وانتصروا عليه نصرا مبينا لم تقم له بعده قائمة، وكان ذلك لتعود الرومانيين وخيولهم على منظر الأفيال، واحتفل بالقائد كوريوس الذي كان قائدا للجيوش الرومانية في هذه الموقعة احتفالا عظيما حين عودته إلى رومة، فدخلها على مركبة تجرها أربعة من الأفيال التي أخذت من جنود بيروس ضمن الغنائم، ووصل صدى هذا الانتصار إلى مصر فأرسل ملكها بطليموس الملقب فيلادلف؛ أي محب إخوته، وفدا إلى رومة لتهنئة السناتو والسعي في إبرام معاهدة بين الحكومتين.
هذا؛ أما بيروس فلما لم يبق له أمل في تنفيذ مشروعه عاد إلى بلاده بخفي حنين مع من بقي من جيوشه تاركا في مدينة ترنته حامية قليلة تحت إمرة أحد ضباطه المسمى ميلون وأثار هو نيران الفتن في بلاد مقدونية، ونودي به ملكا عليها ثم قتل سنة 272 عند محاصرته مدينة (أرجوس) بعد أن قضى حياته في الحروب والفتن والسعي للحصول على بقعة من الأرض والتملك عليها.
وبعد انسحاب بيروس ورجاله من بلاد إيطاليا استمرت الحرب بها بين الرومانيين والقبائل الساكنة بجنوب إيطاليا مدة من السنين؛ انتهت بانتصار الرومانيين، واستيلائهم على ما بقي مستقلا بإقليم الجنوب وبلاد اتروريه.
وفي سنة 272ق.م اضطر ميلون قائد حامية ترنته إلى تسليمها للرومانيين وبذلك امتد نفوذهم إلى أطراف الجزيرة الإيطالية وأشرب الشعب الروماني حب الحروب والفتوحات، وصار شعبا حربيا اكتسب جميع الصفات التي تؤهله لذلك في هذه الحروب المستمرة ضد الأجانب، وسنرى فيما يأتي ما وصلت إليه هذه الدولة من الاتساع وبسطة النفوذ حتى امتد ظل لوائها على جميع الجهات المسكونة في ذلك العهد تقريبا، وكانت أول حروبها الخارجية مع حكومة قرطاجة الباقية أطلالها للآن بقرب مدينة تونس الخضراء، ولا بأس من أن نذكر طرفا من كيفية ترتيب الحكومة الرومانية، وما حصل فيها من التغيير والتبديل أثناء المدة التي كانت فيها نيران الحرب مشتعلة لفتح جنوب إيطاليا قبل الشروع في تفصيل حروب رومة وقرطاجة، وبيان تاريخ هذه الدولة التي لم يسبق ذكرها في هذا الكتاب.
إدارة وتنظيم الأقاليم الإيطالية
قد اتبعت رومة مع الأمم التي فتحت بلادها وضمتها إليها سياسة مبنية على الحكمة وبعد النظر والتبصر في العواقب فلم تعاملهم معاملة ملوك وحكومات تلك الأزمان الغابرة لمن تؤخذ بلادهم؛ أي معاملة الاسترقاق والتملك الحقيقي على الأموال والأنفس، ولم تعاملهم بضد ذلك مرة واحدة؛ أي لم تمنحهم جميع ما للرومانيين الأصليين من الحقوق، بل اتبعت طريق الرشاد والسداد وعاملت كل أمة بما يناسبها ويضمن بقاءها ضمن الجمهورية الرومانية مراعية في ذلك بعدها عن مدينة رومة وقربها منها ودرجة ولائها لها، فأعطت القبائل المجاورة لها جميع حقوق الرومانيين ليكونوا حاجزا بينها وبين أعدائها البعيدين، وشكلت منهم اثنتي عشرة قبيلة رومانية جديدة، وبذلك بلغ عددها ثلاثا وثلاثين قبيلة، لكنها وزعت أصوات الانتخاب بينها بكيفية تجعل الأغلبية دائما لسكان رومة الأصليين لحفظ نفوذهم وسيادتهم على باقي الأمم المنضمة إليهم حديثا بطريقة غير محسوسة.
