123

تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر

تصانيف

أن يطلق محمد علي سراح الأسرى اليونانيين الذين بيعوا في مصر، وأن تتخلى الجيوش المصرية عن «المورة» في أقرب وقت، بحيث ينقلهم محمد علي على سفنه، وأن يخفر الأسطول الإنجليزي السفن المصرية في ذهابها وإيابها، وأن يتعهد «كدرنجتون» بإرجاع أسرى المصريين وسفنهم التي أخذت منهم أثناء الحرب.

ويقال إن محمد علي وافق على هذه الشروط بدون معارضة كبيرة، خصوصا لما وصله من الأخبار أن الباب العالي أراد أن يقبض على جنوده؛ إذ أصدر الأوامر إلى قائد الأسطول التركي أن يدعو الجنود المصرية إلى النزول في سفنه بدعوى أنه يريد نقلهم إلى الإسكندرية - وهو مأمور سرا أن يرسلهم إلى الدردنيل. والسبب في نصب هذه الأحبولة التي فطن لها إبراهيم باشا وتجنبها أن الباب العالي هاله نجاح محمد علي في «المورة» برا، فخشي بأسه وخاف على ملكه.

فأخلى إبراهيم باشا بلاد «المورة» في (ربيع الأول سنة 1244ه/أكتوبر سنة 1828م). ولما كان السلطان محمود الثاني لا يزال مصمما على رفض تحرير بلاد اليونان أعلنت عليه الروسيا الحرب سنة (1245ه/1829م) وهزمت جيوشه في عدة مواقع فاصلة، فلما رأى السلطان ذلك اضطر إلى إبرام معاهدة «أدرنة» في السنة نفسها، وكان من أهم شروطها تحرير بلاد اليونان واستقلالها استقلالا تاما. (6) حرب الشام

بعد أن وضعت حرب اليونان أوزارها ورجعت الجنود المصرية إلى بلادها، طلب محمد علي من الباب العالي أن يوليه على عكاء علاوة على ولاية مصر مكافأة له على مساعدته في هذه الحرب، كما وعده بذلك من قبل، فرفض طلبه، فلما أعلنت الروسيا الحرب على الدولة في عام (1245ه/1829م) لم يهتم محمد علي بإجابة طلب السلطان أن يمد الدولة بجيش مؤلف من 20000 مقاتل وبعمارته البحرية؛ إذ رأى أن لا فائدة تعود عليه وعلى بلاده من إفناء ثروتها ورجالها في مساعدة دولة تضن بمكافأته على جليل خدماته.

ولاحظ محمد علي حينئذ أن الأحوال ملائمة لأن ينال بحد السيف ما مناه به الباب العالي، وأن هذه أحسن فرصة لديه؛ إذ كانت الدولة في هذه الفترة في منتهى الضعف والانحلال لتشتيت السلطان محمود شمل العساكر الإنكشارية، وفتكه بهم جملة في عام (1241ه/1826م) على يد حسين باشا - كما قدمنا - ولتضعضع الجيوش التركية لما حل بها من الانهزام الأخير على يد الروس في حرب عام 1829م.

ولم يكن أمام محمد علي إذ ذاك معارض من دول أوروبا العظام؛ إذ كان كل منها مشتغلا بما في بلاده من الاضطراب والفتن؛ فكانت فرنسا منهمكة في إطفاء نار «ثورة يوليو سنة 1830» وإنجلترا مغلولة اليدين من جراء الاضطرابات التي قامت من أجل قانون الإصلاح، وكانت الثورة مشتعلة في بلجيكا وإسبانيا والبرتغال. أما الروسيا فكانت مشغولة أيضا بإخضاع ثورة «بولندا».

ومما ساعد في فساد العلائق بين محمد علي والدولة أن خسرو باشا كان حينئذ أكبر رجال الدولة نفوذا ؛ إذ كان هو المدبر للخليفة وقطب السياسة في القصر السلطاني، ولا يخفى ما في صدره من الحقد والبغضاء لمحمد علي من يوم خلعه عن ولاية الديار المصرية عام (1218ه/1803م) كما سبق آنفا. فصار همه الوحيد طول حياته إيغار صدر الخليفة على محمد علي، والعمل على ثل عرشه. وكان له في ذلك غرضان؛ الأول: أن ينتقم لنفسه منه، والثاني: أن يحظى هو بولاية مصر؛ ولذلك لما نصب خسرو أمير البحر للعمارة التركية في حرب اليونان لم يساعد إبراهيم باشا تمام المساعدة، بل عمل جهده على إفناء الجيش المصري بعد الحرب بالمكيدة التي لم تفلح - كما ذكرنا.

وكانت حالة الفلاح المصري في هذه الفترة غاية في الشقاء والبؤس؛ إذ أثقل عاتقه محمد علي بالضرائب، وبتسخيره في حفر الترع، وتجنيده تجنيدا إجباريا، وقد أثرت هذه العوامل فيه تأثيرا سيئا؛ فكان يهلك من المصريين الآلاف في حفر الترع وتحت تعذيب محصلي الضرائب. ولما ضاقت الحال واشتد الكرب بالناس هاجر خلق كثير من سكان الوجه البحري إلى بلاد الشام هربا من مظالم الحكام. ورجا محمد علي من «عبد الله الجزار» والي عكاء إرجاع كل من هاجر إلى مصر ثانية، فحرضه خسرو باشا على ألا يجيب طلبه، ولما لم تجد مساعي محمد علي عند والي عكاء هدده بإعلان الحرب عليه. وزيادة على ما سبق كان عبد الله الجزار قد شجع المصريين على نقل حاصلات الوجه القبلي بطريق صحراء سورية بدلا من تصديرها عن طريق الإسكندرية؛ فكان ذلك مضرا بمصالح محمد علي.

عند ذلك لجأ عبد الله الجزار إلى الباب العالي ليوقف محمد علي عند حدوده، وأن لا يتدخل في شئون ولاية عكاء، فأرسل الباب العالي إلى محمد علي بأن المصريين ليسوا عبيده، بل هم أحرار يسكنون أنى شاءوا، وفي أي جزء من أجزاء الدولة أرادوا.

وفي هذه الآونة جرت مفاوضات بين رئيس الوزارة الفرنسية ومحمد علي بشأن غزو بلاد الجزائر بأسطول فرنسي مصري، فاقترح محمد علي على فرنسا أن تسلمه أسطولها ليكون بقيادته، ويتعهد هو بإخضاع «داي» الجزائر، فلم تقبل فرنسا ذلك. وخاف أيضا محمد علي من أن تفتح فرنسا الجزائر، فتمتد الفتوح الفرنسية شرقا وتكون خطرا على مصر. هذا إلى أن ولنجتون الإنجليزي أعلنه أن أي تدخل منه في أمر بلاد الجزائر يكون مدعاة إلى خلعه. ولما علم الباب العالي بذلك حض محمد علي أيضا على عدم التدخل في هذا الأمر وهدده بالخلع، ثم علم محمد علي بعد ذلك أن السلطان على وشك أن يخلعه لما سبق، فأعلن الحرب عليه خوفا على ضياع ملكه.

صفحة غير معروفة