وما إن وصلت براميل البارود إلى سفينة القراصنة، حتى سارعوا بعدها بفتح نيران مدفعيتهم على السفينة الإنجليزية، في الوقت الذي كان طاقمها بأكمله يتناول طعام الإفطار في اطمئنان كامل. على أن البحارة الإنجليز سارعوا على الفور بالصعود إلى سطح السفينة، ثم قاموا بفك حبالها، وانطلقوا بها إلى البحر، ثم اشتبكوا في القتال. كان أول من سقط في هذه المعركة البحرية الشرسة هو القبطان كيروزيرس نفسه، فعندما جرحت صدغه شظية، أخذ يحاول إيقاف النزيف الذي أصابه بمنديل يده، وبقي صامدا في موقعه حتى باغتته شظية ثانية هشمت رأسه. من بين خمسة وستين من أفراد طاقم «فايبر»، سقط اثنان وثلاثون بحارا بين قتيل وجريح.
وفي نهاية القرن الثامن عشر، يترك أبناء الشيخ جابر عتبة الأربعة من أهالي البحرين وطنهم، ليجوبوا مياه الخليج الفارسي على سفينتهم عدة سنوات، استقروا بعدها بالقرب من خليج يسمى خور حسن، حيث كونوا عصابات للقرصنة وترأسوها. وفي تلك الفترة لم تكن الدولتان المتنافستان: تركيا، وفارس، تمتلكان أساطيل قوية في هذه المنطقة تمكنهما من تصفية القرصنة العربية التي كانت قواعدها ترتكز في جزيرة قيس (منذ عام 1805م)، وكذلك في رأس الخيمة.
كان سلطان عمان النشيط الذي ظل فترة طويلة يقاوم لصوص البحر من أبناء قبيلة القواسم، هو واحدا من أعدى أعداء القراصنة في شبه الجزيرة العربية. وفي سبتمبر عام 1804م جهز سلطان عمان حملة لمحاربة القراصنة، بعدما بلغ به الغضب أشده نتيجة الهجوم المتكرر على شواطئ سلطنته. وتوجه السلطان على ظهر سفينة عربية صغيرة إلى باسيدا، حيث قرر التسلل من هناك إلى وكر القراصنة برا، وبحيث يتحرك أسطوله في نفس الوقت ببطء متابعا إياه بمحاذاة الساحل، لكن هذه الخطة المفتقدة إلى الحصافة كلفته ثمنا غاليا، فقد خرجت له بغتة من إحدى الخلجان الصغيرة ثلاثة زوارق مليئة بالقراصنة، وبعد معركة لم تدم طويلا سقط السلطان ورجاله قتلى.
كان لموت السلطان أثره في تهدئة القراصنة من قبيلة القواسم الذين قاموا بشن عدد من الهجمات الجريئة على السفن الإنجليزية. وكان الوحيد الذي استطاع إقناع الحكومة الإنجليزية بتنظيم حملة تأديبية ضد القواسم القبطان ديفيد سيتون، الذي كان يعيش في مسقط. قاد سيتون بنفسه أسطول الجزيرة العربية، وشن هجوما مباغتا على جزيرة قيس. وفي السادس من فبراير عام 1806م، وبعد مباحثات طويلة مع قوات الاحتلال البريطاني في بومباي، تم عقد اتفاقية مع القواسم في بندر عباس، التزم القراصنة بموجبها بإعادة السفن الإنجليزية التي كانوا قد استولى عليها، ودفع التعويضات، وعدم التعرض بعد ذلك للملاحة البحرية الإنجليزية، وفي الوقت نفسه سمح لهم بدورهم بالتجارة مع القراصنة الإنجليز، في المنطقة الواقعة بين سوارت والبنغال.
على أن الإنجليز ما لبثوا أن عرفوا على الفور الثمن الحقيقي لعقد اتفاقات مع القراصنة، لقد هاجمت أربع باركات تابعة للقراصنة سفينة إنجليزية تتبع شركة الهند الشرقية بعد الاتفاق مباشرة. وبمضي الوقت لم يعد العرب يخشون السفن الحربية الإنجليزية، حتى إنهم راحوا يهاجمونها بكل وقاحة بعد أن حالفهم النجاح في عملياتهم. وفي أبريل من عام 1808م شن القراصنة هجوما على السفينة الإنجليزية «فيوري»، وحاولوا الاستيلاء عليها بطريقة الهجوم بالمصادمة. كان كل تسليح «فيوري» يتمثل في ستة مدافع مما جعلها تبدو لهم غنيمة سهلة، إلا أن قائدها الملازم جوين أعطى اللصوص درسا لا بأس به .
