ولما توجه الناتلي نحو خوارزمشاه مأمون بن محمد، اشتغل أبو علي بتحصيل العلوم: كالطبيعي والإلهي وغير ذلك، ونظر في النصوص والشروح، وفتح الله عليه أبواب العلوم، ثم رغب بعد ذلك في علم الطب، وتأمل الكتب المصنفة فيها، وعالج تأدبا لا تكسبا، وعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر، في أقل مدة، وأصبح فيه عديم القرين، فقيد المثل، واختلف إليه فضلاء هذا الفن وكبراؤه يقرءون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسنه إذ ذاك ست عشرة سنة. وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها، ولا اشتغل بالنهار بسوى المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة، توضأ، وقصد المسجد الجامع، وصلى، ودعى الله - عز وجل - أن يسهلها عليه، ويفتح حجر مغلقها له، وذكر عند الأمير نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان في مرض مرضه فأحضره وعالجه حتى برئ، واتصل به وقرب منه، ودخل إلى دار كتبه، وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن، الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها مما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه فضلا عن معرفته، فظفر أبو علي فيها بكتب من علم الأوائل وغيرها، وحصل نخب فوائدها، واطلع على أكثر علومها، واتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة، فتفرد أبو علي بما حصله من علومها، وكان يقال: إن أبا علي توصل إلى إحراقها، لينفرد بمعرفة ما حصله من علومها وينسبه إلى نفسه. ولم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره، إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها التي عاناها، وتوفي أبوه وسن علي اثنتان وعشرون سنة، وكان يتصرف هو ووالده في الأحوال، ويتقلدان للسلطان الأعمال، ولما اضطربت أمور الدولة السامانية خرج أبو علي من بخاري إلى كركانج، وهي قصبة خوارزم واختلف إلى خوارزم شاه علي بن مأمون بن محمد، وكان أبو علي على زي الفقهاء، ويلبس الطيلسان، فقرروا له كل شهر ما يقوم به، ثم انتقل إلى نسا وأبيورد وطوس وغيرها من البلاد. وكان يقصد حضرة الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير في أثناء هذه الحال، فلما أخذ قابوس وحبس في بعض القلاع حتى مات، ذهب أبو علي إلى دهستان، ومرض بها مرضا صعبا، وعاد إلى جرجان، وصنف بها الكتاب الأوسط، ولذلك يقال له: الأوسط الجرجاني، واتصل به الفقيه أبو عبيدة الجرجاني واسمه عبد الواحد، ثم انتقل إلى الري واتصل بالدولة، ثم إلى قزوين، ثم إلى همذان، وتقلد الوزارة لشمس الدولة، ثم تشوش العسكر عليه، فأغاروا على داره، ونهبوها، وقبضوا عليه وسألوا شمس الدولة قتله، فامتنع، ثم أطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة يالقولنج فأحضره لمداواته واعتذر إليه، وأعاده وزيرا، ثم مات شمس الدولة.
وتولى تاج الدولة ولده فلم يستوزره، فتوجه إلى أصبهان، وبها علاء الدولة بن جعفر بن كاكويه، فأحسن إليه، وكان أبو علي قوي المزاج، وتغلب عليه قوة الجماع، حتى أنهكته ملازمته وأضعفته، ولم يكن يداري مزاجه وعرض له قولنج، فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات، فقرح بعض أمعائه، وظهر له سحج، واتفق سفره مع علاء الدولة فحصل له الصرع الحادث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كرفس في جملة ما يحقن به، فجعل الطبيب الذي يعالجه فيه خمسة دراهم منه فازداد السحج به، من حدة الكرفس، فطرح بعض غلمانه في أدويته شيئا كثيرا من الأفيون، وكان سببه أن غلمانه خانوه في شيء، فخافوا عاقبة أمره عند برئه، وكان مذ حصل له الألم يتحامل ويجلس مرة بعد أخرى ولا يحتمي ويجامع، فكان يصلح أسبوعا ويمرض أسبوعا. ثم قصد علاء الدولة همذان من أصبهان ومعه الرئيس أبو علي فحصل له القولنج في الطريق، ووصل إلى همذان، وقد ضعف جدا، وأشرفت قوته على السقوط، فأهمل المداواة، وقال: المدبر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره فلا تنفعني المعالجة، ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرفه، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في ثلاثة أيام ختمة، ثم مات.
وكانت ولادته في سنة 370ه في شهر صفر، وتوفي بهمذان يوم الجمعة من شهر رمضان سنة 428ه ودفن بها.
وكان نادرة عصره في علمه، وذكائه، وتصانيفه، وصنف كتاب الشفا في الحكمة، وكتاب النجاة
Iiber Iiberationis
والإشارات والتنبيهات
Theoremata et exerutationes
والقانون، وغير ذلك كتاب الأدوية القلبية
Medicamenta cordialia
مما يقرب مائة في فنون شتى، وله رسائل بديعة منها: رسالة حي بن يقظان، ورسالة سلامان، أبسال، ورسالة الطير وغيرها. وانتفع الناس بكتبه، وهو أحد فلاسفة المسلمين، وله شعر منها قصيدة في النفس مشهورة.
صفحة غير معروفة