صرتم مثلها رأيتم خربة ففزعتم.»
صفحة غير معروفة