وأول عمل باشره بعد نزوله هناك المعاهدة بين أصحابه المسلمين (المهاجرين والأنصار) وبين اليهود من أهل يثرب على الاتحاد والتكاتف في الدفاع عن المصالح العامة، وكتب بين الفريقين كتابا يعترفون فيه أنهم أمة واحدة، وقد أورد ابن هشام نص ذلك الكتاب ثم خص المهاجرين من قريش والأنصار من يثرب بعهود أخرى سموها المؤاخاة، فآخى بين أصحابه المهاجرين والأنصار بعهد وثيق، هذا هو الحجر الأول من أساس الدولة الإسلامية والمسلمون يومئذ بضع عشرات، وفرضت الزكاة والصيام وأقيمت الحدود وفروض الحلال والحرام وغير ذلك من دعائم الإسلام، ثم انضم إلى المسلمين بعض وجهاء المدينة فتأيد الإسلام بهم كما تأيد من قبل بحمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب. (2) الغزوات
فلما فرغوا من ذلك فكروا في ما بينهم وبين أهل مكة من العداء ، فعمدوا إلى مقاتلتهم، لنصرة الإسلام فحدثت الغزوات المشهورة - وهي أول الحروب الإسلامية - بدأت بالغزو والقتال على عادة العرب في جاهليتهم وانتهت بفتح المدن والممالك، وأشهر الغزوات وأهمها غزوة بدر الكبرى، لأن فوز المسلمين فيها قوى عزائمهم ونشطهم على موالاة الغزو. (2-1) غزوة بدر الكبرى
بدر آبار بين مكة والمدينة، تنزل عندها القوافل التجارية المسافرة بين مكة والشام، وكان القرشيون أهل تجارة تسير قوافلهم إلى الشام تحمل إليها البضائع - كما تقدم - فعلم المسلمون في السنة الثانية للهجرة أن قافلة من القرشيين أهل مكة، قادمة من الشام ومعها الأموال يخفرها ثلاثون رجلا يرأسهم أبو سفيان بن حرب كبير أهل مكة يومئذ، فانتدب النبي أصحابه لغزو القافلة وأخذ أموالها، فبلغ أبا سفيان ذلك فعجل بإرسال رسول يطلب النجدة من أهل مكة، فجاءه منهم 950 رجلا فيهم مائة فارس، وخرج المسلمون وهم 313 رجلا منهم 70 من المهاجرين والباقون من الأنصار، ولم يكن معهم إلا فرسان وسبعون جملا، وبلغهم بعد خروجهم من المدينة أن قافلة قريش قاربت آبار بدر، فسبقهم المسلمون إلى المكان وبنوا للنبي عريشا جلس فيه ومعه أبو بكر، وتهيأ أصحابه للحرب.
ثم رأوا قريشا مقبلين وهم نحو ثلاثة أمثالهم، وفيهم نخبة رجال مكة الذين قاوموا الإسلام وأهانوا النبي وفي جملتهم أبو جهل بن هشام، وعلم النبي أن هذه الواقعة حد الفصلين إما أن ينتصر المسلمون ويتأيد الإسلام إذا غلبوهم، وإما أن تعود العائدة عليهم إذا غلبوا، فلما رأى القرشيين قادمين في مثل هذا العدد نظر إلى أصحابه فإذا هم قليلون فقال «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض».
وباشروا القتال بالمبارزة على جاري العادة، ثم قتل أبو جهل فجاءوا برأسه إلى النبي فسجد وشكر الله، ودارت رحى الحرب فكان النصر للمسلمين، وقد قتل منهم أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وقتل من القرشيين سبعون رجلا وفيهم من أشراف بطون قريش كلها، وخصوصا بني أمية وبني مخزوم وبني أسد، وأسر منهم سبعون رجلا فيهم عقبة بن أبي معيط فأمر بقتله، لما كان من أذاه النبي بمكة، وكان أكثر المسلمين جهادا في تلك الواقعة علي بن أبي طالب ابن عم النبي وحمزة بن عبد المطلب عمه، وفر من بقي من القرشيين وفيهم أبو سفيان بن حرب رئيسهم وعمرو بن العاص الذي صار من أكبر قواد الإسلام فيما بعد، ساروا يطلبون مكة وغادروا الأموال والأمتعة فاستولى المسلمون عليها وتنازعوا في تفريقها، ففرقها النبي عليهم بالسواء ولم يأخذ لنفسه شيئا، ثم بعث القرشيون يفتدون أسراهم، فاجتمع من ذلك مال كثير، وقد عاد أهل مكة مخذولين، فانكسرت شوكتهم وعظم أمر المسلمين، ومما زادهم تأييدا أن أبا لهب المشهور بمقاومة الإسلام، لم يخرج يوم بدر من مكة، لكنه أرسل من يحارب عنه على جاري عادتهم في من يتخلف عن الحرب، فلما أخبروه بفشل القرشيين اشتد به الحزن حتى مات بعد بضعة أيام، ولواقعة بدر شأن عظيم في تاريخ الإسلام، لأنها كانت فاتحة الانتصارات الأخرى. (2-2) واقعة أحد
