الفصل الثالث
النحو في حدود العقل
سأذكر بفكرة سوزان لانغر عن الأفكار التي تفرض نفسها على المرحلة تاريخية لتحل عددا من المشاكل. وقد رأينا أن فكرة صيانة اللسان العربي من اللحن هي الفكرة التي فرضت نفسها في مرحلة أبي الأسود التاريخية، وقد حلت مشكلة على قدر كبير من الأهمية للدين وللثقافة وللعرق. تكمل سوزان لانغر بأن الأفكار التي تفرض نفسها تصبح مع الزمن أفكارا مألوفة، وجزءا من المفاهيم النظرية للجيل التالي، وبهذا تنتهي فورة الفكرة. صحيح أن هناك من يتعصب لها ويراها تحل كل المشاكل، لكن الأقل تعصبا سيرى المشاكل التي ولدتها تلك الفكرة.
تبدو فائدة هذا لموضوعنا أن فكرة صيانة اللسان العربي من اللحن أصبحت مع الزمن فكرة مألوفة، وجزءا من مفاهيم النحويين النظرية. صحيح أن هناك من تعصب للفكرة وتمسك بها (أحفاد هؤلاء ما زالوا موجودين إلى الآن)، لكن في مقابل هؤلاء هناك من هم أقل تعصبا كالخليل بن أحمد الفراهيدي الذي أكمل ما بدأه أبو الأسود الدؤلي من شكل أواخر كلمات القرآن الكريم، فرسم شكل العلامات المعروفة لنا الآن كالضمة والفتحة والكسرة. يتزامن هذا مع تنقيط نصر بن عاصم كلمات القرآن الكريم. ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن جو النحو الفكري بدأ يتخفف من الشرطين التاريخي والأيديولوجي؛ حين كانت الوظيفة العملية والمجتمعية عند أبي الأسود ومعاصريه من النحاة تتفوق من حيث الأهمية على الوظيفة المعرفية (الوظيفة النظرية).
1
ترتب على هذا الفرق بين النظرية وبين الممارسة أن كل ما قيل قبل سيبويه عن تعليل النحو، وتسبيب علله إنما كان من أجل قراءة القرآن والشعر؛ أي الممارسة، وليس من أجل النظرية. والحكايات المعروفة التي نقلتها إلينا المصادر عن عبد الله بن أبي إسحاق، وتتبعه اللحن في شعر الفرزدق تشير إلى الممارسة وليس إلى النظرية؛ أي قراءة الشعر. وبالرغم من كل ما قيل عن غزارة علم النحاة واللغويين قبل سيبويه بما فيهم أستاذه الخليل إلا أن الإشكالية؛
2
أي الشكل الذي يجب أن تعرض فيه المشكلات النحوية لم تتغير منذ أبي الأسود الدؤلي. وقد انتظرت سيبويه الذي عرضها في أفق فكر ذلك الزمان والمكان؛ مستغلا انفتاح البصرة على الفكر العقلي.
تأسيس النحو على درب العلم الآمنة
يحسن اللاحقون الابتكارات ويكيفونها مع الوضعيات الجديدة؛ أي مع وضعيات الأزمنة الجديدة وحاجاتها الجديدة.
صفحة غير معروفة