ومنحت لبعض مدن اللاتين امتيازات خصوصية كانتخاب حكامها وقضاتها وتوزيع الضرائب بين أهلها، وسهلت لهم التجنس بالجنسية الرومانية فجعلتها حقا لكل حاكم أو قاض قضى مدة تقلده الوظيفة بكل أمانة وصداقة، ومكافأة لكل من يأتي عملا جليلا نافعا لأبناء وطنه، وغير ذلك من الطرق المسهلة للحصول على ما للرومانيين من الحقوق؛ إذ كانت تمنح باقي المدن والأمم المفتتحة حديثا تارة حق الاتجار مع الرومانيين والتعامل على حسب نصوص القانون الروماني، وأحيانا حق التزاوج معهم وآونة جميع الحقوق إلا حق الانتخاب حسب الظروف، وبالاختصار فإنها لم تتبع مع رعاياها طريقة واحدة، بل طرقا متنوعة تتغير تبعا للأحوال والمقاومة التي حصلت منها وقت الفتح، وبعض الأمم لم تمنح شيئا من ذلك، بل بقيت بالنسبة للرومانيين الأصليين كنسبة غير الأشراف لهم قبل حصول هؤلاء عن جميع الحقوق كما سبق بيانه في موضعه.
واتخذت رومة طريقة أخرى لتأييد سلطتها على هذه القبائل وعدم تمكينهم من التحالف والاتحاد ضدها، وهي أقامة مستعمرات من الرومانيين بين ظهرانيهم تكون كحاميات عسكرية ضد كل طارئ خارجي أو داخلي، ونشر عوائد الرومانيين ولغتهم بينهم من جهة أخرى، وأخيرا بث الدم الروماني في عروقهم بالتزاوج والاختلاط الحقيقي، فيزيد الارتباط بينهم حتى بعد زمن يسير تصير هذه الأمة أو المدينة المغلوبة رومانية حقيقية في الدم والأخلاق واللغة والأفكار والمشارب، وينمحي ما كان بينها من الاختلاف والتباين في جميع ذلك، وتصير سكان الجزيرة الإيطالية أمة واحدة رومانية عزيزة الجانب قوية الشوكة يمكنها الإغارة على ما وراء حدودها من الإيالات والممالك، وصد كل من يتعدى حدودها من الغزاة والفاتحين ولتسهيل المواصلات بين هذه المستعمرات أو النقط العسكرية وبين أطراف البلاد من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب وتشهيل إرسال الجنود إلى أي نقطة يفاجئها العدو أنشأت رومة طرقا عسكرية متسعة ومرصوصة بالأحجار المنحوتة الصلبة، وأقامت الجسور والكباري الحجرية على الجداول والأنهار التي تقطعها هذه الطرق، فكانت فيما بعد من أهم معداتها الحربية كالسكك الحديدية في عصرنا هذا، ولم تزل آثارها باقية للآن في جميع البلاد التي فتحها الرومانيون شاهدة لهم بحسن الإدارة ودقة التدبير.
الحرب البونيقية الأولى
هي الحرب التي دارت رحاها وحمي وطيسها بين الجمهورية الرومانية وجمهورية قرطاجة؛ بسبب ادعاء كل منهما السيادة على البحر المتوسط الذي كان مرسحا لسفن قرطاجة التجارية، تشق عبابه لنقل السلع والمتاجر إلى جميع البلاد والثغور الواقعة على شواطئه، فإن قرطاجة كانت السيدة الوحيدة على هذه الطريق التجارية، ولما ازدادت فتوحات رومة، ووصلت إلى أطراف إيطاليا الجنوبية، واحتلت مدائن ترنته ونابولي وغيرهما من الثغور المهمة، وأخذت في إنشاء السفن الحربية والتجارية؛ خشيت قرطاجة مزاحمتها لها في التجارة التي كانت مورد ثروتها وينبوع غناها، كما كانت أساس حياة بلاد فنيقيه التي خلفتها قرطاجة في مهنة نقل الحاصلات بين الأقاليم وبعضها، مع أنها كانت إحدى مستعمراتها العديدة المنتشرة على سواحل البحر المتوسط وبعض سواحل المحيط الشمالية، ولنذكر هنا لمحا من تاريخها ونظامها قبل تفصيل ما حصل بينها وبين رومة من الحروب التي كانت نتيجتها خراب قرطاجة وسيادة رومة على البحار فقط، بل على جميع أقطار أوروبا وشمال أفريقيا وغربي آسيا، وجعل البحر المتوسط بحيرة رومانية تحيط أملاكها من جميع الجهات فنقول:
صفحة غير معروفة