تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر

عمر الإسكندري :: سليم حسن ت. 1357 هجري
35

تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر

تصانيف

ومما ساعد المماليك على القبض على السلطة تمهيدهم الطريق لاتحادهم، باختيارهم زعيما من بينهم وهو حاكم القاهرة، المسمى إذ ذاك «شيخ البلد». وكان المماليك قد تعودوا من قديم الزمان جلب مماليك أحداث وتدريبهم ليكونوا لهم حاشية وأنصارا، فسمحت لهم الدولة بالسير على هذا النظام، فأصبح لزعمائهم من ذلك قوة لم يعد للولاة قبل بدفعها؛ وذلك أن المماليك الأحداث الذين يشرون بالمال كانوا يحررون عادة بعد بضعة أعوام، فيبقون الحرمة لأسيادهم، حتى إذا ولجوا أبواب الرقي وصاروا أنفسهم بيكوات، لا يألون جهدا في تلبية دعوة موالين الأولين متى استمدوا منهم المعونة؛ فكان يكون لشيخ البلد دائما عصبية من مواليه وعتقاه البيكوات يعظم بها شأنه، وصار للمماليك قوة لم يكتفوا باستخدامها في عزل من أرادوا عزله من الولاة، بل أخذوا يطمحون إلى التخلص من السيادة العثمانية جملة، وبخاصة عندما دخلت الدولة في طور التقهقر وشغلت بحروبها مع النمسا والروسيا - كما ذكرنا آنفا.

وتنبه بعض الولاة إلى ما يرمي إليه المماليك؛ فعملوا على دس الدسائس بينهم، وتفريق كلمتهم. وكان المماليك منقسمين إلى أحزاب - أعظمها «القاسمية»، و«الفقارية»

8 - ولم تسلم الطائفتان من عداوة بينهما، فلما عهد بولاية مصر إلى «حسين باشا كتخدا» سعى في تفريقهما، وتفاقمت العداوة بينهما حتى وصلت سنة (1119ه/1707م) إلى حد أثار بين الفريقين حربا استعرت نيرانها ثمانين يوما، وقيل إن المتخاصمين كانوا أثناء هذه المدة يخرجون من القاهرة نهارا للمحاربة، ثم يعودون إليها بالليل فيبيتون فيها كغيرهم من السكان.

وأسفرت هذه الفتنة الطويلة عن قتل شيخ البلد «قاسم بك إيواظ» زعيم القاسمية، فخلفه ابنه «إسماعيل بك»، فأصلح ما بين المماليك ووحد كلمتهم، وصارت لشيخ البلد الكلمة العليا على الوالي؛ فعمل الوالي سرا على تحريض الفقاريين عليه إلى أن قتله أحدهم «ذو الفقار»، فوهب له الوالي ثروة إسماعيل بك، وأسند منصب شيخ البلد إلى «جركس بك» بعد أن فتك بأتباع إسماعيل بك. ويعرف إسماعيل بك هذا بإسماعيل بك الكبير ، ومن آثاره بمصر سبيل ومكتب بجهة سوق العصر القديم بمدخل الداودية وحوش الشرقاوي كانا من أجمل مباني ذلك العصر، وبقي منهما الآن جزء خرب.

ثم استعان ذو الفقار بما آل إليه من الثروة في شراء المماليك وتدريبهم حتى صارت له قوة كبيرة؛ فانتزع السلطان من جركس بك، ووضع نفسه في منصب شيخ البلد، ولكنه لم يلبث أن ثار عليه المماليك وقتلوه، فقبض أحد قواده «عثمان بك» على السلطة، فصار شيخا للبلد بعد أن انتقم لسيده شر انتقام.

سبيل ومكتب إسماعيل بك الكبير (في أيام رونقهما).

وكان عثمان بك ذا مقدرة وبأس؛ فعمل على توطيد السكينة وسهر على حفظ الأمن وإقامة العدل، فحسنت سيرته وأحبه الأهلون، وبقي ذكره بعده زمنا طويلا، حتى إنه لما ثار عليه أعداؤه واضطروه إلى الهروب من مصر صارت الناس تؤرخ حوادثهم بسنة خروجه، فكانوا يقولون: «هذا الأمر حدث بعد خروج عثمان بك بكذا من السنين، وولد فلان في سنة كذا من خروج عثمان بك.»

وسبب فراره من مصر أن قوي في عهده شأن حزبين من المماليك، وهما: «الكردغلية» و«الجلفية»، فاتفق «إبراهيم بك» زعيم الحزب الأول و«رضوان بك» زعيم الثاني على توحيد كلمة حزبيهما، ونزع السلطة من عثمان بك، وجعلها في أيديهما معا، وبعد نزاع طويل بينهما وبين عثمان بك تغلبا عليه، ففر خوفا منهما إلى الشام.

ثم اقتسما السلطة بينهما، واتفقا على أن يشغلا منصبي شيخ البلد وأمير الحج بالتناوب سنة بعد أخرى. ولما رأى الولاة أن السلطة قد سلبت من أيديهم، عملوا على النكاية بإبراهيم بك ورضوان بك، ودبروا لقتلهما مكايد لم يفلحوا فيها، إلا أن البلاد لم تهدأ من الفتن بعد، وبقي أمراء المماليك في هيج على أنفسهم.

هكذا كانت حالة البلاد في هذا العصر الأخير، لا يكاد يفارقها الخلل والفوضى؛ تارة بثوران الجند ومكافحتهم للولاة، وطورا بتنازع المماليك مع الولاة مرة ومع أنفسهم أخرى. وما زالت الحال كذلك حتى قبض على أزمة الأمور أحد المماليك الأقوياء، وهو «علي بك الكبير»؛ فكان ذلك ابتداء حوادث جديدة ذات شأن آخر.

صفحة غير معروفة