كان لهذه الطريقة فائدتها وجدواها؛ فقد عاد الكثيرون من أعضاء البعثات، وتولوا الكثير من الأعمال والوظائف، وترجموا الكثير من الكتب، ولكن جيوش محمد علي وأساطيله تحتاج لمئات الضباط، والمصانع المتعددة تحتاج لآلاف العمال، والإصلاح الزراعي، ومنشآت الري والهندسة تحتاج لعشرات الخبيرين بهذه الفنون والعلوم الجديدة، والمدارس تحتاج لمئات المدرسين المختصين في مختلف العلوم، والإصلاح الطبي يحتاج لجيش كبير من الأطباء ... وهكذا ... وهكذا ... فهل يستطيع محمد علي، أو هل تمكنه ميزانية الدولة أن يبعث هذه الآلاف من المصريين ليتلقوا العلم في أوروبا ...؟!
وجد محمد علي أن هذه أيضا طريقة غير عملية، أو - على الأقل - غير سريعة الإنتاج؛ لأنه لو اكتفى بها لاحتاج إلى سنوات وسنوات، وهو حريص على أن يشمل إصلاحه كل ناحية من نواحي الحياة المصرية، وفي أسرع وقت ممكن؛ لهذا لجأ إلى تجربة رابعة ذات شعبتين: (أ)
فقد عهد إلى الأجانب أن يقوموا - إلى جانب أعمالهم - بتعليم بعض المصريين علومهم وفنونهم حتى إذا أتم هؤلاء تعليمهم خلفوا أساتذتهم في مراكزهم، «فالضباط الأجانب ينظمون فرق الجيش، ويعلمون الضباط والجند المصريين أو الأتراك، والأطباء الأجانب يعملون في المستشفيات، ويعلمون التلاميذ ليكونوا أطباء، ورجال الصناعة الأجانب يعملون في المصانع، ويعلمون فنهم للصناع المصريين». (ب)
ثم رأى محمد علي أخيرا أن ينشئ المدارس المختلفة لتعليم أبناء البلاد تعليما رتيبا منظما؛ فأنشأ مدارس الطب والهندسة والزراعة والحربية ومدرسة الألسن، ثم رأى أن لا بد من وجود مدارس أخرى لإعداد الملتحقين بهذه المدارس «الخصوصية»؛ ففتح مدارس «المبتديان»، والمدارس «التجهيزية».
بهذه الوسائل جميعا حاول محمد علي أن ينقل الغرب إلى مصر ليحقق مثله العليا في الإصلاح، ولكنه لم يحاول البتة أن ينقل مصر إلى الغرب بل احتفظ لها بروحها وتقاليدها، بل لقد حاول في كثير من الأحيان أن يمزج بين الخير في العالمين - الشرقي والغربي - فأقام النهضة المصرية الحديثة على أسس متينة صحيحة، ووجهها - منذ عصره حتى الآن - الوجهة الطيبة التي أفادت منها، والتي لا نزال نعمل للإفادة منها.
ختم محمد علي باشا.
استعان محمد علي - كما ذكرنا - بالأجانب أول الأمر، وهنا نتساءل: بأي الأجانب استعان؟ لما لذلك من أثر واضح سيصبغ ثقافة مصر بصبغة خاصة طوال القرن التاسع عشر.
كانت دول أوروبا صاحبة الصدارة في العصور الوسطى المتأخرة ومطلع العصر الحديث هي: إنجلترا وفرنسا، وجمهوريات إيطاليا.
أما إنجلترا فلم تفكر يوما - حتى أواخر القرن الثامن عشر - في أن تكون لها بمصر علاقة ما، وخاصة من الناحية السياسية، وذلك إذا استثنينا الدور الذي لعبه الملك «ريتشارد» (قلب الأسد) في الحروب الصليبية، وما كان بينه وبين سلطان مصر وقتذاك صلاح الدين الأيوبي وأخيه الملك العادل أبي بكر من علاقات
13
صفحة غير معروفة