ولما أصبح الصباح تكلم عبد العزيز: «اسمع يا جابر، من رأيي أن تأمر البدو بالإغارة على سعدون وجماعته، فنبعدهم عنا، ونشغل العدو. إني والله في ريب من أمرهم. أما إذا سيرناهم أمامنا فنأمن خيانتهم.»
لم يستحسن جابر هذا الرأي، وأصر على أن يكون الهجوم عاما، فقال عبد العزيز يخاطب أخاه الأصغر سعدا: «إني لا أرى غير الهزيمة لهذا الجيش، قف معي وقومنا على حدة لنتمكن عند الحاجة من الدفاع عن أنفسنا. اليوم يوم دفاع يا سعد؛ لأن هؤلاء الناس لا رأي لهم ولا هم يقبلون النصيحة.»
عندما رأي جابر أن ابن سعود وقومه اعتزلوا الجيش لامهم قائلا: «أنتم إخواننا والإخوان في الحرب لا يحجمون.» فخجل عبد العزيز وأمر أخاه بالاشتراك في الهجوم.
وكانت الفاتحة للخيل، فأغارت خيالة ابن الصباح وهم مائة وخمسون على خمسمائة من فرسان السعدون. فكر هؤلاء عليهم كرات سريعة شديدة هائلة فانهزموا هزمة شنيعة، وانهزم معهم جابر وجيشه بدون قتال، ولم يبق مع ابن سعود إلا عشرة فقط من الخيالة رجاجيله. أما البقية ففروا مع الفارين، وقد تركوا وراءهم كثيرا من الحلال والمال - من الأمتعة والإبل والخيل - فكانت لجيش السعدون هدية من جيش الكويت. وقد دعيت هذه الوقعة التي جرت في صباح اليوم الأول من جمادى الثانية من هذا العام (10 حزيران 1910) بوقعة هدية.
لحق عبد العزيز بجابر وقومه المنهزمين فأدركهم في عصر ذاك النهار، وقال يهون الأمر عليهم: «هذه عادات الرجال والحرب سجال.» ولكن الشدة أنستهم التهكم. فبينا هم سائرون ضلوا الطريق وكان قد أدركهم فوق الهزيمة الجوع، ولم يكن لديهم شيء من الزاد، ثم جاءتهم رحمة الله؛ فالتقوا بأباعر شاردة من حملة ابن سعود، وهي تحمل شعيرا، فأطعموا الخيل أحمالها، ونحروها ليطعموا أنفسهم. وقد رافقتهم الرحمة في اليوم التالي؛ إذ علم فيصل الدويش بقربهم منه فجاء بأهله يلاقيهم، فنصب الخيام وأضافهم تلك الليلة ضيافة كبيرة، ثم نحر لهم ثانية في الصباح. إن بعد العسر ليسرا، ولكنهم لم ينسوا تلك الهزيمة، بل تلك الهدية. «هدية والله، أخذنا للسعدون هدية.»
أما الشيخ مبارك فعندما بلغته أخبار تلك «الهدية» خرج إلى قصره «السرة» يداوي كلومه، فجاءه ابنه جابر و«ولده» عبد العزيز يهونان الأمر عليه، ولكنه عقد النية على استنفار أهل الكويت ثانية. «سأجمع والله خمسة أضعاف هذا الجيش، وسأحرق المنتفق فلا يبقى منها غير الرماد!»
خطر لعبد العزيز خاطر يمحو فيه كلام ذاك الغضب. كان «العرائف» قد رحلوا من الكويت - «العرائف» الذين استدعاهم مبارك ليصلح بينهم وبين ابن سعود - فارتأى أن يجهز أحد أولاد الشيخ بجيش صغير فيسير عبد العزيز معهم، ويشاع أنهم ساروا يطلبون «العرائف»، فيبلغ سعدون الخبر فيسرح عربانه، «فنعيد الكرة إذ ذاك عليه ونحن مدركوه بحول الله.»
رفض الشيخ مبارك ثانية أن يعمل برأي عبد العزيز، وكان ابن الرشيد قد هجم يومئذ على ابن الهذال وابن الشعلان، وهما حليفان لابن سعود كما تقدم، فأخذهما في جميمة على حدود العراق ونجد. فقال عبد العزيز يستأنف الحديث: «إذا كنت تصر على تجنيد جيش كبير، فأنا أترك عندك رعاياي من عرب مطير وأعود إلى بلادي؛ لأن ابن الرشيد بعد انتصاره على الهذال والشعلان، لا بد أن يزحف إلى القصيم، وأخشى أيضا أن يقوم «العرائف» بحركة في الرياض فيتفاقم الأمر علي. ولا أظنك تريد لي ذلك.»
كان قد أمل الشيخ مبارك أن يغلب السعدون ولو بعون ابن سعود المعنوي، فندم لأنه لم يقبل بنصيحته، فلا يعرض به في مواقف الخطر يوم ضعفه. ندم لأنه لم يهول به تهويلا على العدو ويزدخر الرجل لساعة قوته في الحرب، ولكنه، وقد أدرك هذه الحقيقة الآن، رفع الحجاب عن نفسه المتألمة عند استماعه كلمات عبد العزيز الأخيرة: «إذا رميتني اليوم يا ولدي فليس لدي أحد ينهض بي، فيتمكن مني العدو. أنا والدك يا عبد العزيز ولي عليك حق المساعدة، والبلد بلدك وله عليك حق الدفاع ... ابق عندي ولا تخرج مع الجيش. ابق عندي فأتسلى بوجودك معي.»
أجل، قد تجلت له الحقيقة التي حجبها عنه في أول الأمر الوهم والغرور، وهذه الحقيقة هي أن مجرد وجود ابن سعود عنده مفيد، فطلب منه ذلك وكان في طلبه بليغا ووديعا. - «ابق عندي ثلاثة أشهر فقط.»
صفحة غير معروفة