غادر الركاب سفينتهم إلى الشاطئ، كان عليهم أن ينتظروا تحت الحراسة مبلغ الفدية، في الوقت الذي بعث فيه القراصنة رسلهم إلى أهالي الأسرى. كان المخبأ الذي يعيش فيه القراصنة يتكون من مجموعة من الأكواخ والأخصاص المختفية بين الصخور، بحيث لا يمكن رؤيتها من ناحية الخليج.
لم يجد الخوف طريقا إلى نفس قيصر، وهو الذي اعتاد حياة الراحة والدعة، من جراء تغيير ظروف الحياة، وهو أمر يتفق وتركيبة شخصيته؛ فقد حاول دائما أن يتأقلم مع مثل هذه الظروف. سعى النبيل الشاب للاحتفاظ بقوته وهدوئه النفسي في فترة وجوده في الأسر معرضا نفسه لنظام قاس، دأب قيصر على الاستحمام كل صباح في مياه الخليج ، والقيام بتدريبات رياضية، والقراءة المستمرة في أوقات الفراغ، إلى جانب تدبيجه للخطب ونظمه للشعر. يحكى أن هذه الأمور لم تكن تجد أي اهتمام من جانب القراصنة.
أكسبت السمات الشخصية الخارقة، والسلوك النادر لأسير، أكسبت قيصر احترام ودهشة أعدائه، بينما راح هو يسعى قدر جهده للتعرف عليهم من خلال مراقبته لعاداتهم، ودراسة شخصياتهم. كان يوليوس قيصر ينصت باهتمام إلى قصص مغامرات القراصنة، وكان بدوره يقوم بإلقاء الشعر والخطب البليغة عليهم. كان رد الفعل على هذه الأشعار وتلك الخطب هو الضحك والسخرية، بينما أصيب بعض من الجمهور بالسأم الذي دفعهم للتثاؤب.
استقبل قيصر كل هذا بهدوء حقيقي ورباطة جأش، وكان في بعض الأحيان يرد على تعليقات الجمهور الجارحة بأنهم ليسوا في حالة تؤهلهم لتقدير كل ما في فنه الخطابي من روعة. وذات يوم ألقى ببعض كلمات دخلت التاريخ، قال القيصر: سيأتي يوم تقعون فيه جميعا في قبضة يدي، كونوا على ثقة بأني سأقوم بصلبكم سواء جزاء ما اقترفتموه من جرائم أو لغبائكم. تذكروا ما قلته لكم، واعلموا أني امرؤ أوفي بالعهد.
كان هذا تهديدا كفيلا - بالطبع - لأن يثير حنق القراصنة، إلا أنهم كانوا واثقين من أنفسهم إلى الحد الذي جعلهم يعتبرونه مجرد ذريعة؛ ليضعهم قيصر موضع سخريات جديدة.
بعد مرور ثمانية وعشرين يوما في مخبأ القراصنة عاد المبعوثون بنبأ مفاده أن الفدية، وقدرها خمسون طالنت، قد وصلت، وهي في حياة حاكم مدينة ميليت،
34
على الفور قام القراصنة بنقل الأسرى إلى ميليت، حيث استبدلوا بهم الفدية الموعودة، وما إن حصل قيصر على حريته، حتى قرر أن يحقق نبوءته، فتوجه إلى حاكم المدينة بطلب منه أن يقدم له أربعة زوارق بحرية وخمسمائة جندي.
بعد أن تسلم قيصر السفن، اتجه بها نحو فارماكوزا، وكما هو متوقع، فقد باغت القراصنة في وكرهم أثناء إقامتهم لحفل ماجن أقاموه بمناسبة اقتسامهم للغنائم. لم يكن القراصنة السكارى في حال تسمح لهم بالمقاومة، فاستسلم منهم ثلاثمائة وخمسون لصا طلبوا العفو من المنتصر، عدد قليل من الذين لم تدر الخمر رءوسهم استطاعوا الفرار. أطلق قيصر سراح الأسرى الذين كانوا موجودين بسجن الجزيرة، واستعاد مبلغ الفدية مرة أخرى، بعدها توجه إلى بيرجام،
35
صفحة غير معروفة