ثم إن القرشيين عادوا بعد هذه الكسرة فاجتمعوا في السنة التالية، وقائدهم أبو سفيان وعددهم ثلاثة آلاف فيهم 700 دارع و200 فرس، وتهيأوا للأخذ بثأر قتلاهم في بدر، وساروا لمهاجمة المدينة ومعهم النساء يضربن الدفوف ويندبن قتلى بدر ويحرضن الناس على مقاتلة المسلمين، وكان في جملة رجال الحملة خالد بن الوليد الذي اشتهر بين قواد المسلمين بعد ذلك، فلما أقبلوا على المدينة تشاور النبي وأصحابه فكان رأيه البقاء في المدينة للمدافعة، ورأى مثل ذلك أيضا رجل من الصحابة اسمه عبد الله بن أبي بن سلول، ولكن أكثر الصحابة أشاروا بالخروج عليهم، فأطاع النبي الأكثرية وخرج في ألف منهم حتى توسطوا بين المدينة وجبل أحد، وباسم هذا الجبل سميت هذه الواقعة «غزوة أحد»، وكان ابن أبي هذا قد غضب، لأن النبي خالف رأيه وأطاع الآخرين، فلما توسطوا الطريق تقهقر هو وثلث الرجال، وأشاع القرشيون في الجند أن محمدا قتل، ففشل المسلمون ولم يظفروا في هذه الواقعة، وقتل منهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي، وكان قتله سببا في زيادة الفشل كما كان إسلامه مؤيدا للإسلام، وبلغت جملة قتلى المسلمين سبعين رجلا، وأصيب النبي نفسه بضربة شجت رأسه ودخل بعض حلق المغفر «الدرع» في الشجة فسال الدم، ومثل القرشيون بقتلى المسلمين تمثيلا شنيعا، فقطعوا الآذان والأنوف حتى إن هندا بنت عتبة امرأة أبي سفيان «وأم معاوية» شقت بطن حمزة وأخرجت كبده ولاكتها فلم تستطع أن تبتلعها فلفظتها.
وكانت هذه الواقعة أشد ما أصاب المسلمين إلى ذلك الحين، لكنهم كانوا قد ذاقوا لذة النصر فنسبوا هذا الفشل إلى خيانة عبد الله بن أبي المتقدم ذكره، وعادوا إلى مواصلة الغزو حتى كانت واقعة الخندق. (2-3) واقعة الخندق
وذلك أن قبائل العرب لما رأوا انتصار القرشيين في أحد تحزبوا لأهل مكة وانضموا إليهم، وفيهم قريش وغطفان وسائر قبائل العرب وبنو النضير من اليهود - وكان المسلمون قد أجلوهم عن أماكنهم كما سيأتي فحرضوا قريشا على الحرب - وحملوا على المدينة في بضعة عشر ألفا ونحو أربعمائة فرس وألف بعير، وهم الأحزاب وبهم تعرف الواقعة أيضا، وكان المسلمون لا يزيد عددهم على ثلاثة آلاف، فاضطربوا وخافوا، وقد تعلموا من الواقعة الماضية أن لا يخرجوا من المدينة.
وكان في جملة الصحابة يومئذ رجل من فارس له خبرة بفنون الحرب اسمه سلمان الفارسي، فأشار على النبي بحفر الخندق - وكان العرب لا يعرفون ذلك من قبل - فقال له سلمان «كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا، فإن ذلك من مكايد الحرب» فاستحسن النبي ذلك وأمر بالحفر، وكان هو نفسه يشتغل معهم بحمل التراب، ولم يكن عندهم العدد اللازمة فاستعاروا بعضها من بني قريظة، فاحتفروا الخندق حول المدينة في بضعة عشر يوما.
وأقامت الأحزاب حول المدينة وحاصروها والخندق يمنعهم من مهاجمتها، فقضوا بضعة وعشرين يوما لا يقاتلون إلا بالمراماة بالنبال والحصي، وقد هالهم أمر الخندق وعلموا أنها مكيدة جديدة، على أن بعضهم حاول الوثوب بفرسه من فوق الخندق فسقط فيه واندقت عنقه، فزاد الرعب في قلوب الأحزاب، فلما طال بهم الانتظار عمدوا إلى البراز، فخرج أحدهم وطلب البراز فخرج إليه علي بن أبي طالب فغلبه علي، واتفق على أثر ذلك سقوط الأمطار وهبوب الرياح ، فأثرت في خيام الأحزاب وكفأت قدورهم، وأهل المدينة في منازلهم قلما أثرت فيها الأنواء، فتشاءم أولئك وعادوا على أعقابهم، فزال عن المسلمين عار أحد بهذه الهزيمة. (3) الفتوح
صفحة غير معروفة