تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية

علي الشدوي ت. 1450 هجري
35

تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية

تصانيف

تعبر رسالة الكتاب عن جهد سيبويه التجريدي والمنهجي المختلف؛ أي إننا أمام فكر نحوي غريب عن الفكر النحوي المألوف آنذاك. ففي زمن لم تكن فيه المفاهيم النحوية محددة تحديدا جيدا حددها سيبويه بالأمثلة؛ فالاسم كرجل وفرس وحائط، والفعل كذهب وسمع ومكث وحمد واذهب واقتل واضرب ويذهب ويضرب والأحداث (المصادر) كالضرب والقتل والحمد، وما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل (الحروف) ك «ثم وسوف وواو القسم ولام الإضافة».

علام يدل تحديد المفهوم بهذه الطريقة؟ يدل على أن سيبويه يعي ما يفعل فبدأ بالتدريب على المفاهيم. يشبه هذا أن تعلم طفلا؛ في التعليم حين ننطق الكلمة (رجل) لتحل محل إنسان حاضر أمامنا، فإننا نوجه الانتباه إلى المفهوم (اسم)، وليس إلى استحضار الصورة الذهنية للرجل. وسيبويه حين يربط بين الكلمة وبين المفهوم فالهدف ليس استحضار الصور الذهنية للكلمات، مثلما تستحضر كلمة (رجل) صورة ذهنية إنما الكيفية التي تتدرب بها ليعرف المفهوم.

يرتبط هذا الأسلوب في التدريب على المفاهيم عند سيبويه بما يعرف في سيكولوجية التعلم ب «المفاهيم السيئة التحديد»؛ أي تلك المفاهيم التي تكون فيها سمات المفهوم غير واضحة. مثل هذه المفاهيم لا تعلم بالتعريف إنما بالأمثلة. مثلا لم يكن بإمكان سيبويه أن يعرف الاسم بأنه ما يدل على معنى بنفسه من دون أن يرتبط بزمن؛ لأن علم النحو ما زال يبلور مفاهيمه. لذلك فإن ذكر مثال للاسم هو الأسلوب المناسب، وهكذا الفعل والحرف. والمهم بالنسبة لفكرتنا أن تمييز سيبويه بين الاسم والفعل لم يكن تمييزا بإعطاء سمات محددة للمفهومين إنما بإخبارنا بالأمثلة.

يستطيع سيبويه في هذه المرحلة التاريخية من تاريخ النحو أن يورد كلمات مثل رجل وذهب واذهب ويذهب؛ لأن الجماعة النحوية العلمية اعتادت على أن تنظر إليها باعتبارها أمثله للاسم والفعل. أما مفهوما الاسم والفعل فلم تحن اللحظة لكي توصف سماتها المحددة بدقة. والحال أنه من المحال اليوم أن نتكلم عن مفاهيم كهذه من دون أن ندقق في سماتها. إن عددا من شروح كتاب سيبويه لا تتمثل غايتها في شرح وتوضيح ما غمض منه فحسب؛ إنما تتمثل أيضا في متابعة البحث في سمات المفاهيم النحوية وخصائصها المميزة، وإن كان سيبويه لم يذكر سماتها في المستوى نفسه الذي ذكره شراح كتابه فيما بعد، فإن هذا لا يمثل نقصا بقدر ما يكون ميزة تعطي مؤرخ النحو منطقة عمل؛ أعني كشف النحاة عن سمات المفاهيم بصورة تدريجية.

تكون المفهوم النحوي في الكتاب

لا يمكن أن يكون تاريخ النحو غريبا غرابة تامة عن تاريخ علم التفسير وعلم اللغة. والعلاقة بين هذه العلوم الثلاثة لا يمكن أن تتصور في اتجاه واحد؛ وإن كان الاتجاه المعتاد أكثر عند الباحثين هو الاتجاه الذي يسير من التفسير إلى النحو، ويوفر لنا أحد الباحثين أمثلة

17

على أن تاريخ بعض المفاهيم النحوية كالنعت (الصفة) والخبر والاستثناء والعلامة (أثر العامل في المعمول) تجد بدايتها في التفسير، كتفسير مقاتل بن سليمان الذي يعد واحدا من أقدم التفاسير الكاملة التي يمكن أن يتتبع فيه مؤرخ نحوي نشوء بعض المفاهيم النحوية. ويعيد هذا الباحث كون هذه المفاهيم بدأت في التفسير إلى أن علماء البصرة في النصف الثاني من القرن الثاني من الهجرة اهتموا ببنية اللغة بالمقابلة مع بنية النص. وكانوا نشطين كونهم مختصين في تفسير القرآن الكريم، ولكنهم توسعوا في بحوثهم لتشمل الظواهر العامة في اللغة. وقد أثمرت هذه التطورات في أول كتاب عن النحو العربي، وهو الكتاب لسيبويه المتوفى سنة 793 ميلادية.

18

لكي نفهم كيف تكونت المفاهيم التي بدأ بها سيبويه كتابه؛ فلا بد من أن نحدد علاقات التعارض والتكامل بين المفهوم وبين جذره اللغوي، وأن ننصت إلى إيحاءات الفعل. هذه العمليات المعقدة في الانتقال من المعنى اللغوي إلى معنى المفهوم تسمى النقل المعرفي. لقد توجهت بعض الأبحاث اللاحقة إلى تحليل هذه العملية المعقدة، كأبحاث ابن جني في كتاب الخصائص، سأكتفي منها هنا بالبناء. يقول ابن جني: «وكأنما إنما سموه بناء لأنه لما لزم ضربا واحدا، فلم يتغير تغير الإعراب؛ سمي بناء، من حيث البناء لازما موضعه، لا يزول من مكان إلى غيره؛ وليس كذلك سائر الآلات المنقولة المبتذلة، كالخيمة والمظلة والفسطاط والسرادق ونحو ذلك. وعلى أنه قد أوقع هذا الضرب من المستعملات المزالة من مكان إلى مكان لفظ البناء؛ تشبيها لذلك - من حيث كان مسكونا، وحاجزا ومظلا - بالبناء من الآجر والطين والجص.»

صفحة غير معروفة