وفي العام نفسه عاد القراصنة ليهاجموا السفينة الإنجليزية «سليف»، التي كانت في طريق عودتها من بوشير تحرسها سفينتان حربيتان، كان على ظهر إحداهما السير بريدجيس، الذي تم تعينه سفيرا في إنجلترا لدى فارس. وإذا بالسفينة «سليف» التي كانت تسير متأخرة قليلا عن السفينتين الأخريين تجد نفسها فجأة محاصرة بباركات القراصنة. التزم قبطان السفينة الملازم جريم بكل دقة بتعليمات سلطات بومباي، فلم يفتح النار إلا عندما اقتربت الباركات العربية من سطح السفينة، لكن الوقت كان قد تأخر لاتخاذ أي قرار. أباد القراصنة طاقم السفينة المغتصبة بأكمله، والذي بلغ عدد أفراده اثنين وعشرين رجلا. أما جريم فقد أفلت من الموت، فبعد أن أصيب بجرح بالغ في القتال المتلاحم، نجح في خضم الفوضى السائدة أن يسقط في إحدى الفتحات دون أن يلحظه أحد. اتجه القراصنة صوب رأس الخيمة، على أنهم التقوا في طريقهم بالفرقاطة الإنجليزية «نيدييد» التي نجحت في استعادة جريم وسفينته.
وفي العام 1808م نفسه وقع واحد من أغرب الصدمات بين الإنجليز والقواسم، فقد وقعت البارجة «فلاي» التابعة لشركة الهند الشرقية، والمجهزة بأربعة عشر مدفعا إبان وجودها في مياه جزيرة قيس في أيدي القرصان الفرنسي الشهير القبطان ليميم، الذي كان مبحرا على ظهر السفينة «فورتون». على أنه وقبل أن يستولي العدو على البارجة، ألقى قائدها القبطان ماينورانج بالبريد الدبلوماسي، والوثائق، وخزانة السفينة في البحر بعد أن حدد المكان على الخارطة، حتى يعود إليه في أقرب فرصة تلوح له؛ ليستخرج هذه الأشياء الثمينة. اقتيد ماينورانج واثنان من الضباط إلى جزيرة موريشيوس، بينما أطلق سراح باقي أفراد الطاقم في بوشير. ولما كان الضباط الذين نجوا، والموجودون في بوشير يعلمون أن البريد الدبلوماسي القادم من إنجلترا، والذي كان على ظهر البارجة، له أهمية سياسية فائقة، فقد اشتروا قاربا كبيرا، وقاموا على تسليحه، ثم أبحروا به في محاذاة ساحل الخليج باتجاه بومباي.
بعد جهود طويلة نجحوا في انتشال البريد الغارق، على أنهم التقوا عند أحد المضايق المؤدية إلى الخليج الفارسي بسفن القراصنة، مما اضطرهم للدخول معهم في معركة حامية الوطيس، كان للقراصنة التفوق العددي، ومن ثم تم أسرهم واقتيادهم إلى رأس الخيمة، حيث ألقي بهم في السجون أملا في الحصول من ورائهم على فدية كبيرة؛ لكن شهورا عدة مضت دون أن يتقدم أحد بالفدية. عندئذ قرر القراصنة التخلص من هم هؤلاء المساجين. هنا أخبر الإنجليز المحكوم عليهم بالموت زعيم القراصنة أنهم قد أغرقوا في مياه جزيرة قيس كنزا، باستطاعتهم أن يستخرجوه بواسطة غواصين مهرة إذا أطلق سراحهم بالطبع. وقد وافق اللصوص، ما إن وصل القراصنة إلى المكان الذي حدده الإنجليز، حتى أخذوا في الغوص في المياه واحدا بعد الآخر طمعا في الحصول على الغنيمة. وفي لحظة ما، بدا أن السفينة الراسية قد خلت تماما، فقرر الإنجليز أن الفرصة قد سنحت لهم للهرب، غير أن القراصنة الذين يسبحون حول السفينة لاحظوا السلوك الغريب من جانب أسراهم فعادوا إليها، ومنعوهم من الاستيلاء عليها.
على الرغم من هذا الحادث، فقد أوفى القراصنة بعهدهم، فأطلقوا سراح الأسرى بعد أن تمكنوا من العثور على الأموال من خزانة السفينة الإنجليزية. واتخذ الإنجليز مسارهم بمحاذاة الساحل في طريقهم إلى بوشير سيرا على الأقدام. كان الطريق في غاية الصعوبة، كما أنهم لم يكونوا على علم بلغة السكان. والآن، وبعد أن قايضوا كل ملابسهم بالماء والطعام، باتوا يواجهون الموت جوعا وعطشا. اثنان فقط استطاعوا الوصول إلى بوشير: الضابط جوليو، والبحار ببنيل، لكنهما ما إن وصلا في النهاية إلى بومباي ومعهما البريد الدبلوماسي القيم، الذي بذلا من أجل إنقاذه كل هذا الجهد؛ إذ بهما يقابلان بكل برود وغطرسة من جانب المحافظ وانكين، وذلك بدلا من كلمات الشكر والترحاب.
ومع مطلع القرن التاسع عشر كانت القرصنة قد انتشرت في مياه الخليج الفارسي، إلى حد أنها تسببت في انهيار التجارة والملاحة البحرية في هذه المنطقة تقريبا. عندئذ، قررت شركة الهند الشرقية، التي كانت مصالحها قد أضيرت، أن تأخذ على عاتقها محاربة القراصنة على نحو مستقل. فقامت - مستخدمة ما لها من نفوذ كبير - في تنظيم ثلاث حملات ضدهم. قامت الشركة بحملتها الأولى في عام 1806م، تلتها حملتان عامي 1809 و1810م.
صفحة غير معروفة