ثم لما كانت سيناء في طريق مصر إلى الشام وجزيرة العرب، قام فيها منذ أقدم أزمنة التاريخ طريقان تجاريتان حربيتان وهما: «طريق الفرما» على ساحل البحر المتوسط إلى الشام فالعراق، «وطريق البتراء» مخترقا بلاد الطور إلى الحجاز.
ثم بعد الإسلام قام فيها «طريق الحج» مخترقا بلاد التيه إلى الحجاز، «وطريق العريش» مخترقا قطية والعريش إلى الشام فالعراق.
وفي سنة 1906 وقع خلاف بين الدولة العلية والخديوية المصرية على حدود سيناء الشرقية، وتدخلت الدولة البريطانية في الأمر، فتعاظم الخلاف حتى كاد يؤدي إلى حرب، وانتهى الأمر بتعيين الحدود بعمد على طول الخط بين العقبة ورفح.
وعليه فينحصر الكلام على تاريخ سيناء في خمسة أمور وهي: (1) غزوات قبائل سيناء بعضهم لبعض، وللقبائل المجاورة لهم في مصر وسوريا والحجاز. (2) أعمال الفراعنة المصريين في مناجم الفيروز والنحاس والمنغنيس ووقائعهم مع أهل سيناء. (3) تغرب بني إسرائيل في سيناء مدة أربعين سنة. (4) معاهد البلاد الدينية في بلاد الطور والحج إليها. (5) العلائق التجارية والحربية والدينية بين مصر من جهة، والشام والعراق والحجاز من الجهة الأخرى عن طريق سيناء.
فذكر هذه الشئون مع وصف الجزيرة وسكانها وشرائعهم وأخلاقهم وعاداتهم، يتناول جميع مواضيع سيناء تاريخيا وجغرافيا.
أسباب تأليفي تاريخ سيناء:
هذا وكان لي اتصال بسيناء منذ دخلت إدارة المخابرات بوزارة الحربية سنة 1889، وكانت سيناء من قبل ذلك العهد تحت إدارة الحربية، وعليها قومندان يعينه السردار، يقيم في نخل، ويرجع بأحكامه رأسا إلى مدير المخابرات المقيم بالقاهرة، وهو يرجع بأحكامه إلى السردار.
وقد ندبتني الحربية مرارا للذهاب إلى سيناء؛ لأغراض مختلفة تتعلق بإدارة البلاد، واستتباب الأمن والراحة بين قبائلها، فزرت ديرها ومدنها وقراها، وتعرفت بقبائلها وأشهر طرقها، واطلعت على حال أهلها، ولما كانت حادثة الحدود سنة 1906 عينت سكرتيرا للجنة المصرية التي ندبت لتعيين حدود سيناء الشرقية مع اللجنة العثمانية، وكانت سيناء على اتساعها وشهرتها التاريخية وقربها من مصر، مجهولة عند عامة المصريين، وكان تاريخ السودان الذي فرغت من تأليفه سنة 1904 قد لقي عند القراء الكرام إقبالا لم أكن أتوقعه، فحملني ذلك كله على وضع تاريخ لسيناء على مثال تاريخ السودان، فشرعت منذ ندبت مع لجنة الحدود في جمع كل ما أمكن جمعه من الحقائق التاريخية والجغرافية، لا سيما وقد كان من واجبي في اللجنة أن أتحرى تاريخ عرب الحدود، وملكيتهم للأراضي والمياه، وعلاقاتهم الحاضرة والماضية مع مصر وسوريا.
عقبات تأليف تاريخ سيناء:
فما عتمت أن وجدت أن دون جمع الحقائق التاريخية من بدو سيناء عقبات كئودة، وأن العون الذي استمده موسى لاستخراج الماء من صخرة سيناء أعوزني مثله لوضع تاريخ لهذه الصخرة، وأهم العقبات التي وقفت في سبيلي: (1) أن بدو سيناء في غاية الخشونة والجهل، لا تاريخ لهم، ولا علم، ولا شبه علم، بل ليس في بادية سيناء كلها من يحسن القراءة والكتابة. (2) أن أهل القبيلة الواحدة يجهلون كل الجهل بلاد القبائل المجاورة لهم، وليس من يعرف أحوال القبائل كلها من أهل سيناء إلا أفراد قليلون يعدون على الأصابع، ومعرفة هؤلاء لغير بلادهم إجمالية سطحية قلما يصح الاعتماد عليها. (3) أن أكثر مشايخ القبائل في سيناء لا يعرفون من تاريخ قبائلهم وجغرافية بلادهم إلا اليسير، وهذا اليسير لا يمكن الحصول عليه إلا بعد بذل الجهد والحيلة المستلطفة؛ لأن البدو متكتمون إلى الغاية عن الحكام، فلا يمكنونهم من معرفة أحوالهم؛ خوفا من التعرض لأمورهم، وإدخال قانون القرعة إلى بلادهم، ووضع الضرائب على أملاكهم، فكنت في أول الأمر إذا سألت أحدهم عن أي شأن من شئون قبيلته، أراه ينقبض ويظهر الريبة، وينكر كل علم في الشأن المسئول عنه، أو يجيبني جوابا غير سديد، وكنت إذا نفيت عنه الريبة وآنسته في المقال حاول التخلص من الجواب عن كسل أو ضعف همة، وإذا نشطته واستنهضت همته إلى الجواب أجابني بما عن له صدقا أو كذبا.
صفحة غير معروفة