128

تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر

تصانيف

ومن ذلك الحين ابتدأ الأهالي في الشام ينفرون من محمد علي، وينظرون إليه بعين العداوة والبغضاء، ولا سيما بعد أن بدل بالحكام الملكيين غيرهم من الجيش، ونشر عساكره في جميع أنحاء البلاد.

ولا يفوتنا أن نذكر أن إخضاع الثورات الداخلية في الشام - التي تبلغ مساحتها أربعة أمثال مساحة مصر الزراعية - وجلب الجنود إليها وما يلزمهم من البلاد المصرية؛ كل ذلك أثقل عاتق الحكومة المصرية وسبب أزمة مالية سنة (1260ه/1844م).

وفي أثناء هذه الفتن الداخلية في بلاد الشام كان السلطان محمود الثاني يريد منازلة محمد علي، آملا استرجاع ما فقد؛ ففي سنة (1249ه/1834م) احتج على دول أوروبا العظام التي كانت تمنعه عن الدخول في الحرب مع خصمه محمد علي لتخليص رعاياه من ظلمه. فلما علم محمد علي بنية الباب العالي أعلن للدول أنه إذا ظهر الأسطول العثماني في جنوب جزيرة رودس، فإنه لا يرى مندوحة من مهاجمته وإعلان عدم الطاعة والإذعان للخليفة. فصرحت الدول العظام بأنها ستكون ضد المعتدي؛ ولذلك خاف كل من الفريقين، وأجل إعلان الحرب مدة ست سنوات. ولكن بالرغم من كل ذلك بقي كلا الجانبين يستعد للحرب.

أما الروسيا التي كان الباب العالي يعتمد على مساعدتها، فإنها أحجمت عن الخوض في هذا المشروع الذي لم تتحقق من حسن عواقبه؛ لأن قيصر الروس ابتدأ يدرك أنه إذا شرع في إنفاذ شروط معاهدة هنكار إسكله سي، قامت في وجهه دول أوروبا وأخضعته بحد السيف. فإن دول أوروبا الكبرى وخاصة إنجلترا وفرنسا والنمسا كانت تحذر تدخل الروسيا، وأخذت على عاتقها أن تمنع استنجاد الدولة العلية بها، سواء أكان الاعتداء من السلطان على محمد علي أم من محمد علي عليه.

ومما شجع الباب العالي الأخبار التي كانت تأتيه عن تمرد أهل الشام، وعدم رضاهم بحكم إبراهيم باشا، وعن انهزام المصريين شر هزيمة أمام عرب «حوران» في سنة (1254ه/1838م)؛ ولذلك ابتدأ في استعداده البري والبحري بهمة جديدة.

وكان محمد علي في هذه الأثناء في رحلته إلى بلاد السودان (1254ه/1838م) ليقف على حقيقة كنوز الذهب التي كان يمني نفسه أن يستعين بها على شن الغارة على السلطان إذا اضطره الحال إلى ذلك.

وفي (ذي القعدة سنة 1254ه/يناير سنة 1839م) عقد الباب العالي مجلسا حربيا قرر فيه تجهيز 80000 جندي بقيادة حافظ باشا. فلما علم سفراء الدول بذلك اضطربوا وخافوا من ضياع الدولة؛ لأن فرنسا وإنجلترا والنمسا كانت لا تزال تخاف من تدخل الروسيا تنفيذا لمعاهدة هنكار إسكله سي.

وفي 22 يناير عقد الباب العالي مجلسا آخر لتقرير الحرب أو السلم، انتهى بتقرير محمود الثاني أخيرا إعلان الحرب؛ وذلك لأن حافظ باشا كان يمنيه بالنصر، ورشيد باشا - الذي كان في هذه الآونة قائما بتأدية مأمورية خاصة في باريس ولندن - صرح للباب العالي خطأ أن كلا من إنجلترا وفرنسا لا تتعرضان للسلطان إذا هو هاجم محمد علي.

قفل محمد علي راجعا من سنار عندما علم من عباس بن طوسون - وكان نائبا عنه في مصر - بالاستعدادات الحربية التي كانت قائمة على قدم وساق في القسطنطينية، ولما وصل إلى القاهرة كتب منشورا وأرسله إلى جميع سفراء الدول معلنا فيه أنه بريء من كل هذه المشاكل، وأن لا بد له من مقابلة القوة بالقوة. ولما وصل هذا المنشور إلى يد السلطان احتدم غيظا وشدد في الإسراع بتجديد الحملة، ومن فرط حنقه قال: «إني أفضل الموت على التراخي في إخضاع هذا العاصي.»

أما محمد علي فإنه أراد أن يداهم الدولة قبل أن تتم إعداد جيشها الذي كان يقوم بأمر تنظيمه القائد «فون ملتك» وضباط آخرون من الألمان. وحدث أن الحكومة الإنجليزية أبرمت مع الدولة في ذلك الحين معاهدة تجارية تتعلق بجميع ممالك الدولة؛ فكانت ضربة قاضية على آمال محمد علي التجارية؛ لأنه كان محتكرا كل التجارة المصرية كما سبق، فلما علم بذلك محمد علي هدد الدولة بإعلان استقلاله، ولو تم له ذلك لكان الضربة القاضية على الباب العالي؛ إذ كان في ذلك نزع سيادته الاسمية والفعلية حتى من بلاد الحجاز مصدر زعامته الدينية. إلا أن الحكومة الإنجليزية أنذرت محمد علي بواسطة سفيرها في مصر المستر «كمبل» أنه إذا شرع في ذلك كانت إنجلترا خصمه.

صفحة غير معروفة