تجارة الرقيق
أما البوير فلم يراعوا معاهدة نهر الفال، ونبذوا بنودها ظهريا، فكانوا يأخذون أطفال العبيد بعد أن يقتلوا والديهم ويربونهم، ومتى شب الطفل وجد نفسه بين ظهرانيهم لا يعرف والديه، فيكون عبدا لمربيه، يسخره ويحمله أثقال الأشغال، ويبيعه متى شاء، وكان أكثرهم نخاسين على هذه الصورة، وشوهد ذات يوم أحدهم شاحنا قطارا بالعبيد الصغار ذكورا وإناثا، وصار يبيعهم باسم قطع الأبانوس الأسود، باعتبار القطعة ثلاثة عشر جنيها، أو يأخذ بدلا عنها عجلا أو حصانا.
وفي أوائل سنة 1871 أرسل خاما ملك إحدى القبائل كتابا إلى السير بركلي يقول فيه: «يعلم الله أني سطرت هذا بأنامل مرتجفة وأفكار مرتبكة؛ لشدة ما حولي من عويل النساء وبكاء الرجال، الذي بلغ السبع الطباق، وهو السبب في تسطير هذا المكتوب، وبه أستغيث بمراحام جلالة الملكة لتخصنا ببعض النعم التي أسبغتها على شعوب كثيرة غيرنا، ولا يخيب ظني إذا قلت بأنها ستبادر للذود عنا، كما هي عادتها مع كل ضعيف مثلنا، يستظل بظل حمايتها، ونحن جميعا مستغيثون من هؤلاء البوير الذين دخلوا بلادنا وعاملونا بما أنتم أدرى به، وما نحن عندهم إلا كالبضائع نباع ونشرى ، ولعلمي بأن جلالة الملكة لا ترضى بذلك، قد استغثت بها أنا وعشيرتي لتجعل بلادي تحت حمايتها، ونحن راضخون لكل ما يرضيها.» فلما وصل هذا المكتوب إلى السير بركلي، أرسله في الحال إلى لندرا، فأمرت جلالة الملكة بتشكيل لجنة وإرسالها إلى نيوكاسل
1
للنظر في شكاوي العبيد، وبعد البحث والتحقيق تأكد لها ظلم البوير وممارستهم النخاسة، ومما يستغرب أيضا هو أن بريتوريوس رئيس الجمهورية في ذاك الوقت كان يتعاطى تلك المهنة، وقد تقدم للجنة عبد يدعى فردريك مولباكان خادما عند أحد البوير، ولما علم باللجنة فر هاربا من عنده ليشكو أمره إليها، فقال: «إن أحد البوير اختطفني من أهلي رغما عني وعنهم، وباعني لآخر ببقرة وآنية من الفخار، وهذا الأخير كان يخدمني بدون شفقة ويعطيني جزاء أتعابي ضربا.» ثم أتى عبد آخر وقال: «فليعلم سيدي رئيس اللجنة أنه كان بين قبيلتي وبين البوير قتال، فلما تغلبوا علينا أخذوا البعض منا وباعونا بالمزاد العلني، وقد اشتراني رجل منهم يدعى فريتزبوثا وهذه كنيسة بريتوريا تشهد بخدمتي في بنائها سخرة.» ثم تقدمت للجنة جملة إثباتات أخرى، فعملت بها تقريرا وقدمته للحكومة لترى رأيها فيها.
سكسوني ومقتل يوحنا
كانت قبيلة عظيمة من قبائل البازوتس، تسمى قبيلة السكسونيين نسبة إلى اسم ملكها، قاطنة على حدود ليدنبرج ومتمسكة بالدين المسيحي، وكانت خاضعة للبوير تدفع إليهم مالا سنويا، ففي سنة 1875 أثناء غياب المستر برجر تولد النزاع بشأن قطعة أرض بها قلعة في جهة بوتسبلو، يسكنها يوحنا أخو سكسوني، فقامت البوير تدعي ملكية هذه الأرض، بأنها اشترتها من قبيلة السوازيس، وأرسلت إلى يوحنا تأمره بالانسحاب منها، فأبى إجابة طلبهم، فأرسلوا إلى سكسوني ينذرونه بسوء العاقبة، فأجابهم بقوله: «إن الأرض التي تدعون بأنها من أملاككم هي ملك قبيلتي، ولأخي الحق أن يقيم بها، وجميع القبائل تشهد بأن الأرض أرضنا، وليس لكم فيها قيراط واحد، وبما أنني ممن يكرهون إهراق الدماء، فأرغب أن ينتهي الأمر بيننا بسلام، وإلا إذا كنتم عقدتم النية على مناوشتنا واغتصاب أملاكنا ظلما، فهذا أمر لا يمكننا الصبر عليه، والحسام يفصل بيننا.»
وقد كان يظن سكسوني أن ما فعله البوير من قبيل التهديد فقط، فجاء الأمر على خلاف ذلك؛ لأن برجر رئيس الجمهورية لما عاد من أوروبا وعلم ذلك، جمع خمسة آلاف رجل نصفهم من البوير والنصف الآخر من قبيلة السوازيس، وساروا بقيادة الرئيس المذكور إلى المحل المقيم فيه يوحنا، فأمر قائد البوير العبيد بالهجوم على القلعة، فهجموا عليها، وكان قتالهم مما يفتت الأكباد، لما كانوا يفعلونه من الأمور الوحشية؛ وذلك لأن رجال السوازيس كانوا يقتلون النساء ويهشمون رءوس الأطفال على الصخور، وبعد قتال هائل انجلى عن فوز البوير وامتلاك ما كانت تطمح إليه أنظارهم، وخرج يوحنا من القتال مجروحا جرحا بليغا، أذاقه الحمام بعد ثلاثة أيام، وأما البوير فإنهم فرحوا بهذا النصر وسموا هذه الموقعة موقعة النصر العجيب.
واقعة إيزندلوانا
ولما انتصر البوير في بوتسبلو أرادوا أن يضربوا السكسونيين الضربة القاضية، فاجتمع مجلس الفولسكراد لهذه الغاية في 4 سبتمبر سنة 1876، واقترح الرئيس برجر تأليف حملة أخرى لمطاردة العدو، يتولى قيادتها الكابتن فون شليكمان، فصادف اقتراحه قبولا، وعملت الاستعدادات اللازمة، وبعد أيام وجيزة سارت الحملة ليلا إلى قرية ستيل بور التي هي ضمن أملاك سكسوني، فأمر فون شليكمان رجاله بمهاجمتها، فاستيقظ أهلها، ولما كانوا على غير استعداد ولوا هاربين، فأمر حينئذ قائد البوير بقتل جميع من بقي بالقرية، فذبحوهم عن آخرهم. وبعد هذه المذبحة صارت البوير تتقدم ورايات النصر تخفق فوق رءوسهم، حتى وصلوا إيزندلوانا عاصمة سكسوني، ولكن خانهم النصر في هذه المرة، وهزمهم السكسونيون شر هزيمة، وتبعوهم إلى بريتوريا وأرادوا أن يقاتلوهم هناك، فاستغاث البوير بإنكلترا، فأغاثتهم وأصلحت بينهما.
صفحة غير معروفة