وفي باريس قضى تلاميذ البعثة جميعا نحو سنة وهم يقيمون معا في بيت واحد، ويشتركون معا في دراسة مواد واحدة، يقول رفاعة: «كنا نقرأ في الصباح كتاب تاريخ ساعتين، ثم بعد الظهر درس رسم، ثم درس نحو فرنساوي، وفي كل جمعة ثلاثة دروس من علمي الحساب والهندسة.»
116
وكانت هذه الخطة ترمي إلى عزل تلاميذ البعثة، حتى لا يفسدهم الاختلاط، أو الحياة في باريس، وحتى يستطيعوا التوفر على دراساتهم ليحصلوا العلوم التي يريدون على أحسن وجه، وفي أسرع وقت، ولكن هذه العلوم التي أوفدوا لدراستها مودعة في بطون المؤلفات الفرنسية، ولا سبيل إليها إلا إتقان هذه اللغة حديثا وقراءة وفهما، ولا سبيل إلى هذا الإتقان إلا أن يختلط هؤلاء الشبان بأندادهم من الفرنسيين حتى تستقيم ألسنتهم.
أحس بهذا النقص المشرفون على البعثة، كما أحس به أعضاء البعثة أنفسهم، يقول رفاعة: «مكثنا جميعا في بيت واحد دون سنة نقرأ معا في اللغة الفرنسية، وفي هذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصل لنا عظيم مزية إلا مجرد تعلم النحو الفرنساوي.»
117
لهذا صدرت الأوامر بتوزيع هؤلاء المبعوثين، فتفرقوا في مكاتب متعددة، كل اثنين، أو ثلاثة، أو واحد في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيت مخصوص، عند معلم مخصوص، بقدر معلوم من الدراهم في نظير الأكل والشرب والسكنى والتعليم،
117
وفي هذه المكاتب أو «البانسيونات» كان التلاميذ المصريون يقضون ليلهم ونهارهم في التحصيل، ولم يكن يسمح لهم بالخروج إلا في يوم الأحد، أو بعد ظهر الخميس، أو في الأعياد الفرنسية، وكان يحدث أحيانا أن يخرج بعضهم بعد العشاء إن لم يكن يشغله درس أو واجب.
وكان رفاعة أكثرهم انهماكا في عمله، وأشدهم إقبالا عليه، ولم تكن تسعفه أوقات فراغه في النهار، فكان يقضي معظم ساعات الليل ساهرا بين كتبه ودروسه، يقرأ ويتفهم ويترجم، حتى أصيبت عينه اليسرى بضعف، ونصحه الطبيب بالراحة، ونهاه عن المطالعة في الليل، ولكنه «لم يمتثل لخوف تعويق تقدمه».
118
صفحة غير معروفة